لعب القانون التاريخي دورًا حاسمًا في تطور العقوبات الأمريكية، ومن شأن القيود اللاحقة التي يفرضها الكونغرس أن تحبط إلى حد كبير أي جهود لإعادة الأسد إلى الأوساط الاقتصادية.
في كانون الأول/ديسمبر 2023، يصادف مرور 44 عامًا على وضع الولايات المتحدة الجمهورية العربية السورية على قائمتها الأولى للدول الراعية للإرهاب بعد أن فشلت واشنطن في أعقاب حرب عام 1973 في استمالة الرئيس حافظ الأسد وإبعاده عن الجماعات الفلسطينية المتطرفة وتوجيهه نحو السلام العربي الإسرائيلي. وفي ظل تزايد الدعم السوري لـ “حزب الله” وغيره من المنظمات التي صنفتها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب، لا تزال سوريا اليوم الاسم الوحيد المتبقي في أول قائمة للدول الراعية للإرهاب، وتخضع لعدد كبير من العقوبات والأوامر التنفيذية الإضافية المتعلقة باحتلالها العسكري للبنان على مدى 29 سنة انتهت رسميًا عام 2005.
وجاء رد نظام الأسد العنيف على الانتفاضة والحرب السورية عام 2011، بما في ذلك استخدامه للأسلحة الكيميائية وغيرها من الأسلحة الاستراتيجية ضد المدنيين والفظائع التي ارتكبها ضد المعتقلين، ليرفع العقوبات الأمريكية والدولية ضد سوريا الأسد إلى مستوى مختلف كليًا. ويتجلى ذلك في تنفيذ “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” لعام 2019 (“قانون قيصر”)، الذي تتضمن أحكامه عقوبات مكثفة ثانوية أو مشتقة على الكيانات غير الأمريكية التي تسهل المعاملات أو الأنشطة المتعلقة بإعادة الإعمار في سوريا من دون تسوية سياسية محددة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2254.
وفيما ترحب دول المنطقة بعودة سوريا الأسد إلى “الحضن العربي” بعد القمة العربية التي انعقدت في 19 أيار/مايو في جدة، من المهم دراسة مسار تطور العقوبات الأمريكية على سوريا، والدور الحاسم الذي لعبه “قانون قيصر” في هذا التطور، والدرجة التي يحد بها أي التزامٍ من العواصم العربية بتطبيع العلاقات الاقتصادية مع نظام الأسد. ومن الضروري أيضًا مراجعة التأثير المحتمل لقانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد الذي أقرته لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي بتصويت شبه إجماعي في 16 أيار/مايو ووسّع نطاق عقوبات “قانون قيصر” ومدد العقوبات المقرر رفعها في العام المقبل حتى عام 2032. باختصار، يبدو أن وقف العمل بـ”قانون قيصر” مستبعدًا على المدى القريب، كما أن أي جهد تبذله الدول العربية لإغراء الأسد بالابتعاد عن سياساته الحالية من خلال توسيع العلاقات الاقتصادية معه سيكون عرضة لعقوبات جمة.
طبقات متعددة من العقوبات
عندما صنّفت واشنطن نظام الأسد من الدول الراعية للإرهاب عام 1979، فرضت، من جملة تدابير أخرى، قيودًا واسعة على تصدير أو إعادة تصدير بعض المواد الخاضعة للرقابة و”ذات الاستخدام المزدوج” إلى سوريا. ولكن التجارة العامة بقيت مسموحة إلى حد كبير بين الولايات المتحدة وسوريا.
واكتسبت الجهود المتضافرة لزيادة تطبيق العقوبات على دمشق زخمًا في عام 2003 عندما وقعت إدارة الرئيس بوش على “قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية”. فقد فرض هذا القانون عقوبات إضافية على سوريا، منها عقوبة إلزامية تحظر تصدير المعدات الأمريكية العسكرية أو ذات الاستخدام المزدوج، ونص على أن تفرض السلطة التنفيذية عقوبتين على الأقل من قائمة العقوبات التي شملت:
منع الشركات الأمريكية من الاستثمار أو العمل في سوريا
فرض القيود على سفر الدبلوماسيين السوريين في نيويورك وواشنطن العاصمة
منع شركات الطيران السورية من الوصول إلى المجال الجوي الأمريكي أو المطارات الأمريكية
الحد من الاتصالات الدبلوماسية الأمريكية مع سوريا
وقف التعامل بالممتلكات التي تملك الحكومة السورية مصلحة فيها
وفي حين لم تنجح الجهود السابقة لإقرار “قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية” على الرغم من الدعم القوي من الكونغرس، إلا أنه حظي عام 2003 بتأييد ساحق من مجلسَي النواب والشيوخ، ويعود ذلك جزئيًا إلى الهجمات المدعومة من سوريا على القوات الأمريكية وقوات التحالف في العراق.
في بادئ الأمر، كان موقف إدارة بوش فاترًا تجاه القانون واستغرقت نحو ستة أشهر لتنفيذه وتنازلت عن بعض العقوبات في البداية. لكن الإدارة لم تعارض “قانون محاسبة سوريا”، وزادت في نهاية المطاف الضغط الاقتصادي على دمشق، على غرار الكونغرس الأمريكي.
وحاولت إدارة أوباما بدايةً مد يدها إلى حكومة الأسد، وتمحورت المحاولة حول معاهدة سلام بين سوريا وإسرائيل، لكن انتفاضة عام 2011 واندلاع الحرب السورية في النهاية أرغما الإدارة على توسيع نظام العقوبات بشكل كبير على سوريا وتغييره بشكل جوهري، إذ حوّل سوريا من بلد يخضع لعقوبات محددة الأهداف إلى منطقة خاضعة لعقوبات شاملة، من بينها عقوبات تشكل أساس نظام العقوبات الحديث المنصوص عليه في الأمر التنفيذي رقم 13572 بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، والأمر التنفيذي رقم 13573 القاضي بحظر ممتلكات كبار المسؤولين في النظام السوري، والأمر التنفيذي رقم 13582 القاضي بحظر ممتلكات نظام الأسد ويحظر التعامل معه، والذي فرض محظورات وعقوبات واسعة النطاق على التجارة مع سوريا والاستثمار فيها.
أُقر “قانون قيصر” في هذه البيئة وغيّر جذريًا الحسابات الاستراتيجية في سوريا في ما يتعلق بالعقوبات. فقد وسّع هذا القانون العقوبات التي وُضعت في عهد أوباما من خلال تطبيق عقوبات معززة تستهدف وسطاء النظام لمنعه من الاستفادة من الجهود المبذولة للاستحواذ على ممتلكات السوريين المقيمين أو المغتربين بحجة إعادة الإعمار. وكان هذا أول توسيع كبير للعقوبات ضد النظام السوري منذ عام 2005، ويمكن القول إنه أهم قوانين العقوبات ضد نظام الأسد منذ عام 2003.
وشكّل أيضًا هذا القانون تغييرًا كبيرًا في البيئة السياسية حظي “قانون قيصر” بدعم سياسي ساحق، ليس من مختلف أركان “الكابيتول” فحسب، بل من الإدارة الأمريكية أيضًا. فمقابل فتور إدارة بوش تجاه إقرار إجراء في الكونغرس، أصدرت إدارة ترامب بيانا مؤيدًا لهذا القانون.
ويكمن دليل آخر على الدعم السياسي لـ “قانون قيصر” في كيفية تحوله في نهاية المطاف إلى قانون من خلال “قانون تفويض الدفاع الوطني” السنوي. والواقع أن “قانون قيصر” لم يكن مدرجًا في نسخة “قانون تفويض الدفاع الوطني” المخصصة لمجلس النواب أو لمجلس الشيوخ، ولكنه أدخل في القانون بينما كان المجلسان يعالجان الاختلافات في مشاريع القوانين الخاصة بهما، وذلك من خلال عملية تعرف بـ “الإسقاط”.
وجدير بالذكر أن هذه العملية نادرًا ما تُستخدم، خصوصًا في القوانين الواسعة النطاق مثل “قانون قيصر”. مع ذلك، حُددت مدة القانون بخمس سنوات فقط تُجدَّد بموجب قانون صادر عن الكونغرس.
ويختلف “قانون قيصر” في جوهره إذ يشرّع عقوبات ثانوية أو مشتقة ضد وسطاء نظام الأسد، ما يعني أنه لا يقيد قدرة الأشخاص والكيانات الأمريكية وحدها على الانخراط في إعادة إعمار سوريا في عهد الأسد، بل الأشخاص والكيانات غير الأمريكية أيضًا. وبذلك سيواجه جميع المستثمرين معضلة إذا استثمروا في إعادة إعمار سوريا في عهد الأسد، حيث سيخاطرون بقطع علاقاتهم التجارية وتعاملاتهم ليس مع الولايات المتحدة فحسب، ولكن مع المؤسسات المالية العالمية أيضًا.
وفي إثبات للقوة الأمريكية، فرضت إدارة ترامب عقوبات على 113 وسيطًا للنظام في الأشهر الستة التي تلت دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ في حزيران/يونيو 2020، وقد خضعوا جميعهم لعقوبات ثانوية أو مشتقة إلزامية ضد وسطاء للنظام. أما إدارة بايدن فلم تحدد حتى الآن سوى عدد قليل منهم، ولكن لا شيء يحول دون إعادة تفعيل موقف تنفيذ العقوبات من الإدارة الحالية أو اللاحقة.
في حين التزمت إدارة بايدن علنًا بتطبيق القانون، كان الكونغرس قلقًا من بطء وتيرة التصنيفات على قائمة العقوبات، وجهود إدارة بايدن المحسوبة على ما يبدو لتخفيف العقوبات، أولها السماح بالمدفوعات العينية للحكومة السورية كرسوم عبور الغاز الطبيعي والكهرباء عبر سوريا إلى لبنان.
وبرز ثانيًا قلق من آثار القانون غير المقصودة، وعلى الأخص من جهة قطع المؤسسات المالية علاقاتها مع الجهات الفاعلة الإنسانية وغيرها من الجهات الفاعلة التي تتعامل مع سوريا من خلال عملية تعرف باسم “إزالة المخاطر”، على الرغم من أن “قانون قيصر” يجيز، لا بل يشجّع التجارة الإنسانية. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص في أعقاب الزلزال المدمر الذي ضرب الحدود التركية السورية في 6 شباط/فبراير، عندما أصدرت إدارة بايدن “ترخيصًا عامًا للعقوبات”، وهو نوع من الاستثناء، سمح بالمعاملات المصنفة في خانة “الإغاثة من الزلزال”.
ومع أن هذه الممارسة اعتيادية من جانب الحكومة الأمريكية، لم تعرّف وزارة الخزانة بالتحديد ما تنطوي عليه الإغاثة من الزلزال، لا بل سمحت بإنجاز المعاملات مع “الحكومة السورية” (التي يسيطر عليها نظام الأسد) على الرغم من سجلها الحافل في حرف المساعدات الإنسانية عن وجهتها واستخدامها كسلاح. كما أصدرت واشنطن الترخيص لمدة 6 أشهر بدلًا من الأشهر الثلاث المعتادة.
التطبيع يعجل في النسخة الثانية من “قانون قيصر”
لا يزال “قانون قيصر” يشكل رادعًا مهمًا ضد الاستثمار في إعادة إعمار سوريا عن طريق نظام الأسد، ولكنه يضعف مع الوقت إذا لم يتم تنفيذه بشكل فعال. وانطلاقًا من هذا القلق، قدم ائتلاف من الحزبين في مجلس النواب “قانون مناهضة التطبيع مع الأسد”، الذي أقرته لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب في 16 أيار/مايو. ومن شأن هذا القانون أن يطيل مدة “قانون قيصر” حتى 31 كانون الأول/ديسمبر 2032 ويوسع العقوبات التي يجب على الإدارة فرضها لتشمل التعامل بالممتلكات التي صادرها النظام أو استولى عليها.
وتشمل أهم عناصر مشروع القانون الجديد الذي يدعم “قانون قيصر” استهداف المتورطين في سرقة ممتلكات الشعب السوري لأسباب سياسية أو مكاسب شخصية، ومنع النظام السوري وأتباعه من الاستفادة من التطهير العرقي المرتبط بإعادة الإعمار. فقد وسّع القانون نطاق استهداف كبار قادة النظام من خلال فرض العقوبات، بما في ذلك عقوبات ثانوية على جميع أعضاء “مجلس الشعب السوري” وأفراد أسرهم المباشرين وكبار المسؤولين في “حزب البعث العربي الاشتراكي” في سوريا. كما يحاول تحديد ما إذا كانت المؤسسة الخيرية “الأمانة السورية للتنمية” التابعة للسيدة الأولى لسوريا، أسماء الأسد، تستوفي معايير العقوبات بموجب “قانون قيصر”، فضلًا عن تحديد “معاملة كبيرة” بموجب القانون، ستحظر بدورها المدفوعات العينية إلى نظام الأسد التي استخدمتها إدارة بايدن للسماح بشحن الطاقة من الأردن عبر الأراضي السورية إلى لبنان.
ثماني سنوات حتى انقضاء الصلاحية؟
من شأن كل ما سبق أن يحد بشكل كبير من قدرة بايدن أو أي إدارة مستقبلية على تخفيف العقوبات، على الأقل طالما أن الأسد مستمر في عرقلة التقدم نحو تسوية سياسية وشاملة للحرب. وحتى إذا لم يتم اتخاذ أي إجراء ووضَع الدبلوماسيون العرب التعامل مع الأسد قيد الاختبار، تخاطر الدول العربية وشركاتها بالتعرض للعقوبات حتى انقضاء مدة “قانون قيصر” في نهاية عام 2024، ما يعني فعليًا أن التحايل على العقوبات الأمريكية سيكون صعبًا جدًا لمدة عامين آخرين على الأقل.
وفي هذه الحالة، ستبقى هناك ثغرة واحدة هي الترخيص العام لـ “الإغاثة من الزلزال” الذي من المقرر أن ينتهي في 9 آب/أغسطس. ويمكن لوزارة الخزانة تمديده، ولكن من شبه المؤكد أن مدته الطويلة ستؤدي إلى تدقيق شديد.
في حال إقرار “قانون مناهضة التطبيع”، لن يتم تمديد العقوبات السورية لثماني سنوات أخرى فحسب، بل سيتم تعزيزها بهدف محدد هو منع النظام من الاستفادة من إعادة الإعمار. وسيقفل الباب أمام التطبيع الاقتصادي الحقيقي، ومعه محاولات إغراء الأسد بالحوافز بدلًا من الإجراءات الصارمة للوصول إلى تسوية سياسية للحرب.
أندرو تابلر هو زميل أقدم في برنامج “مارتن ج. غروس” في معهد واشنطن والمدير السابق لشؤون سوريا في مجلس الأمن القومي. ماثيو سفايغ هو المدير الأول للسياسات في “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات”، وكان سابقًا كبير مستشاري العقوبات في مكتب الممثل الأمريكي الخاص للمشاركة في سوريا. تم نشر هذا المقال في الأصل على موقع “المجلة”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى