عن مؤسسة دار الجديد صدرت رواية المرحوم ميشيل كيلو مزار الدب. وكنا قد قرأنا له روايته دير الجسور وكتابه من الأمة إلى الطائفة وكتبنا عنهما.
ميشيل كيلو الشخصية الحاضرة في وجدان السوريين بصفته واجه النظام الاستبدادي المجرم السوري عبر نصف قرن تقريبا. وكان في مقدمة المتحركين سياسية ومجتمع مدني قبل ثورة السوريين التي حصلت في ربيع ٢٠١١م وبعدها لحوالي العقد من الزمان. لأجل تحقيق الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية في سوريا حتى آخر لحظة من عمره.
مزار الدب ودير الجسور روايتان كتبهما ميشيل كيلو في سوريا بين عامي ١٩٨٨ و١٩٩٠م. ولم ينشرهما وقتها. وبعد الثورة نشر دير الجسور عام ٢٠١٩م. أما مزار الدب فقد كانت مفقودة، ومن حظ السوريين أن ابنته شذا قد وجدتها بين أوراق أبيها ونشرتها.
تبدأ الرواية من عالم غرائبي يتداخل فيه الموروث الشعبي من سحر وشعوذة وحكايا الجدات. كما أنها تتحدث عن بلدة اسمها مزار الدب، لا تجد ما يطابقها في واقع بلداتنا السورية. بلدة وادعة تعيش على الحكايا الخارقة التي تفسر لهم حقيقة ما حصل ويحصل في بلدتهم. بشر فقراء يعملون بالزراعة، فيهم ساحرة ضرورية لمعالجة متغيرات الحياة وحل مشاكل الناس. بالتناوب والتعاون والصراع مع الجنيداتي شيخ القرية التقليدي الذي يدلهم على الحلال والحرام والممنوع والمسموح. وفيها قليل جدا من المثقفين نموذجهم نايف الملقب المفذلك من قبل الناس تهكما وسخرية، ويوجد ابراهيم العاصي رمز القوة والفتوة والحميّة في البلدة.
كما يتواجد في البلدة الكثير من الوقائع التي شكلت أحاجي للناس. بجوار البلدة مغارة، يخافها الناس ويهابون أن يقتربوا منها اسموها مغارة الضبعة، هذه المغارة التي أخبرت جدة الراوي انها اختطفت الصبية زهرة جميلة مزار الدب ولم تعد بعدها. كما خطفت بعد زمن كلثوم الفتاة الاجمل من الجيل الجديد. ولم يُعرف ما هو مصيرها… وخطفت الفتاة عبلة ايضا.
يوجد في البلدة أحد أبنائها حمدان ظهر بقوة رويدا رويدا بصفته رجل دين عارف، حاضر البديهة و مطلع على واقع البلدة من كل جانب . لحمدان حياة سرية سنعرفها اول بأول فهو الذي خطف زهرة وبعدها كلثوم بعدها عبلة التي جعلهم جواري او زوجات له وكان يخفيهم في مغارة الضبعة. وهذا يعني أنه كان يصنع لأهل البلدة فزاعة ليخافوا منها وعندما يعود للبلدة سيجد بين يديه حكايا يستفيد منها للهيمنة عليهم.
حمدان هذا العارف لحياة أهل بلدته، بدأ يتغلغل من نقاط ضعفهم ليسيطر عليهم نفسيا ومعنويا وماديا بعد ذلك. لقد اقنع المحيطين به بأنهم مصابين بما هم فيه من واقع المزار المزري والمغارة والضبعة و بأن السبب بعدهم عن الدين الصحيح القويم. الذي يعبّر هو عنه. حارب الساحرة والشيخ الجنيداتي لأنهما يأخذان مساحة من عقل ووجدان الناس وأسقطهم من اهتمامهم.
بدأ بنشر اعتقادات ادعى أنها هي الصواب وان هذه الاعتقادات تتطلب مواقف سلوكية من المؤمنين بها وذلك لتحسين شروط حياتهم و يضمنون النجاة في الآخرة. وان هذه العقائد تتطلب ان يتوحد الناس في ملكيات أراضيهم ويسلمونها للشيخ حمدان وهو يديرها لهم ومن جهدهم. ولكي تنجح خطته معهم فقد ميز بعضهم وكوّن منهم مجلس المنتقين التابعين له مباشرة ولهم حضورهم. كما شكل جمعية الاحلام والاوهام ونسّب لها كل من تبقى من أهل البلدة ، وأصبح كل من هو خارج المجلس والجمعية منبوذ ومرفوض اجتماعيا…
توسع الشيخ حمدان في بسط سيطرته على وعي الناس و حياتهم وأرزاقهم. فقد انتظم العمل في المجلس والجمعية. وفوق ذلك انتقى الشيخ حمدان من البلدة أحد ابنائها المحامي المنبوذ اجتماعيا والمسمى نايف المتفذلك. وأعطاه مهمة تصدير صورة الشيخ حمدان للناس، فصار لسان حال الشيخ حمدان ورويدا رويدا أصبح لقبه الاستاذ وأصبح له حضور وكلمة مسموعة. فهو صوت الشيخ حمدان…
كما كان في البلدة قبضاي وفتوة البلدة ابراهيم العاصي. المعتد بقوته الجسدية، التي يستخدمها لتحقيق مصالحه أو لفض بعض النزاعات وكانت نظريته أن العصا هي التي تسهل التعامل مع الناس وتجعلهم مطيعين.
غير ذلك لم يكتفي الشيخ حمدان بكل هذه المكتسبات فقد بدأ بصناعة اسطورته كنبي مرسل من الله. ثم اصبح يسمي نفسه الهادي احد اسماء الله الحسنى. والناس لقبهم المهتدي برسالته وربوبيته . واصبح اهل البلدة عبيده ومهمتهم عبادته وتلبية مطالبه. يقنعهم عبر المتفذلك، ويقمعهم عبر ابراهيم العاصي.
كما تطور حضور حمدان الهادي إمام أهل البلدة، فهو لا يظهر بالمباشر بل فقط عبر أداته الناطقة باسمه الاستاذ المتفذلك. وعبر ابراهيم العاصي القوة الباطشة باسمه والمسمى الناطور.
حتى هذين الاثنين لم يعودا يريانه بل يسمعان وحيه صوتا او استنتاجا من حركاته سواء في نومه وصحوه أو اعتكافه…
لقد فقدت البلدة ذاتيتها ومعرفتها بنفسها. كل عن نفسه من هو ومن اهله ومن زوجته ومن اولاده. أصبحوا آلات فاقدة الذاكرة تعمل في ماكنة الهادي ربهم ليل نهار لا عمل لهم إلا العمل وتلبية حاجات الهادي وتحقيق مصالحه عن طيب خاطر…
تنتهي الرواية عندما يراجع نفسه الأستاذ المتفذلك المنظر للهادي. حيث راجع تاريخه بصفته يمثل المثقف الذي قدم الحجج تلو الحجج ليقنع الناس بشيخهم ثم نبيهم ثم إلاههم الهادي. وأن لا أمل لديه للتراجع عن دوره. لن ينجح بالتراجع ويعاقبه الهادي عبر الناطور يده الباطشة. ثم ألم يجعل الهادي نايف المتفذلك الذي كان نكرة في البلدة في الماضي وأصبح رجلها المفوه وعقلها الراجح . مع كل ما يقترن بذلك بمكتسبات له.
في التعقيب على الرواية اقول:
لا نستطيع أن نغض الطرف عن أن الرواية كتبت في تسعينات القرن الماضي. حيث كان الهامش السياسي المعارض في سوريا معدوم ومقموع، ولم يكن ميشيل كيلو خارج قمع أجهزة الأمن واعتقاله المتكرر واستدعاءاته الامنية شبه الدائمة. حيث كان نظام الاسد الاب قد خرج منتصرا على الشعب السوري الذي تحركت قواه السياسية المعارضة في ثمانينات القرن الماضي، ومنهم ميشيل كيلو مطالبين بإسقاط الاستبداد وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية العادلة. لكن كان مصير الحراك القتل والاعتقال وتدمير المدن حماة وحلب وجسر الشغور… الخ. وأعاد النظام سوريا جمهورية رعب…
في ذلك الوقت الخطير كتب ميشيل كيلو روايته. التي فضح بها النظام. …
الهادي الاسد الاب ومجلسه المنتقى حزب البعث أداته السياسية الطيّعة، والتعاونيات بأنواعها فلاحين عمال وحتى مجلس شعب كلها أدوات الاسد الاب لترسيخ ألوهيته في سورية وتحويلها لمزرعته الخاصة له وللعائلة والعصبة الطائفية المستفيدة منه ومن مكتسباته….
كذلك تسلط الرواية على العمود الآخر لحماية الحكم وتثبيته وهو الأمن والجيش عبر التحدث عن الناطور العاصي ورمزه العصا.
نعم وإن حاول بعض مثقفي النظام بعد ذلك أن يكون له مراجعات سرعان ما يبطش بها الاسد الاب…
اما لماذا لم ينشر ميشيل روايته المكتوبة قبل عقدين ونصف من ضياعها. فسببه واضح لقد كانت هذه الرواية مبرر اعدام للمفكر الفذ ميشيل كيلو…
نحمد الله ان ابنته شذا قد وجدت الرواية ونشرتها.. وهذا مهم لأنها بذلك تقول ان الكثير من المعارضين السوريين لم يصمتوا إلا على مضض… وأنه عندما تحين الفرص يخرج ابداع السوريين ليفضح واقع النظام المستبد المجرم في عهد الأب والابن…
رحمك الله مفكرنا ميشيل كيلو المحترم …