دول الشمال ربما تكون أقرت نظاماً متعدد الأقطاب في باريس من دون أن تدري
تشكل قمة التمويل العالمي الجديد التي أنهت أعمالها في باريس متغيراً مهماً على صعيد العلاقات الدولية لا يمكن النظر إليه استراتيجياً إلا من ثلاث زوايا، الأولى حالة التنافس العالمي حالياً ومحاولة الغرب في اختراق حالة التمرد التي تمارسها دول الجنوب، خصوصاً في أفريقيا على الكتلة الغربية مستندة في ذلك على الصين، والثانية طبيعة التحديات التي تواجهها فرنسا حالياً في مناطق نفوذها التقليدي بالقارة السمراء، بخاصة في ضوء نجاح تحالف فاغنر بكل من أفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا.
أما الزاوية الثالثة، فهي تزايد معدلات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، هذا العام، 40 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وربما هذه الحقيقة هي ما دفعت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني إلى القول أثناء زيارتها إلى تونس أخيراً “علينا مساعدة الدول الأفريقية على التنمية حتى تكون أكثر جاذبية من حيث الفرص لسكانها خصوصاً من الشباب فلا يلجأون إلى المخاطرة بأرواحهم من جهة والضغط على الاقتصادات الأوروبية من جهة ثانية”.
المؤتمر الذي هو مبادرة من باريس ممثلة عن أوروبا، يتماهى مع السلوك الفرنسي التقليدي في شأن الاستجابة إلى تحدي التحولات على الصعيد العالمي، إذ يحسب لها أنها أيضاً قد قادت مبادرة تكوين مجموعة الـ20 في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، حيث ضُمت إلى مجموعة السبع الكبار من الدول الصناعية دول مثل الصين والسعودية وغيرهما.
في هذا السياق تم بلورة الخطاب الفرنسي الذي يقود هذا المجهود بأن النظام المالي العالمي مأزوم ينبغي تحديثه في إطار شراكات مع دول الجنوب تنهي حالة الشك والريبة التي تميز العلاقات بين شمال الكوكب وجنوبه، إذ تم الحرص على مشاركة الصين في هذا المؤتمر، وكذلك وزير الاقتصاد الأميركي فضلاً عن رئيس البنك الدولي ومدير عام صندوق النقد، كما تم الحرص أن يكون المؤتمر الصحافي للرئيس ماكرون في هذا الشأن متضمناً محاور من أصول أفريقية، وكذلك تم بثه على القنوات الفرنسية الناطقة بأربع لغات أخرى منها العربية.
يبدو أن قرار عقد المؤتمر جاء في إطار عدد من المؤشرات البارزة في شأن افتقاد الغرب لدعم من دول الجنوب ومن ذلك أن التصويت الأفريقي بخصوص إدانة روسيا في حربها على أوكرانيا بالأمم المتحددة لم يكن إلا بـ52 في المئة تقريباً من عدد دول القارة السمراء، كما استمر الموقف الأفريقي متبايناً من تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان مطلع أبريل (نيسان) 2022، حين اضطر الرئيس الأميركي جو بايدن إلى مهاتفة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا بعد امتناع بلاده عن التصويت ضد روسيا لثالث مرة في محافل دولية.
وبالتوازي مع ذلك ازداد طلب الحصول على عضوية منظمة “البريكس”، وهي مؤسسة مالية موازية للبنك وصندوق النقد الدوليين، وتأسست عام 2006، بمبادرة من الصين والهند وروسيا والبرازيل ثم انضمت إليهما جنوب أفريقيا عام 2009، بينما كل من: السعودية ومصر والجزائر على طريق العضوية وكلها دول وازنة بمنطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية لكل من أوروبا والولايات المتحدة.
لعل المؤشر الذي أنتجته أروقة القمة ذاتها في شأن تراجع وزن الآليات التمويلية الغربية، هو رفض تونس لشروط صندوق النقد الدولي المرتبط بالحصول على قرض يقارب ملياري دولار، إذ قال الرئيس قيس سعيد صراحة، إنه غير مستعد للتخلي عن دعم السلع لحفظ السلم الأهلي مذكراً بحوادث 1983 ببلاده.
في ضوء هذه التحديات التي يواجهها العالم الغربي فإن الهدف الرئيس من مؤتمر التمويل هو البحث عن آليات لتطوير حالة الشراكات المالية بين دول الشمال والجنوب، وذلك بعد أن أضحى كل من البنك الدولي وصندوق النقد غير قادرين على قيادة العالم مالياً، وباتت دول الجنوب لديها آليات جديدة يتم تقديمها حالياً من جانب كل من الصين وروسيا.
