فــي ذكــــــرى مــــــجـــــــــزرة مـــدرســـــــة الــمـــدفــــعـــــيـــة 1979 

  محمد خليفة

 تأمل الأحداث التاريخية القديمة ليس مجرد سرد للذكريات بل مراجعة نقدية تفيد في إعادة كتابة التاريخ وتصحيح أخطاء المؤرخين , وأهم من ذلك أنها توضح خفايا مجهولة أو غامضة مما جرى بعد زوال القيود , وتوفر الروايات والشهود العدول .

 في ضوء هذه الحقيقة أعتقد أن تاريخ سوريا في حقبة البعث منذ 1963 والى اليوم بحاجة لمراجعة واعادة تسجيل وتوثيق , وهو ما سيحدث مستقبلا بشكل تلقائي كما أتصور بعد زوال المحرمات السياسية وفتح الارشيفات الوطنية أمام باحثين جادين سوريين وغير سوريين , كما فعل الباحث الامريكي – العراقي حنا بطاطو في دراسة المادة الخام دراسة رصينة لتحقيق أقصى درجات الموضوعية في رصد وسرد الوقائع تمهيدا لإصدار الأحكام فيها .

 من هذا المنطلق أستذكر اليوم ثلاث مناسبات مهمة جدا وقعت في شهر حزيران / يونيو ومرت بنا ذكراها في الأيام الاخيرة . ثلاث مناسبات كان لها أبلغ الأثر على تاريخ سوريا الراهن , والعرب والمنطقة , وأرى أنها ما زالت بحاجة لكثير من الإجلاء والإيضاح من الجانب السوري خصوصا .

الأولى : حرب الخامس من حزيران / يونيو مع اسرائيل عام 1967 ودور حكام دمشق في التسبب بها وبنتائجها .

الثانية : مجزرة مدرسة المدفعية في حلب في 16 حزيران / يونيو عام 1979 وتأثيرها في تعميق الحالة الطائفية .

الثالثة : الغزو الاسرائيلي للبنان في الرابع من حزيران / يونيو عام 1982 من زاوية الدور السوري في تلك الحرب التي انتهت بهزيمة ثقيلة وفاضحة لجيش الاسد لا تقل عن هزيمته عام 67 .

وإذا كان الحدثان الأول والثالث معلومين للرأي العام خارج سوريا فإن الحدث الثاني مجهول لغير السوريين بالكامل رغم أهميته في ترتيب صفحات التاريخ المعاصر , وتأثيره المستمر الى اليوم , بل إن هذا الحدث محاط بالغموض والابهام الكثيفين للسوريين أنفسهم لعدم وجود رواية رسمية موثقة لما جرى في تلك الليلة الصيفية الحارة .

يومها كان النقيب ابراهيم اليوسف ضابط القيادة المناوب في مدرسة المدفعية في حلب , وسولت له نفسه أن يعرض على قيادة (تنظيم الطليعة الاسلامية المقاتلة) المنشق عن (الاخوان المسلمين) أن يقتلوا طلاب المدرسة العلويين اثناء مناوبته في إحدى الليالي ,فوافق قائد التنظيم عدنان عكلة (سوري من الجولان المحتل) وهو شخصية معروفة جيدا للسوريين . تم رسم الخطة واعداد العدة لتنفيذ العملية بمشاركة اعضاء التنظيم الذي كان قد بدأ منذ 1976 باغتيال شخصيات “علوية” بارزة في حلب وحماة وادلب ودمشق , وكان بعضهم أطباء ومهندسين بعيدين تماما عن السلطة , وهم في الغالب من سوريي لواء اسكندرون استقروا في حلب منذ الثلاثينيات واندمجوا في مجتمعها حتى لم يعد ما يميزهم .

في التاسعة مساء وصلت مجموعة رجال يقودهم عدنان عكلة الى مدرسة المدفعية وأدخلهم الضابط المناوب , وفي الحال قام هذا بإطلاق اشارة الاجتماع لطلاب الضباط الذين كانوا يستعدون للنوم فاجتمعوا في قاعة كبيرة , خاطبهم النقيب بكلمات آمرة لم يعتادوا على سماعها بهذا السفور : ليبق “العلويون” هنا وليخرج الآخرون !, نفذ الطلاب الأمر , بقي في القاعة ما يزيد على ثلاثمائة شاب , جميعهم من العلويين , أغلق اليوسف الباب بإحكام , وقام مع رفاقه المدنيين بإشهار بنادق رشاشة وفتحوا النار على العلويين في القاعة بشكل عشوائي حتى أردوهم جميعا !.

بعد إتمام المجزرة الرهيبة غير المسبوقة في تاريخ سوريا , وتاريخ مؤسستها العسكرية غادر المنفذون المدرسة واختفوا . ليلتها كان حافظ الاسد في زيارة رسمية الى بغداد فقطعها وعاد فورا وأصدر تعليماته بشن حملة شاملة على جميع من ينتمي للإخوان بدون تمييز , ومن يومها سيطر قانون النفي والنفي المضاد والعداء المطلق العلاقة بين النظام والجماعة .الحادثة كانت بمثابة الشرارة الأولى في حرب حقيقية بين الطرفين استمرت خمس سنوات, وحصدت ارواح ما لا يقل عن مائة الف سوري مدني وعسكري , وسببت اعتقال مثل ذلك العدد , وهجرة عدد آخر بالحجم نفسه من سوريا ,غالبيتهم من الاخوان والطليعة المقاتلة وفصائل اسلامية صغيرة, مع الاشارة إلى أن الاعتقالات والتصفيات لم تقتصر على الاسلاميين بل شملت شيوعيين وقوميين ويساريين انضموا للحراك السياسي للمطالبة باصلاحات سياسية فطالهم انتقام السلطة , وغالبيتهم ارسلوا الى معتقل “تدمر” الصحراوي الرهيب ليلقوا حتهوفهم ببطء .

