حرب لا نصر فيها || واشنطن تحتاج إلى خاتمة في أوكرانيا

سامويل شاراب

ألقى الهجوم الروسي على أوكرانيا، في فبراير (شباط) 2022، ضوءاً كاشفاً على الولايات المتحدة وحلفائها. والمهمة العاجلة -التي ألحت- هي مساعدة أوكرانيا على مواجهة العدوان الروسي، ومعاقبة موسكو على تجاوزاتها. وعلى رغم وضوح الرد الغربي منذ البداية، يكتنف الغموض خاتمة هذه الحرب.

والحق أن هذا الغموض ميزة في سياسة الولايات المتحدة فوق ما هو عيب. وعلى حد قول مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، في يونيو (حزيران) 2022، “أحجمنا في الواقع عن تصور ما نراه خاتمة لهذه الحرب… وأولينا اهتمامنا، عوضاً عن ذلك، لما يمكننا فعله اليوم وغداً والأسبوع المقبل من أجل تعزيز موقف الأوكرانيين إلى أقصى حد ممكن، أولاً في ساحة المعركة ثم، في نهاية المطاف، على طاولة المفاوضات”. واعتبر هذا النهج منطقياً في الأشهر الأولى من الصراع، إذ كان مسار الحرب بعيداً من الوضوح في تلك المرحلة. وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لا يزال يتحدث عن استعداده للقاء نظيره الروسي، فلاديمير بوتين. وخلافاً لما عليه الوضع اليوم، لم يكن الغرب بدأ بتزويد كييف بأنظمة صاروخية أرض- أرض متطورة، ناهيك بالدبابات والصواريخ البعيدة المدى. وإلى ذلك، كان يصعب على الولايات المتحدة التحدث عن وجهة نظرها في أهداف حرب لا تخوضها قواتها. فالأوكرانيون هم من يموتون من أجل بلدهم، لذا هم من يقررون في النهاية متى يتوقفون، بغض النظر عما قد تريده واشنطن.

ولكن الوقت حان الآن لكي تضع الولايات المتحدة تصوراً لطريقة انتهاء الحرب. ومضي 15 شهراً من القتال أظهر أن كلا الطرفين لا يملك القدرة على إحراز نصر عسكري حاسم على الآخر، حتى بمساعدة خارجية. وبغض النظر عن المساحة التي يمكن للقوات الأوكرانية تحريرها، في وسع روسيا على الدوام تهديد أوكرانيا. وفي مستطاع الجيش الأوكراني، نظير ذلك، تهديد أي منطقة قد تحتلها القوات الروسية في البلاد، وإلحاق الخسائر بالأهداف العسكرية والمدنية داخل روسيا نفسها.

وقد تؤدي هذه العوامل إلى صراع مدمر يمتد لسنوات، ولا يفضي إلى نتيجة حاسمة. فالولايات المتحدة وحلفاؤها اليوم أمام منعطف في شأن استراتيجيتهم المستقبلية. ويمكنهم البدء في محاولة توجيه الحرب نحو نهاية تفاوضية في الأشهر المقبلة، ويمكنهم فعل ذلك بعد سنوات من اليوم. وإذا قرروا الانتظار، فمن المرجح أن تبقى أسس الصراع على حالها، إلا أن كلفة الحرب، البشرية والمالية، وغيرها، تكون قد تضاعفت. وعليه، تقتضي استراتيجية فعالة، في ما أصبح أكثر الأزمات الدولية خطورة في أثناء جيل في الأقل، تتطلب من الولايات المتحدة وحلفائها تغيير تركيزهم، والشروع في تسهيل بلوغ الحرب نهايتها.

ما لا يمت إلى الفوز بصلة

منذ نهاية مايو (أيار)، أعد الجيش الأوكراني لشن هجوم مضاد كبير. وبعد أن نجحت كييف في عمليتين سابقتين، في خريف عام 2022، وبالنظر إلى الطبيعة غير المتوقعة لهذا الصراع بشكل عام، يحتمل أن يؤدي الهجوم المضاد إلى مكاسب ذات مغزى.

وينصب اهتمام صانعي السياسة الغربيين في المقام الأول على تقديم كل ما يلزم من معدات عسكرية واستخبارات وتدريب من أجل تحقيق ذلك. ومع التقلبات في ساحة المعركة، قد يجادل بعضهم بأن الوقت الحالي ليس مناسباً لبدء الغرب مفاوضات على إنهاء الحرب. ففي نهاية المطاف، يستنزف منح الأوكرانيين فرصة لشن هجوم ناجح، موارد الحكومات الغربية، ولكن سير الأمور على خير ما يرام، لن يؤدي بالهجوم المضاد إلى نتيجة عسكرية حاسمة، بل إن العمليات الكبيرة على الجبهات لن تؤدي حتماً إلى حسم الصراع.

وعلى العموم، لا تنتهي الحروب بين الدول عندما تجبر قوات أحد المتحاربين على الانسحاب ما وراء خطوط معينة على الخريطة. وغزو الأراضي في حد ذاته، أو استردادها، ليس شكلاً من أشكال إنهاء الحرب. ومن المحتمل أن ينطبق الأمر نفسه على أوكرانيا: حتى لو نجحت كييف، في شكل يفوق كل التوقعات، وأجبرت القوات الروسية على التراجع إلى الحدود الدولية، فلن تتوقف موسكو بالضرورة عن القتال، ولكن قلة في الغرب يتوقعون إنجاز نتيجة كهذه في أي وقت، وبالأحرى في القريب العاجل. وعوضاً عن ذلك، فالتوقعات المتفائلة للأشهر المقبلة هي أن يحقق الأوكرانيون بعض المكاسب في الجنوب، وينجحوا ربما في استعادة أجزاء من منطقتي زابوريجيا وخيرسون، أو في صد الهجوم الروسي في الشرق.

ولا شك في أن هذه المكاسب المحتملة حيوية، وهي طبعاً أمر مرغوب فيه، لأنها ستؤدي إلى تقليص عدد الأوكرانيين الذين يعانون أهوال الاحتلال الروسي التي لا توصف. وقد تستعيد كييف السيطرة على أصول اقتصادية مهمة، مثل محطة زابوريجيا للطاقة النووية، وهي الكبرى في أوروبا. وتتلقى روسيا صفعة أخرى لقدراتها العسكرية ومكانتها العالمية، وتتعاظم الكلف الناجمة عما يسفر عن كارثة استراتيجية تصيب موسكو.

وإلى هذا، تعقد العواصم الغربية الأمل على أن تحمل مكاسب كييف في ساحة المعركة بوتين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأن تؤدي انتكاسة تكتيكية أخرى إلى إضعاف تفاؤل موسكو باستمرار القتال، ولكن على نحو ما فإن فقدان السيطرة على الأرض لا يعني خسارة الحرب، فهو لا يؤدي بالضرورة إلى انتزاع تنازلات سياسية. وفي وسع بوتين الإعلان عن دور تعبئة، أو تكثيف حملة القصف على المدن الأوكرانية، أو رفض الرضوخ للضغوط والصعوبات، وهو على يقين بأن الوقت يعمل لمصلحته وعلى خلاف مصلحة أوكرانيا. وقد يستمر في القتال على رغم اعتقاده أنه خاسر في النهاية. وقد اختارت دول أخرى مواصلة القتال على رغم اعترافها بحتمية الهزيمة: شأن ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال. وبعبارة وجيزة، لا تؤدي المكاسب في ساحة المعركة وحدها إلى إنهاء الحرب بالضرورة.

هل المهمة مستحيلة؟

بعد أكثر من عام من القتال، ينصرف الانتباه إلى الاتجاه المحتمل الذي قد تسلكه هذه الحرب. ويعد موقع خط المواجهة جزءاً مهماً من المسألة، لكنه ليس كذلك. فالجوانب الرئيسة لهذا الصراع تنطوي على شقين: التهديد المستمر الذي سيشكله كل جانب للآخر، والنزاع غير المحسوم على مناطق أوكرانيا التي طالبت روسيا بضمها. ومن المرجح أن يظل هذان الشقان ثابتين طوال السنوات العديدة المقبلة.

فقد بنت أوكرانيا قوة عسكرية مقاتلة مثيرة للإعجاب بمساعدات بلغت عشرات المليارات من الدولارات، وتدريب مكثف، ودعم استخباري من الغرب. ويسع القوات المسلحة الأوكرانية تهديد مناطق الاحتلال الروسي. وتملك كييف القدرة على ضرب روسيا نفسها، على ما أثبتته خلال العام الماضي.

وفي مستطاع الجيش الروسي، طبعاً، تهديد الأمن الأوكراني. وعلى رغم أن قواته المسلحة تكبدت خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، يستغرق التعافي منها سنوات، فإنها لا تزال قوة ضخمة. وهي تثبت، يومياً، على رغم وضعها الحالي والمزري، قدرتها في أن تتسبب في إنزال موت ودمار كبيرين في القوات العسكرية الأوكرانية والمدنيين على حد سواء. وربما باءت حملة تدمير شبكة الكهرباء الأوكرانية بالفشل، لكن موسكو لا تزال قادرة على ضرب المدن الأوكرانية من الجو والبر وسلاح البحر، في الوقت الذي تشاء.

وبعبارة أخرى، أياً كان خط الجبهة، لن تعدم روسيا وأوكرانيا القدرة على تهديد الواحدة الأخرى. وتدل دروس العام الماضي على أن أياً منهما لا يمتلك القدرة على إحراز نصر حاسم، وهذا إذا افترضنا أن روسيا لن تلجأ إلى أسلحة الدمار الشامل (مع العلم أن حتى هذا قد لا يضمن النصر). وفي أوائل عام 2022، عندما كانت قواتها في وضع أفضل بكثير، لم تستطع روسيا السيطرة على كييف، أو إطاحة الحكومة الأوكرانية المنتخبة ديمقراطياً. وفي هذه المرحلة، يبدو أن الجيش الروسي غير قادر حتى على السيطرة على المناطق الأوكرانية التي تدعي موسكو السيادة عليها. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أجبر الأوكرانيون الروس على التراجع إلى ضفة نهر دنيبرو الشرقية، في منطقة خيرسون. واليوم، ليس الجيش الروسي في حال تمكنه من العودة مرة أخرى إلى الجهة المقابلة للنهر، والسيطرة على ما تبقى من منطقتي خيرسون وزابوريجيا. ومحاولته التقدم شمالاً، في يناير (كانون الثاني)، في سهول منطقة دونيتسك، بالقرب من فوهليدار، وهو هجوم أقل كلفة بكثير من عبور النهر، انتهت بحمام دم روسي.

وفي الأثناء، تحدى الجيش الأوكراني التوقعات، وقد يستمر على تحديه، ولكن ثمة معوقات كبيرة أمام تحقيق مزيد من التقدم الميداني. والحق أن القوات الروسية اتخذت مواقع دفاعية، وتحصنت تحصيناً منيعاً في المحور الأكثر ملاءمة للتقدم في الجنوب. وتظهر صور الأقمار الاصطناعية المفتوحة المصدر أن الجنود الروس أنشأوا دفاعات مادية متتابعة، على غرار خنادق جديدة وحواجز مضادة للمركبات، وعوازل، وسواتر للمعدات والعتاد، على طول جبهة القتال التي يصعب، عند الاختبار، اختراقها. وقلصت التعبئة التي أمر بها بوتين، في الخريف الماضي، مشكلات نقص الموارد البشرية التي سمحت، في وقت سابق، بالتقدم الأوكراني في منطقة خاركيف، حيث تعرضت الخطوط الروسية الضعيفة التحصين لهجوم مفاجئ. ويلاحظ أن الجيش الأوكراني لم يختبر اختباراً فعلياً في عمليات الهجوم التي تقتضي دمج قدرات مختلفة، وهو تكبد خسائر كبيرة في الحرب، وكانت معركة باخموت آخر العمليات، وباخموت مدينة صغيرة في منطقة دونيتسك. وعلى النحو نفسه، تشكو كييف نقصاً في الذخائر المهمة، بما في ذلك المدفعية، والدفاعات الجوية. وأدى مزيج المعدات الغربية التي تلقتها إلى إجهاد مرفقي الصيانة والتدريب.

وتدل القيود التي تثقل على كاهل الجانبين إلى أن كليهما عاجز عن بلوغ غاياته المعلنة بالوسائل العسكرية، وفي الأشهر بل في السنوات المقبلة. وفيما يعني أوكرانيا، الهدف واضح جداً: تريد كييف السيطرة على كل أراضيها المعترف بها دولياً، ويشمل ذلك شبه جزيرة القرم وأجزاء من دونباس التي احتلتها روسيا منذ عام 2014. وفي المقابل، ليس موقف روسيا حاسماً على القدر نفسه. فموسكو أبقت على الغموض في ما يتعلق بحدود إقليمين من الأقاليم الأوكرانية الخمسة التي تزعم أنها ضمتها: زابوريجيا وخيرسون. وبغض النظر عن هذا الغموض، فخلاصة الأمر أنه من المستبعد، في ما يعود إلى أوكرانيا أو روسيا، السيطرة على ما تعتبرانه أرضهما (هذا لا يعني أن مطالب كلا الطرفين تتمتع بشرعية متساوية، لكن الموقف الروسي الذي يفتقر إلى الشرعية على نحو جلي لا يردع موسكو، على ما يبدو، عن التمسك به). وعليه، ستنتهي الحرب من غير حل للنزاع الإقليمي. ويتعين على روسيا أو على أوكرانيا، وربما على كليهما، أن ترضى بخط فصل بين البلدين، أي بأمر واقع لا يعترف به كلاهما حدوداً دولية.

