أطلقت مدنية برنامج عمل مؤتمرها تحت عنوان : الأحقية السياسية للفضاء المدني السوري، معتبرة الفضاء المدني ليس أكثر استحقاقا من سواه للممارسة السياسية أو الاستحواذ السياسي، بل الأكثر استحقاقا لذلك، هذا ما يستنبط من كلمة الأحقية إذا كان من صاغ العنوان يدرك صيغ المفاضلة بين أمرين أو جهتين أو أكثر في اللغة التي يستعملها؛ الفضاء المدني السوري أحق سياسيا ممن؟ من المعارضة أو من الثورة؟ أو أنه يعتبر نفسه متمايزا عنهما، ولا ينتمي لأحدهما، فمن هو؟ ولماذا لا يعرف نفسه بدقة؟
وهل يوجد فضاء مدني سوري في ظل الاحتلالات والفصائلية المرتهنة؟! أو قبل ذلك في ظل العصابة الحاكمة؟!
وهل الفضاء المدني السوري هو عينه المجموعات الممولة إقليميا ودوليا لأداء خدمات محددة حسب مصالح الدول التي جميعنا متفق حولها أنها ليست جمعيات خيرية؟ أليس قسما مهما من هذا الفضاء المدني فر مضطرا من سورية أو من محيطها لانسداد الأفق أمامه، أو سعيا للرزق بعد أن تقطعت به السبل؟ أو حالة انتهازية تتمحور حول حاجاتها الذاتية بعيدا عن أي معنى مجتمعي؟ أو ثالثا قليلا ومتناثرا لا حكم له ؟
هل أحد هؤلاء بهذه الصفات يملك أحقية سياسية؟ ومن أين له ذلك، وبماذا يحوز الأحقية السياسية على من سواه ؟
وإذا قبل أغلب هذا الفضاء العمل وفق أجندات إقليمية ودولية فكيف سينجح سياسيا سوريا؟! وهل هذه الدول التي مولت الإرهاب وسلحته، وفتحت الحدود أمام الإرهاب الطائفي، ودعمت إرهاب الدولة المنظم ضد الشعب السوري أو سكتت عنه، ثم عادت الآن لتعانقه علنا يمكن أن تؤمن بعمل مدني سوري ؟!
عشرات الأسئلة يتم القفز عليها من الأغلب استغباءا للشعب السوري واستخفافا بتضحياته واستهتارا بمعتقليه .
تنقض “مدنية” كل هذه المعاني الصحيحة عندما تشرح ما تعنيه وتقصده بعنوانها “الأحقية السياسية” بعيدا عن اللغة التي تكتب بها وتجهل دقتها أو تتجاهلها؛ فتقع بانتكاسات ومطبات عميقة من حيث تدري، لكن لا يهم، طالما أن المكتوب ليس للشعب السوري الحر الكريم، إنما لأصحاب الشأن الحقيقي والمعنيين بخطاب “مدنية” حسب بنية مشرفيها وسلوكهم السياسي، فتقول: “إن مطالبتنا بأحقيتنا السياسية لا تعني بأي شكل رغبتنا في الحلول محل الأجسام السورية المنخرطة في العملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254” فهم أولا في موقع الطلب وليسوا في موقع الإرادة، الطلب من جهة علوية صاحبة قرار في العطاء، لا علاقة للثورة بها التي هي صاحبة إرادة في الأخذ، والطلب يتناقض مع الفاعلية التي تدعيها “مدنية” وينسجم مع التنفيذ للأوامر والأجندات التي دأب الفضاء المدني على الالتزام بحذافيرها؛ وماذا تطلبين سيدة مدنية وممن ؟
وثانيا إن الهياكل القائمة التي لا يقدرها الشعب السوري، ولا تمثله ولا تعكس إرادته الثورية، وقد بذل الإقليمي والدولي جهدا كبيرا في تصنيعها هي محل تقدير واحترام من قبل “مدنية” ولن تمس، أكثر ما هنالك تتمنى “مدنية” أن تحجز لها مقعدا للفعالية والتأثير في المسارات وفق الواقعية السياسية التي تؤمن بها وتقرر في باريس ولندن ونيويورك وواشنطن، وتنفذ في سورية، تماما كالعصابة الحاكمة قبل الثورة من لحظة استيلائها على السلطة .
أما الإرادة التي انتهكت بسببها الأعراض الطاهرة والطفولة البريئة والدماء الزكية، وشرد من أجل منع تحقيقها ملايين الناس، واعتقل مئات الألوف فتلك لها أهلها، ولا علاقة “لمدنية” بها .
وإذا تمحورنا حول سؤالين جوهريين فإنه يمكن أن نستوعب خطوات 13 سنة مضت ومن بينها خطوة “مدنية” .
أولهما: لماذا الإصرار على تكرار الخطوة الهشة ذاتها، وهي دعوة أكبر قدر ممكن من الأسماء والمسميات، وتقديم الطعام والشراب لهم في مكان أجرته وتكاليفه باهظة، وإيجاد منبر خطابي استعراضي لبث الهموم والأحزان، ومسرح للخطط الورقية، وتثبيت التجمع الوهمي الذي يفتقد لأبسط مبادئ العمل الجماعي المشترك لأفراد من خلفيات متناقضة، لا يؤمنون بالعمل فيما بينهم إلا إذا دعوا هكذا دعوات، ولا يملكون وعيا بالمشتركات، وبعيدون كل البعد عن خطوات سياسية مشتركة فيما بينهم لا تكلفهم قروشا من تلك الأموال الباهظة التي أنفقت في باريس، هذا على فرض أنهم قادرون على تصورها وعملها وإيجاد مناخاتها، ويسافر بعضهم آلاف الأميال ليلتقي بأشخاص يعيش معهم في مدينة واحدة تفصلهم عشرات الأمتار عن بعضهم دون أن يجدوا وقتا فيها ليناقشوا ما ناقشوه في باريس؛ ويكرسون ثقافة المعلم الخلفي القادر على إدارة “اللعبة” من خلال ماله وأجرائه فيما يسمى ب “مجلس إدارة” ؟!
وفي السياق ذاته، لماذا يقبل المدعوون أن يكونوا مادة استهلاكية، ويحاولون أن يقنعوا أنفسهم وسواهم أنهم يجترحون حلولا جديدة وهم ليسوا أكثر من حالة استزلام أو مطية، ثمنها بطاقة طائرة وليلتان في فندق فاره مع وجباتهما ؟!
أليس الأصفري نفسه الذي جمع هؤلاء في باريس هو نفسه الذي جمع الكتلة الديمقراطية لتوسعة الائتلاف، ثم تفاعلت مع أمثالها وأحضرت إلى “جنيف2” وانتقلوا مذ ذاك من خطوة كارثية إلى أخرى أكثر كارثية، ومن صغار إلى صغار أدنى !
ما هو الجديد، وما هي المراجعة، وما هي الخطوات التي تتيح “لمدنية” أن تتجاوز هذا الإرث الانبطاحي الفاشل ؟
ثم تدعي حسب كلامها عن نفسها: “أننا كفاعلين مدنيين سوريين حول العالم وحدنا قادرين على إحداث الفرق عندما نعمل سوية للحصول على حقنا في ممارسة دورنا في صناعة القرار للتأثير على كافة المسارات المتعلقة بمستقبل هذا البلد، بما في ذلك المسار الحقوقي والتنموي والسياسي” .
أين ظهرت فاعليتكم السياسية ومتى؟ ما هو موقفكم من “هاوية جدة” بقيادة مملكة الظلام؟وماهو موقفكم من أستانة المشؤومة وما هو موقفكم من سياسة الولايات المتحدة التي يتم الإرهاب والخراب في سورية بإيقاعها بالدرجة الأولى؟
سيجيبون: القضية ليست بهذه السهولة، وتحتاج إلى حسابات سياسية .
وتسهل القضية جدا، وتغيب الحسابات، وترحل كل الملفات عندما تتعلق المسألة بتحرك إقليمي أو إشارة دولية !
وإذا كان الأصفري وأمثاله بما يملكون من وسائل ضخمة يخافون من تسخيرها لدعم أفراد سوريين كثر داخل سورية وخارجها يعلمهم أصغر متابع – على فرض أنه وزمرته يؤمنون بجدوى هذه الطريقة – فكيف لنا أن نتصور إمكانية العمل سوية والقدرة على صناعة القرار والتأثير على كافة المسارات حسب ما عرفت “مدنية” عن نفسها بأول سبعة أسطر ؟!
غياب واضح للموقف حيث يجب أن يظهر، وخوف مطبق من الدولي والإقليمي، وشح حيث يجب الإنفاق؛ ثم يريدون قيادة ثورة من أعظم ثورات العالم! أية رعونة هذه! والأكثر رعونة وضحالة منهم أولئك الذين يراهنون عليهم فيلبون دعوتهم !!
لا يعجبكم العجب، وعند كل خطوة ممكن أن تشكل انفراجة تضعون العربة أمام الحصان، ولا تتقنون إلا لغة التخوين، وتهدمون أسوار الثقة عند محاولة بنائها .
عبارات متقنة يرسلها فريق إعلامي متخصص في وقت وسياق مدروس لمنع أي حوار جاد، وإحباطا لأي نقد بناء، وتهربا من الأسئلة الدقيقة، وخوفا من المراجعة الذاتية، وتخليطا متعمدا بين المهنية التي تريد أن ترتقي بشعبها سياسيا وبين اللغة العشوائية أو الكيدية التي تعتبر لغة مرفوضة، وإجهاضا للسيادة واستعادة القرار من براثن الدولي المتسلط .
وهنا نجد السؤال الثاني المحوري ملحا: ما هو مفتاح العمل أو الحلحلة أو الحل في بلدنا سورية وفي منطقتنا عموماً؟ هل هو داخلي وذاتي بالدرجة الأولى والأكبر؟ أو القرار الخارجي هو المفصل والأهم ؟
على بساطة هذا السؤال وسهولته إلا أنه يمثل الحبكة والعقدة التي تتمحور حولها قضايا المنطقة، ويمثل النقطة الأبرز التي طرحتها ثورات الربيع العربي وعلى رأسها الثورة السورية .
جميع حكام المنطقة دون استثناء ضمن فترتين تاريخيتين، عمر الأولى 225 سنة، وعمر الثانية مئة وقليل، راهنوا على العامل الخارجي، واستغلوا الداخلي وتلاعبوا بعواطفه وبمقدراته، وأوهموه نفاقا وخداعا أنهم ينتمون إليه ولن يرضخوا ويفرطوا بتضحياته وتاريخه .
وكل من راهن على الداخلي وانتمى إليه وحسم خياره تجاهه جرى التعامل معه بطريقة دنيئة اغتيالا أو اعتقالا أو نفيا أو تشويها للسمعة أو حصارا مطبقا أو تضييقا محكما .
وشكلت ثورات الربيع العربي وخصوصا الثورة السورية قطيعة كبيرة مع هاتين الفترتين وحكامهما، دون أن تتمكن من التشكل والتموضع لأسباب واعتبارات ذاتية بالدرجة الأولى أهم وأدق من الموضوعية التي لا يمكن تجاوزها أو نكرانها أو التقليل من دورها وأساليبها، ولا يوجد بحدود اطلاعي ومعاينتي منذ الأسابيع الأولى للثورة حزب أو تيار أو حركة أو جماعة أو هيئة أو مجلس أو ما شابههم، له توجه خالص وقوي يراهن على الداخلي ابتداءا وحقيقة، وكل الهياكل القائمة الآن على اختلاف مواضيعها بعيدا عن بعض أفرادها تؤمن بالخارجي، وتتلقف توجهاته، وتعمل حسب إرادته وقراراته، إن لم نقل إملاءاته .
والأفراد السوريون الموزعون على عواصم شتى بأغلبيتهم هم على هذه الشاكلة، خاصة الذين يصمتون حيث لا بد من الكلام مع ضرورة التفريق بين التصريحات المعزولة عن السلوك السياسي أو المناقضة له .
ومن خلال حوارات جادة خاصة وعامة عقب الإضاءات أو لقاءات الصالون السياسي، فإنه يظهر مدى هشاشة الحجة عند من يعول على الخارجي، ولا يمكن استحضار كل هذه البنود، منها مثلا مما يقولونه: نحن لا نعيش في قرية نائية وحدنا! صحيح. لكننا أيضا لا نعيش في غابة قدر السبع أن يبقى فيها سبعا وقدر القط أن يبقى فيها قطا، ولا أريد أن أذكر مخلوقات أخرى .
والبلاد التي تتفاخرون بالعيش فيها الآن والتخرج في جامعاتها أو التدريس فيها، وهي صاحبة القرار السياسي في تقرير مصيرنا من وجهة نظركم ،كان سكانها في القرون الوسطى يشترون من كهنتهم أراض في الجنة !
يعيش الأصفري وسائر زمرته التجارية وهم شخصية الحريري منتج الطائف السعودي للبنان، ويتصورون وهو أحدهم أن ما يصلح في لبنان في تسعينيات القرن الماضي يصلح في سورية عقب ثورتها العظيمة، وأن الشعب السوري بعد كل الذي قدمه يمكن أن يقاد من شخصية أمثال هؤلاء وبالطريقة عينها، وهذه الجوقة التجارية والأصفري على رأسها باعتبار طريقة عمله في “مدنية” لا يختلف البتة في علاقته مع الشعب السوري الحر الكريم عن بشار المجرم حينما بصمت له مادلين أولبرايت، وكذلك لا تختلف عن سائر حكام المنطقة الذين يتعاملون جميعهم مع كرسي السلطة في بلادهم على أنه قرار خارجي، وشعوبهم رعايا أو قطيع.
إن إصرار الأصفري وزمرته – ومثله مناف طلاس ومجلسه – على هذه السلوكية الاستسلامية من جهة والاستعلائية بآن معا، فيها إهانة للشعب ولقراره، واستهتار بالتضحيات العظيمة التي قدمناها وما زلنا، وفيها استزلام للكوادر التي تتعاطى معها، وعلى الشعب السوري حالا ولاحقاً أن يتعامل مع هذه الخطوات لا باعتبارها أخطاءا، بل خطا سياسيا عمره أكثر من مئتي عام لم يثمر إلا مزيدا من الخيبة والخضوع والدمار .
ونتائج هذه الواقعية الانبطاحية لن تختلف عن أوسلو والطائف ووصفة برايمر في حكم العراق .
خلاصة القول: إن الأصفري وطلاس وأمين الشعبة وسائر المنضوين تحت أجهزة المخابرات يتحسسون الأضواء البرتقالية والخضراء الإقليمية والدولية، وهي توقظهم من سباتهم، وتنبههم من غفلتهم، وتطلق ألسنتهم، وتضبط تحركاتهم زمنا وطريقة؛ وأسمى طموحاتهم أن يقبل بهم المشغل الدولي بدلاءا للمجرم بشار .
أما الثورة فليست بديلا للطغاة، وفرسان الثورة السياسيون ماضون في خطهم السيادي لتحصين مجتمعاتهم من الذل والخضوع وعقود الإجارة .