 كانت تلك الأحداث الدموية أكبر وأقوى مواجهة عنيفة لنظام البعث – الاسد مع المعارضة السياسية والاجتماعية بين 1963 حين وصل البعث للسلطة و2011 حين انفجرت الثورة الشعبية , وهي أول مقدمة لاشتعال الصراع الطائفي بين السلطة العلوية المسيطرة على الجيش والدولة , والغالبية المسلمة , كما كانت أشبه بتجربة مصغرة ومبكرة لما سيحدث في سوريا بعد 31 سنة !

ولذلك ربما كان ممكنا تشبيهها بفترة بينوشيه في شيلي في سبعينات القرن الماضي , والحرب الاهلية في اسبانيا في ثلاثيناته , أو فترة الخمير الحمر في كمبوديا في ثمانيناته .

ورغم أهميتها القصوى ظلت تلك الحرب وفصولها المأساوية محاطة بالسرية التامة عن وسائل الاعلام في العالم , ولم يعرف منها سوى ما عاشه المواطنون وشاهدوه من أعمال قمع وقتل واعتقال ونسف همجية لجيش النظام , وقوات رفعت الاسد ( سرايا الدفاع) وأجهزة الاستخبارات التي كانت مطلقة الأيدي تحت مظلة معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفياتي ومظلة الحرب الباردة , وأعمال قتل طائفية من الجانب الآخر .

 أعتقد أن دراسة الفترة السياسية بين 1979 و1983 , بين مذبحة مدرسة المدفعية ومذبحة حماة عام 1982 , وتسليط الأضواء على ما شهدته سوريا من جرائم وانتهاكات رهيبة تكتسب من بين كل فصول وتجارب حقبة البعث – الاسد اهمية خاصة واستثنائية لأنها هي التي خلقت تحديدا الظروف الموضوعية والمقدمات الاجتماعية للانفجار الكبير الذي نعيش تجلياته حاليا , وحصد ارواح مليون سوري , وتهجير اثني عشر مليونا , وتدمير غالبية مدن سوريا ووضعت مصير البلاد في مهب الرياح , وأعتقد أن مخلفات تلك التجربة وامتداتها الراهنة ستترك آثارها على مستقبل سوريا لأمد طويل .

كل أزمة لا تعالج بطريقة صحيحة وعاقلة تمهد لا محالة لأزمة تالية أكبر وأخطر من نفس الصنف , هذه قاعدة معروفة في علم الاجتماع , ولا شك أن النظام التوتاليتاري الطائفي عالج تلك الأزمة بأكثر الطرق بطشا وتنكيلا , وأبعدها عن الحكمة والعقلانية والسياسة , فقيض له سحق خصومه يومئذ , مما رسخ لديه القناعة بأن (القوة) هي وسيلة كافية للتعامل مع الشعب ومع المعارضة , ومعالجة أي محاولة للتمرد , وهي القناعة التي حفزت وأغرت بشار الاسد وعائلته وعصابتهم لتكرار “الوصفة السحرية” التي أوجدها أبوه وعمه قبل ثلاثة عقود استقر فيها الحكم لآل الاسد حتى خيل اليهم أن الهيمنة على سوريا باتت ابدية ومطلقة , وسهلت لهم الانتقال على توريث الحكم .

بنفس الروح الوطنية والمنهجية العلمية لا بد أن يتناول الدرس دور الحركة الاسلامية السورية ومدى مسؤوليتها عن تعميق الانقسام الطائفي وتكريس عدم الثقة بين السنة والعلويين , والعكس بالعكس , لأن تبادل الانتقام والثأر لا يعالج بل يزيد الشرخ ويدمر الوحدة الاجتماعية ويبرر لكلا الطرفين ما يفعلانه , ويخلق ميكانيزما سوسيولوجيا ذا طاقة تتوالد ذاتيا لإدامة الأزمة والانشطار والصراع .

ما شهدته سوريا بين 1979 و1983 له تأثير مباشر على ما تشهده اليوم , وفي معطياته تكمن العوامل البنيوية لتحول الجيش من وطني إلى جيش علوي ولاؤه للعائلة الحاكمة لا للدولة ولا للشعب , وهو ما يفسر – ولا يبرر- ما ارتكبه النقيب ابراهيم اليوسف في مدرسة المدفعية , وهذه الامور من ناحية أخرى على صلة وثيقة أيضا بهزيمتي الجيش امام اسرائيل 1967 و1982 وتحوله الى جيش خانع أمام العدو الخارجي , وسلطة انكشارية بونابرتية طاغية بمواجهة المواطن والشعب , إذ بات ثابتا أنه يستحيل على جيش بهذه التركيبة المختلة وهذه العقيدة الفاسدة أن يحرز أي انتصار على اسرائيل وذلك بمفعول رجعي ومفعول مستقبلي .

********************

هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية العدد 281 الصادر ببيروت بتاريخ 26 / 6 / 2015 , ولذا وجب التنويه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى