لم يشأ البحر الأبيض المتوسط يومًا أن يتحوّل إلى أضخم مقبرة جماعيّة، فهو طالما تطلّع إلى أن يبقى مهد الحضارات، ولكنّنا، بأيادينا، دمّرنا الحضارات وبنينا من أحجارها أضخم المقابر!
في سعينا إلى “الفردوس” تركنا الجحيم يبتلع دولنا، فبات الهرب منها، حتى إلى الموت، حلمًا!
ماذا يفعل أبناؤنا في قوارب الموت؟ لماذا يفضلون ركب أمواج المخاطر على البقاء في أوطانهم؟ من أوصلنا إلى هذا المستوى من اليأس؟
كل القمم التي تنعقد وكل المصالحات التي تجري وكل الوعود التي تطلق وكل ما يحصل على مستوى “الأبراج العاجية” مجرّد أوهام، لا تلامس الحقائق المرّة.
كلّما جرى تعويم ديكتاتور، غرق المئات من الهاربين من سطوته!
كلّما تمّ الترويج لسفّاح، أخلى الآلاف مدنهم وبلداتهم وقراهم!
كلّما احتفلت مافيا بانتصاراتها، توشّحت العائلات بسواد قاتم!
ما من متربّع على كرسي أو على عرش أو على “مزبلة” يهتز له جفن، فما يحصل يبدو لهم جميعًا طبيعيًّا، فهؤلاء الهاربون من سطوتهم يستحقون الموت. هم لا يبكون عليهم بل يتشفّون فيهم. هم لا يترحّمون عليهم، بل يؤمنون بأنّ من يهرب من “بطشهم” تضربه “عدالة السماء”.
هؤلاء الذين يبتلع البحر الأبيض المتوسط أجسادهم آمنوا بأنّ الحياة متوافرة على الضفة الأخرى. هم لا يسعون إلى “إلدورادو” جديدة، بل يسعون إلى أن يكونوا، لمرّة واحدة، أناسًا لديهم الحدّ الأدنى من أيّ شيء: من الخبز لعائلاتهم، من العلم لأولادهم، من الدواء لمرضاهم، من الكرامة لنسائهم، ومن الحريّة في حياتهم، ومن الانتساب إلى وطن!
هل يطلب هؤلاء المستحيل حتى يضطروا إلى المخاطرة بالحياة من أجله؟ هل يحتاج توفير هذا القسط البسيط من الحقوق إلى جهد عظيم حتى يبدو تحقيقه مجرّد سراب؟
لقد دلّت التجارب المديدة إلى أنّ الطغاة لا يفكّرون إلّا بمواقعهم، فمن أجلها فقط يضحّون ويتعبون ويجهدون ويُعتقلون ويُعذّبون ويُنفون ويُسحلون. وقد بيّنت الخبرات أنّ المتصارعين يحرقون شعبًا من أجل أن يحصدوا مكسبًا. وقد أكدت الأدلة أنّ الفاسدين يجوّعون شعبًا من أجل أن تمتلئ خزناتهم.
لا بدّ من إقفال مقبرة البحر الأبيض المتوسط، ولكنّ ذلك لن يحصل بقمع من يحاولون الانتقال إلى الضفة الأخرى، ولن ينجح بإقفال الممرات الآمنة لمصلحة الممرّات القاتلة، بل يحتاج إلى حلول جذريّة يشارك فيها الجميع بشجاعة وإنسانيّة وغيريّة.
الحلول تبدأ بالسياسة، بحيث لا يعود الوطن جحيمًا، ولا يعود الحاكم طاغية، ولا يعود المتسلّط قاتلًا، ولا تعود المافيات هي مخازن الطحين والدواء ومصادر الطاقة، ولا يعود حامل البندقية… سلطانًا.
حقائق الدول التي ترسل أبناءها إلى “مقبرة البحر” معروفة، فأنين المواطنين يكشفها وموج البحر يهدر بها.
هذه هي الحقائق التي لا بدّ من أن تنتقل من أعماق البحر الأبيض المتوسط إلى مراكز القرار التي، إن لم تضع يدها على “مصانع المآسي”، أصبحت سياساتها مجرّد مهزلة تتجنّب أخبارها، وفق آخر دراسة، الأكثرية الساحقة من البشر!
*كاتب وصحافي لبناني.
المصدر: ( النهار العربي )