وما بين هذا وذاك، هناك عدد من القضايا الرئيسة التي طرحت في المؤتمر للنقاش منها طبيعة حاجات دول الجنوب في المرحة المقبلة على الصعيد التمويلي، وتم تقدير أن هذه الدول في حاجة إلى 200 تريليون دولار حتى عام 2030، بينما تحتاج أفريقيا منفردة إلى تمويلات تبلغ 452 مليار دولار سنوياً للتنمية والاهتمام بالبنية التحتية طبقاً لمخرجات مؤتمر بنك التنمية الأفريقي المنعقد في شرم الشيخ أواخر مايو (أيار) الماضي.
ويمكن القول، إن الحاجات التمويلية المطروحة لدول الجنوب عامة قد جاءت نتيجة تأثر اقتصاداتها بعدد من الظواهر السلبية منها الجوائح الصحية مثل “كوفيد- 19″، أو الكوارث البيئية الناتجة من ظاهرة تغير المناخ، وكذلك انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية على أمرين استراتيجيين هما الأمن الغذائي لدول العالم الثالث خصوصاً بعد فشل مبادرة الدول الأفريقية لوقف الحرب لمعالجة مسألة وقف تصدير الحبوب إلى القارة السمراء، علاوة على حالة استقرار الاقتصادات الناشئة التي تواجه هرب الاستثمارات والأموال الساخنة منها لدول الشمال بعد تزايد أسعار الفائدة هناك.
وبطبيعة الحال كانت قضايا ديون دول العالم الثالث حاضرة في هذه القمة، حيث برزت اتجاهات النقاش على الجانب الغربي مبلورة في إطار إعادة الجدولة وبحث حصول دول الجنوب على قروض ميسرة الشروط، حيث يتم الجدل في شأن فكرة إلغاء الديون نهائياً، بأن ذلك سيجعل فكرة الحصول على القروض مجدداً أمراً مستحيلاً.
في المقابل فإن الدول الأفريقية تطالب بإلغاء الديون في ضوء حقيقة أن جزءاً كبيراً من موازنات الدول الفقيرة يذهب إلى بند تسديد فوائد الديون فقط من دون قدرة على تسديد لأقساط الدين ذاته، ولعل كلاً من مصر وباكستان نموذجان تطبيقيان على هذه الحالة، إذ تسدد الأخيرة 20 في المئة من موازنتها السنوية لخدمة الدين.
ويمكن القول، إن مؤتمر التمويل الدولي الجديد قد يؤسس لعقد جديد ونوع من العلاقات بين شمال الكوكب وجنوبه أكثر تفهماً لحاجات الدول الفقيرة وأكثر تفاعلاً مع حالة التنافس الدولي الراهنة، وقد يكون القائمون عليه من حيث لا يدرون قد دشنوا فعلياً لتحول النظام الدولي ليكون متعدد الأقطاب ربما على عكس ما يريدون هم.
هنا قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إن التزامات الدول المانحة في شأن تغير المناخ لا تزال قائمة، وإن مقررات مؤتمر باريس عام 2015 بالالتزام بتسديد 100 مليار دولار سيتم تفعيلها لمساعدة الدول الفقيرة، فضلاً عن تذكيره بمبادرة نادي باريس في إسقاط ديون السودان، وبإدماج كل من زامبيا وتشاد في مبادرة الديون ميسرة القروض.
قد يكون من أهم نتائج مؤتمر التمويل الدولي هو الاهتمام بالاقتصاد الأخضر، أي تمويل مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة، خصوصاً في أفريقيا التي هي مصدر لأهم أنواع هذه الطاقات مثل كل من الشمس والرياح والطاقة الحرارية الجوفية (الجيوثيرمال)، ولكن يبقى أن الديون وشروط الإقراض هي المسألة الأكثر أهمية لدول الجنوب وأنه إذا لم يتم التعامل بجدية مع طبيعية العلاقات التمويلية وشروطها من جانب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للدولي النامية فسيكون ذلك أكثر عوامل انهيار العلاقات بين الشمال والجنوب.
وحينها ستتجه دول الجنوب إلى تمتين تحالفاتها الجديدة في إطار منظمتي “البريكس” و”شنغهاي” للأمن كبديل للآليات الغربية التي كرست لعلاقات غير عادلة بين الشمال والجنوب في مراحل ما بعد الاستعمار لفترة امتدت منذ ستينيات القرن الـ20 وحتى وقتنا الراهن.
المصدر: اندبندنت عربية