اندلاع حرب أبدية

وقد تؤدي هذه العوامل الجامدة إلى حرب ساخنة طويلة بين روسيا وأوكرانيا. ويرجح التاريخ مثل هذه النتيجة. ووجدت دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية Center for Strategic and International Studies (CSIS)، مستخدماً بيانات جمعتها جامعة أوبسالا بين عامي 1946 و2021، أن 26 في المئة من الحروب بين الدول تنتهي في أقل من شهر، نظير 25 في المئة أخرى تنتهي في غضون عام. ولاحظت الدراسة أنه “عندما تستمر الحروب بين الدول مدة تتجاوز السنة، تدوم مدة يفوق معدلها السنوات العشر”. وتلك التي استمرت أقل من عقد من الزمن، قد تكون مدمرة على نحو غير عادي. والحرب العراقية – الإيرانية، على سبيل المثال، دامت قرابة ثماني سنوات، من 1980 إلى 1988، وأسفرت عن مقتل نحو نصف مليون قتيل وإصابة نصف مليون جريح تقريباً. وبعد كل تضحياتها، تستحق أوكرانيا أن تتجنب مثل هذا المصير.

ولا شك في أن حرباً طويلة بين روسيا وأوكرانيا تثير مشكلات كثيرة للولايات المتحدة وحلفائها، وفق ما أظهرته دراسة حديثة لمؤسسة راند RAND، شاركت في إجرائها إلى جانب الباحثة في السياسات ميراندا بريبي. فالصراع الذي يطول أمده من شأنه أن يبقي خطر التصعيد المحتمل عند مستواه المرتفع الحالي، سواء تمثل الخطر في الاستخدام النووي الروسي أم في اندلاع حرب بين روسيا والناتو. ويؤدي اعتماد أوكرانيا على المساعدات الحيوية الاقتصادية والعسكرية من الغرب، في نهاية المطاف، إلى اختبار ميزانية الدول الغربية اختباراً عسيراً، وإلى مشكلات في جهوزية جيوشها. وتتداعى النتائج الاقتصادية العالمية للحرب، بما فيها تقلب أسعار الحبوب والطاقة. فلن تتمكن الولايات المتحدة، جراء هذه الحال، من تركيز مواردها على أولويات أخرى، وتتعاظم حدة اعتماد روسيا على الصين. وعلى رغم أن الحرب الطويلة تفاقم ضعف روسيا، فإن هذه الفائدة لا تفوق الكلفة المذكورة.

وفيما يتعين على الحكومات الغربية أن تستمر في بذل كل ما في وسعها من أجل مساعدة أوكرانيا على الاستعداد للهجوم المضاد، عليها، في الآن نفسه، بناء استراتيجية لإنهاء الحرب، على صورة خاتمة مقنعة في ظل هذه الظروف البعيدة كل البعد عن المثالية. ولما كان مستبعداً جداً تحقيق نصر عسكري حاسم، وجب اطراح بعض الخواتيم المستحيلة. ونظراً إلى استمرار الخلافات الجوهرية بين موسكو وكييف على القضايا الأساسية، مثل الحدود، فضلاً عن الانتهاكات الفادحة التي نجم عنها وقوع عدد من الضحايا والوفيات بين المدنيين، يبدو من المستحيل أيضاً إبرام معاهدة سلام، أو تسوية سياسية شاملة، تطبع بموجبها العلاقات بين روسيا وأوكرانيا. وستبقى العداوة بين البلدين إلى مدة طويلة بعد انتهاء الحرب الساخنة [الحامية الوطيس].

وفي نظر الحكومات الغربية وكييف، يبدو إنهاء الحرب من دون مفاوضات أفضل من التحدث إلى ممثلي حكومة ارتكبت عملاً عدوانياً غير مبرر، وجرائم حرب مروعة، ولكن الحروب بين الدول، بعد أن بلغت هذا المستوى من الحدة والعنف، لا تطوى ذيولها بعد مفاوضات. وإذا استمرت الحرب، من الصعب للغاية تحويلها، مرة أخرى، إلى صراع محلي منخفض الحدة، على شاكلة النزاع في دونباس بين 2014 و2022. وفي الأثناء، كان للحرب تأثير ضئيل نسبياً في الحياة خارج منطقة الصراع في أوكرانيا. وخط المواجهة الحالي، على طول مسافة هائلة (تفوق 600 ميل)، والضربات على المدن والأهداف الأخرى القائمة وراء خط المواجهة بكثير، والتعبئة الجارية في كلا البلدين (الجزئية في روسيا، والكاملة في أوكرانيا)، هذه كلها لها تأثير شامل، وربما شبه وجودي، على الطرفين المتحاربين. ومن الصعب مثلاً تخيل كيف يمكن للاقتصاد الأوكراني أن يتعافى إذا بقي مجال الدولة الجوي مغلقاً، وبقيت موانئها محاصرة إلى حد كبير، ومدنها تحت القصف، ومن هم في سن العمل يقاتلون في الجبهة، وملايين اللاجئين غير الراغبين في العودة إلى البلاد، فقد تجاوزنا الحد الذي يمكن أن يقتصر فيه تأثير هذه الحرب في منطقة جغرافية بعينها.

وبما أن المحادثات ضرورة ولكن التسوية مستحيلة، فإن النهاية الأكثر ترجيحاً في المنطق هي اتفاقية هدنة. إلا أن الهدنة، وهي عبارة عن اتفاقية دائمة لوقف إطلاق النار، لا تعالج الانقسام السياسي، ومن شأنها أن تنهي الحرب الساخنة بين روسيا وأوكرانيا، وليس صراعهما الأوسع. والمثال الأبرز على ذلك هو الهدنة الكورية عام 1953، فهذه تناولت حصراً آليات الحفاظ على وقف إطلاق النار، وتركت القضايا السياسية الأخرى كلها خارج النقاش. وعلى رغم أن كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية لا تزالان في حال حرب فعلياً، وكلتاهما تدعي أن شبه الجزيرة كلها هي أرض خاضعة لسيادتها، صمدت الهدنة إلى حد كبير. لذا، فهذه النتيجة غير المرضية هي الحل الأكثر ترجيحاً لإنهاء هذه الحرب.

خلافاً للحال الكورية، ليست الولايات المتحدة وحلفاؤها هم من يقاتلون في أوكرانيا. وبالتالي، فالقرارات التي تتخذ في كييف وموسكو، في نهاية المطاف، أكثر حسماً بكثير من تلك التي تتخذ في برلين أو بروكسل أو واشنطن. ولا يسع الحكومات الغربية، وإن شاءت، إملاء شروط على أوكرانيا، أو على روسيا. ومع الإقرار بأن كييف هي التي تتخذ قراراتها في النهاية، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها، بالتشاور الوثيق مع أوكرانيا، البدء في إجراء مناقشات، وتقديم تصورهم للطريقة التي تنهي هذه الحرب. والحق أنهم يفعلون ذلك، إلى حد ما، منذ شهور: فأوضح مقال الرئيس الأميركي جو بايدن، في مايو 2022، ونشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في صفحة الرأي، أن إدارته ترى نهاية هذه الحرب على طاولة المفاوضات. وكرر كبار مسؤوليه هذا الرأي، بانتظام، منذ ذلك الحين، على رغم أن التعبير عن مساعدة أوكرانيا “مهما طال الأمر” غالباً ما يحظى باهتمام أكبر، ولكن واشنطن تجنبت، مراراً وتكراراً، تقديم تفاصيل أخرى. وعلاوة على ذلك، لا يبدو أن ثمة جهوداً جارية، سواء داخل الحكومة الأميركية أو بين واشنطن وحلفائها وكييف، تفكر في الإجراءات التطبيقية، أو في جوهر المفاوضات النهائية. وبالمقارنة مع الجهود المبذولة والرامية إلى توفير الموارد اللازمة للهجوم المضاد، لم تتخذ إجراءات عملية من أجل تصور المراحل التالية. وعلى إدارة بايدن أن تبدأ في سد هذه الفجوة.

كلفة الانتظار

واتخاذ خطوات على طريق النهج الدبلوماسي يجب ألا يؤثر في الجهود المبذولة لمساعدة أوكرانيا عسكرياً، أو لفرض كلفة على روسيا. تاريخياً، فلطالما تزامن القتال والتفاوض في الحروب. وفي أثناء الحرب الكورية، اندلعت بعض أشرس المعارك في العامين اللذين عقدت فيهما محادثات الهدنة، وتكبدت الولايات المتحدة فيهما 45 في المئة من خسائرها. ويمكن البدء في التخطيط للدبلوماسية الحتمية، لا بل ينبغي أن يتزامن مع العناصر الأخرى في سياسة الولايات المتحدة، ومع الحرب المستمرة.

وعلى المدى القريب، يعني ذلك الاستمرار في مساعدة كييف على إعداد الهجوم المضاد، وبدء مناقشات موازية مع الحلفاء وأوكرانيا حول المرحلة الأخيرة من الحرب. ومن حيث المبدأ، على فتح مسار تفاوض مع روسيا يكون مكملاً للهجوم والاندفاع في ساحة المعركة، لا مخالفاً له. وإذا كانت مكاسب أوكرانيا تجعل الكرملين أكثر استعداداً لتقديم تنازلات، فوسيلة معرفة ذلك هي بناء قناة دبلوماسية فعالة. وليس من المفترض أن يؤدي بناء مثل هذه القناة إلى تخلي أوكرانيا، أو شركائها الغربيين، عن الضغط على روسيا. فالاستراتيجية الفعالة تقتضي الإكراه والدبلوماسية معاً، ولا يلغي أحدهما الآخر.

وثمة ثمن نظير إرجاء إعداد الأجواء المناسبة للمفاوضات. وكلما طالت مدة تطوير الحلفاء وأوكرانيا استراتيجية دبلوماسية، زادت صعوبة القيام بذلك. ومع مرور الأيام، يرتفع الثمن السياسي المترتب على اتخاذ الخطوة الأولى. وبالفعل، فإن أي تحرك تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها، لفتح المسار الدبلوماسي، حتى في ظل الدعم الأوكراني، يجب أن يدار بدقة خشية تصويره تراجعاً عن السياسة المتبعة أو توقفاً غربياً عن دعم كييف.

ومن المنطقي الشروع في بدء الاستعدادات منذ اليوم، لأن دبلوماسية الصراع لن تسفر عن نتائج بين عشية وضحاها. وسيستغرق الأمر أسابيع أو ربما أشهراً، قبل نجاح الحلفاء وأوكرانيا في تنسيق استراتيجية تفاوضية متناغمة، وربما يستغرق وقتاً أطول قبل التوصل إلى اتفاق مع روسيا، بعد بدء المحادثات. وفي حال الهدنة الكورية، اقتضى الأمر 575 اجتماعاً على مدى عامين لإنهاء ما يقرب من 40 صفحة من الاتفاقية. أي إن تمهيد أرضية للتفاوض غداً، لن يؤتي ثمراته قبل انقضاء أشهر على صمت المدافع (هذا إذا تكللت المحادثات بالنجاح، وهو أمر بعيد كل البعد من أن يكون مضموناً).

واتخاذ تدابير لجعل وقف إطلاق النار ثابتاً مهمة شائكة، ولكنها حاسمة. وعلى واشنطن الحرص على أن تستعد لمساعدة كييف في هذا المسعى. وينبغي أن يبدأ العمل الجاد اليوم على تجنب ما وصفه المسؤولون الأوكرانيون، بمن فيهم زيلينسكي، ساخراً باسم “مينسك 3″، في إشارة إلى اتفاقيتي وقف إطلاق النار الفاشلتين اللتين أبرمتا، بوساطة روسية، في العاصمة البيلاروسية في عامي 2014 و2015، بعد الغزوات السابقة. وفشلت الاتفاقيتان في تثبيت وقف دائم للعنف، ولم تتضمنا آليات فعالة تضمن امتثال الطرفين.

وفي ضوء بيانات عن النزاعات التي جرت بين عامي 1946 و1997، أظهرت دارسة السياسات، فيرجينيا بيدج فورتنا، أن الاتفاقيات المتينة هي تلك التي تتخذ تدابير، وتنص على ترتيبات في شأن المناطق المنزوعة السلاح، أو على ضمانات الأطراف الثالثة، أو حفظ السلام أو اللجان المشتركة لتسوية النزاعات، وتستخدم لغة دقيقة وواضحة، وجعلت وقف إطلاق النار يدوم مدة أطول. فهذه الآليات تعزز مبادئ المعاملة بالمثل والردع. وهي مبادئ تسمح للأعداء اللدودين بإقرار السلام من دون حل خلافاتهم الأساسية. ونظراً إلى أنه من الصعب تغيير هذه الآليات، وتكييفها بما يتناسب مع حرب أوكرانيا، تحتاج الحكومات إلى العمل على تطويرها راهناً.

وعلى رغم أن الهدنة لأجل إنهاء هذه الحرب ستكون اتفاقية ثنائية، فمن الممكن، لا بل ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها مساعدة أوكرانيا على صوغ استراتيجيتها التفاوضية. وإلى ذلك، عليهم التفكير في الإجراءات التي يمكنهم اتخاذها، في الوقت نفسه في سبيل توفير حوافز تشجع الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتقليل فرص انهيار أي وقف لإطلاق النار. ووفق ما تعرب عنه بحوث فورتنا، فالالتزامات الأمنية الأوكرانية، على غرار التأكيد أن كييف لن تواجه روسيا وحدها إذا شنت موسكو هجوماً مرة أخرى، يجب أن تكون جزءاً من هذه المعادلة. وفي أحيان كثيرة، تختزل المناقشة حول الالتزامات الأمنية في مسألة ضم الناتو أوكرانيا إليه. والعضوية تتيح لأوكرانيا الاستفادة من المادة 5 من معاهدة حلف الناتو التأسيسية، وتلزم الأعضاء اعتبار الهجوم المسلح على أحدهم هجوماً عليهم جميعاً، ولكن عضوية الناتو هي أكثر من مجرد المادة 5. فالعضوية، في نظر موسكو، تحول أوكرانيا إلى قاعدة تنشر فيها الولايات المتحدة قواتها وقدراتها. لذا، حتى لو أجمع الحلفاء على ضم كييف إلى الناتو (وليس ثمة إجماع من هذا النوع)، فإن منح أوكرانيا ضمانة أمنية من طريق عضوية الناتو، قد يجعل السلام غير جذاب في نظر روسيا إلى حد يحمل بوتين على اتخاذ قرار بمواصلة القتال.

لذا، فحسم هذه المسألة العويصة أمر عسير ومشكل سياسياً. وأحد النماذج المحتملة هو مذكرة التفاهم الأميركية – الإسرائيلية عام 1975، وكانت من أهم الشروط المسبقة لكي توافق إسرائيل على السلام مع مصر. وتنص الوثيقة على أنه في ضوء “التزام الولايات المتحدة الطويل الأمد ببقاء إسرائيل وأمنها، ستنظر حكومة الولايات المتحدة بقلق واهتمام شديدين إلى أي تهديد خطر، ناجم عن أي قوة عالمية، ومحدق بأمن إسرائيل أو سيادتها”. وتضيف أنه، في حال حدوث مثل هذا التهديد، فإن الحكومة الأميركية ستتشاور مع إسرائيل “في ما يتعلق بالدعم الدبلوماسي أو غير ذلك، أو المساعدة التي يمكن أن تقدمها لإسرائيل وفقاً لممارساتها الدستورية”. وتعد الوثيقة، صراحة، “بإجراءات تصحيحية من جانب الولايات المتحدة” إذا انتهكت مصر وقف إطلاق النار. وهذا ليس التزاماً صريحاً بالتعامل مع الهجوم على إسرائيل بمثابة هجوم على الولايات المتحدة، لكنه يكاد يكون كذلك.

ويسهم تقديم ضمان مماثل لأوكرانيا في منح كييف إحساساً قوياً بالأمن، ويشجع استثمار القطاع الخاص في الاقتصاد الأوكراني، ويعزز ردع العدوان الروسي في المستقبل. وفي حين أن موسكو تعرف اليوم، على وجه اليقين، أن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً إذا هاجمت أوكرانيا، فإن هذا النوع من الالتزامات من شأنه أن يجعل الكرملين يفكر ملياً في مهاجمة أوكرانيا، ولكنه لا يثير احتمال إنشاء قواعد أميركية جديدة على حدود روسيا. وستحتاج واشنطن إلى الثقة في أن وقف إطلاق النار سيدوم لكي يبقى احتمال اختبار مدى التزام الولايات المتحدة بتعهداتها احتمالاً بعيداً. ويجب أن يظل تجنب الحرب مع روسيا أولوية.

وعندما يحين الوقت، ستحتاج أوكرانيا إلى حوافز أخرى، مثل مساعدات إعادة الإعمار، وإجراءات محاسبة روسيا، والدعم العسكري المستمر في وقت السلم، وذلك لمساعدة كييف على بناء ردع موثوق. وإلى ذلك، على الولايات المتحدة وحلفائها إرفاق الضغط القوي على روسيا بإجراءات تجعل السلام خياراً أكثر جاذبية، مثل تخفيف العقوبات المشروط، وتطبيق بنود آلية “سناب باك” [إعادة إطلاق] الخاصة بعدم الامتثال، وهو خيار قد يحث على حل توافقي. وعلى الغرب أن يكون منفتحاً على الحوار حول قضايا الأمن الأوروبي الأوسع من أجل تقليص فرصة اندلاع أزمة مماثلة مع روسيا في المستقبل.

بدء المناقشات

والخطوة الأولى نحو تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة واقعة في الأشهر المقبلة هي قيام الحكومة الأميركية بخطوة أولى على طريق تطوير المسار الدبلوماسي. وإلى اليوم، أنشئت وحدة قيادية عسكرية جديدة تماماً، وهي مجموعة المساعدة الأمنية الخاصة بأوكرانيا Security Assistance Group–Ukraine، ومهمتها تنفيذ إجراءات المساعدة والتدريب، في قيادة جنرال بثلاث نجوم يساعده 300 موظف. وعلى رغم ذلك، ليس في الحكومة الأميركية مسؤول واحد متفرغ بدوام كامل لوظيفة دبلوماسية الصراع. وعلى بايدن تعيين موظف يتولى ذلك المنصب، ربما مبعوث رئاسي خاص يمكنه العمل والتفاعل مع أطراف خارج وزارات الخارجية همشت ونحيت عن هذه الأزمة في العواصم المعنية كلها تقريباً. وبعد ذلك، على الولايات المتحدة أن تبدأ مناقشات غير رسمية مع أوكرانيا، وبين الحلفاء في مجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي، حول خاتمة الحرب.

وإلى ذلك، على الولايات المتحدة النظر في إنشاء قناة اتصال منتظمة في شأن الحرب، على أن تشمل أوكرانيا وحلفاء الولايات المتحدة وروسيا. ولن يكون هدف هذه القناة، في البداية، وقف إطلاق النار، بل إتاحة الفرصة للمشاركين بأن يتفاعلوا على الدوام، عوضاً عن إجراء لقاءات يتيمة، على غرار فريق الاتصال في أثناء حروب البلقان، عندما كانت مجموعات غير رسمية من ممثلي الدول الرئيسة، والمؤسسات الدولية، تعقد لقاءات منتظمة. وينبغي أن تبدأ مثل هذه المناقشات بعيداً من الأنظار، كما جرى في الاتصالات التمهيدية الأميركية مع إيران في مفاوضات الاتفاق النووي الموقع في عام 2015.

قد تفشل هذه الجهود في التوصل إلى اتفاق. والحق أن احتمالات النجاح ضئيلة. وحتى لو أسفرت المفاوضات عن اتفاقية، فلن يرضى عنها أحد رضاً كاملاً. ومن المؤكد أن الهدنة الكورية لم ينظر إليها على أنها انتصار للسياسة الخارجية الأميركية في الوقت الذي وقعت فيه: فالرأي العام الأميركي اعتاد على الانتصارات الحاسمة، وليس على الحروب الدموية التي تفتقر إلى حل واضح. ولكن، خلال السبعين عاماً تقريباً التي مضت منذ ذلك الحين، لم تندلع حرب أخرى في شبه الجزيرة. وفي الأثناء، انبعثت كوريا الجنوبية من دمار خمسينيات القرن الماضي قوة اقتصادية، ثم دولة ديمقراطية ومزدهرة. وأوكرانيا ما بعد الحرب، المتمتعة بالرخاء والديمقراطية على المثال نفسه، مع التزام غربي قوي بأمنها، ستكون نصراً استراتيجياً حقيقياً.

وخاتمة الحرب المبنية على هدنة لن تسمح لأوكرانيا، في الأقل موقتاً، بالحصول على كامل أراضيها، ولكن البلاد ستحظى بفرصة التعافي الاقتصادي، وتطوى صفحة الموت والدمار. وتبقى أوكرانيا عالقة في صراع مع روسيا حول المناطق التي تحتلها موسكو، ولكن مسرح هذا الصراع هو، هذه المرة، المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، حيث تمتلك أوكرانيا، بتأييد من الغرب، امتيازات وفوائد. وعلى سبيل المثل، فإن إعادة توحيد ألمانيا بنجاح، في عام 1990، وهي دولة أخرى قسمت وفقاً لشروط السلام، دليل على أن التركيز على العناصر غير العسكرية في النزاع، قد يكون ناجعاً. وفي الوقت نفسه لن تؤدي الهدنة الروسية – الأوكرانية إلى إنهاء المواجهة بين الغرب وروسيا، ولكن مخاطر صدام عسكري مباشر ستتقلص إلى حد بعيد، وتخفف من احتمال حرب عالمية.

وسيستمر بعض المعلقين في الإصرار على أن هذه الحرب يجب أن تحسم في ساحة المعركة وحدها، ولكن وجهة النظر هذه تتجاهل حقيقة أن وقائع الحرب البنيوية لن تتغير مع تغير خط المواجهة. وعلى الولايات المتحدة وحلفائها أن يكونوا قادرين على مساعدة أوكرانيا في ساحة المعركة وعلى طاولة المفاوضات، معاً. واليوم هو الوقت المناسب لذلك.

* سامويل شاراب كبير علماء السياسة في مؤسسة “راند” للبحوث وشريك في تأليف كتاب “الجميع خاسرون: أزمة أوكرانيا والمسابقة المدمرة لأوراسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي”. عمل في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية خلال إدارة أوباما.

مترجم عن فورين أفيرز يوليو (تموز) أغسطس ( آب) 2023

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى