لم يعد الملف السوري، بكل حمولاته الثقيلة، يخضع لاعتبارات السلاح العسكري، فما عادت الترسانة الروسية قادرةً على حسم الصراع، وإنْ نجحت في ترتيب ساحته. وما كان أداة للانتصار العسكري في الأمس القريب لم يعد اليوم أداة للانتصار السياسي والاقتصادي، فقد اختلفت أدوات الضغط. ومع “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين” الذي تم إقراره في الولايات المتحدة، سيكون الملف السوري على موعد مع استحقاق جديد، بحيث يكون 17 يونيو/ حزيران الجاري تاريخا له ما قبله وله ما بعده.
وقد بدأت عوامل الاختلاف تظهر على السطح، قبل حتى أن يدخل القانون حيز التنفيذ، سواء على صعيد روسيا التي بدأت خطوات عملية في سورية للتخفيف قدر الإمكان من وطأة العقوبات الجديدة، أو على صعيد النظام السوري، حيث بدأ صراع العائلة الحاكمة يأخذ مسارا جديدا، وحيث طرق الالتفاف على العقوبات ستكون باهظة الثمن. وأهمية قانون قيصر في أنه ينقل العقوبات الاقتصادية ضد النظام السوري وإيران وروسيا من مستوىً إلى مستوى آخر مختلف، فما كان عقوباتٍ فردية منتقاة تحول عقوبات جماعية مسيجة بسياج المصلحة القومية الأميركية العليا.
لهذا السبب، أدرج القانون في ميزانية الدفاع، باعتبار أن العقوبات موجهة ضد أطرافٍ تهدد المصلحة القومية الأميركية العليا ومصالح حلفائها، وبالتالي كان لا بد من إبعاد القانون عن مماحكات اللعبة السياسية الأميركية الداخلية بين البيت الأبيض والكونغرس. كما أن وضع القانون في ميزانية الدفاع سيجعل الإدارة الأميركية في منأى عن ممارسة دبلوماسية القوة لردع بعض الدول الساعية إلى الانفتاح الاقتصادي على النظام السوري، وأي محاولة بهذا الشأن أصبحت جريمة قانونية. ويفرض القانون عقوبات على أي شخص أو جهة تتعامل مع النظام السوري، أو توفر له التمويل في مجالات البناء والهندسة والطاقة، والنقل الجوي، وهي المجالات التي يعول عليها النظام وحلفاؤه لإعادة إحياء المنظومة الاقتصادية، بما ينعكس إيجابا على النظام وروسيا وإيران. ووفقا لذلك، سيكون البنك المركزي السوري لأول مرة داخل دائرة العقوبات، وستكون الدول والشركات الخارجية مقيدة وغير قادرة على التعامل مع النظام السوري، مع ما يعني ذلك من توجيه ضربة قوية لإيران وروسيا من الاستثمار داخل سورية، فضلا عن طي صفحة إعادة الأعمار إلى أن تحين اللحظة السياسية المناسبة، وفق شروط الإمكان التي يطالب بها المجتمع الدولي: وقف قصف المدنيين والمراكز الطبية والمدارس والمناطق السكنية، رفع الحصار عن المناطق المحاصرة والسماح بمرور المساعدات الإنسانية، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والسماح بدخول منظمات حقوق الإنسان إلى المعتقلات، عودة المهجرين بطريقة آمنة وإرادية، محاسبة مرتكبي جرائم الحرب.
هذه المطالب محددة بدقة، لأنها مرتبطة بالجانبين، الإنساني والحقوقي، ولكن عندما يتم الانتقال إلى الجانب السياسي، فإن المطالب المدرجة في قانون قيصر عامة فضفاضة، تخضع للتقييم السياسي للإدارة الأميركية، ففي القسم 401 الخاص بتعليق العقوبات، ثمّة شروط وضعها القانون لرفع العقوبات مبدئيا، منها، في حالة انخراط النظام السوري ولجنة المباحثات العليا السورية أو ما يخلفها، والأطراف الدولية المناسبة في مباحثات مباشرة وجها لوجه: التزام النظام علنا بمباحثات حول حكومة انتقالية، واستمر في إثبات هذا الالتزام عبر انخراط مستدام في محادثات وتقدم كبير ومؤكد باتجاه تنفيذ مثل هذا الاتفاق.
غياب آليات للحل السياسي في منطوق القانون، كما جاء في الورقة الخماسية (اللاورقة) التي قدمها وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، بداية 2018 على سبيل المثال، مؤشر على أن الحل السياسي في سورية يخضع لاعتبارات دولية متغيرة، ويخضع أيضا لمتطلبات الواقع السوري المتغير، فما يهم الإدارة الأميركية هو دفع النظام نحو القبول بالحل السياسي، وقانون قيصر إحدى الأدوات القوية التي أرادت واشنطن استخدامها.
ومع أن النظام السوري مقبل على أزمة اقتصادية متصاعدة، إلا أن هذه الأزمة لن تكون بمثابة المقتل له كما يعتقد بعضهم، لأسباب عدة: النظام خاضع لعقوبات منذ عقود طويلة، ولديه خبرة عالية في التعامل مع العقوبات الدولية، وبالتالي لا توجد منظومة اقتصادية ذات تشبيك مع الاقتصاد العالمي أو الاقتصاد الإقليمي. منظومة النظام الاقتصادية قائمة على مبدأ العمل المافيوي، بما يسمح لكثيرين بالاستفادة من الفساد وعمليات النهب والسرقة، فضلا عن تدوير رجال الأعمال وإدخال رجال أعمال محليين جدد في منظومة التشبيك المافيوية. وجود دول مجاورة قادرة على إمداد النظام بالحاجات الأساسية وفق أساليب ملتوية. على الرغم من ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، إلا أن التحويلات المالية بالعملة الصعبة من السوريين في الخليج العربي وأوروبا والولايات المتحدة وكندا وبعض دول أميركا اللاتينية ودول أخرى في آسيا وأفريقيا، تسمح لفئة واسعة من المجتمع السوري بتحمل تبعات الغلاء، وحتى الطبقات المعدومة، فإنها تعتمد على عمل جميع أفراد الأسرة الواحدة، بما يحول دون حصول مجاعة.
سيدفع هذا الواقع المحلي النظام إلى التشدد السياسي أكثر، وليس إلى المرونة، وسيلجأ النظام، كالعادة، إلى لعبة الوقت، على أمل حدوث متغيرات دولية، تعيد النظر إلى الأزمة السورية من منظار آخر. وربط التنازلات السياسية بالعقوبات السياسية والاقتصادية لا يجدي نفعا مع النظام السوري، حتى وإن طال الزمن، وبدون حل جدّي قائم على التهديد العسكري المباشر، سيبقى الوضع على ما هو عليه.
المصدر: العربي الجديد