انقلاب ميركل الأخير وأحداث ما قبل التاريخ

هارولد جيمس*

برينستون – أظهرت أنجيلا ميركل مراراً وتكراراً، طوال فترة توليها منصب مستشارة في ألمانيا، التي دامت طويلا، أنها تجيد خلق المفاجأة. أما الآن، فقد تفوقت على نفسها.

ففي العام 2010، خالفت ميركل التوقعات بالإصرار على إدراج صندوق النقد الدولي في الجهود المبذولة لإنقاذ اليونان. وبعد العام 2011، أغلقت محطات الطاقة النووية في ألمانيا، في أعقاب كارثة فوكوشيما في اليابان. ثم في العام 2015، فتحت حدود ألمانيا لأكثر من مليون لاجئ سوري. والآن، وافقت على اقتراح لإنشاء صندوق انتعاش مشترك بقيمة 500 مليار يورو (556 مليار دولار) لمساعدة الاقتصادات الوطنية الأكثر تضرراً من أزمة كوفيد-19، في الاتحاد الأوروبي.

وقد أثار كل واحد من هذه القرارات المتعلقة بالسياسات صرخات الغضب في ألمانيا، فضلاً عن انزعاج الأوروبيين الآخرين الذين يترددون في السماح لألمانيا بأن تضطلع بدور قيادي كبير. ولكن في كل مرة تصر ميركل على عدم وجود بديل. ومع ذلك، فإن هذه المفاجأة الأخيرة هي الأكثر جرأة. إذ أعلنت خلال مؤتمر صحفي عُقد مؤخراً مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قائلة أن “الدولة القومية بمفردها ليس لها مستقبل”.

ودفع احتمال إنشاء صندوق الانتعاش العديد من المراقبين إلى التساؤل عما إذا كان الاتحاد الأوروبي يقترب أخيرًا من “لحظة هاميلتونيته”. ففي السنوات الأولى للجمهورية الأمريكية، قال وزير الخزانة الأمريكي الأول، ألكسندر هاميلتون، أنه يتعين على الحكومة الفيدرالية “تحمل” الديون التي تكبدتها الولايات خلال حرب الاستقلال. وفاز هاميلتون في النقاش، لأن تبادل الديون بدا ضروريا لحل حالة الطوارئ المطروحة.

ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن أي أزمة يمكن أن تزيل العقبات التي تحول دون تكامل أعمق. فعندما اندلعت أزمة اليورو قبل عقد من الزمن، كان الفيدراليون يأملون أن تضفي زخما على المشروع الأوروبي. وبدلاً من ذلك، أصبحت الدول الأعضاء الشمالية والجنوبية أكثر انقساما بشأن الديون. وفي السنوات التي أعقبت ذلك، استدعت كل من روسيا والصين دولًا أعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى مداراتها، وانسحبت المملكة المتحدة رسميًا من الاتحاد الأوروبي، وتخلى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن التحالف عبر الأطلسي.

وعلى غرار أزمات الديون واللاجئين، أدت هذه التطورات الجيوسياسية إلى تعميق الانقسامات بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، في أوروبا. ودائما ما كانت الظروف التاريخية الرئيسية التي كانت ستسمح بدفعة جريئة تتجاوز الدولة القومية غائبة. والسؤال إذاً، هو لماذا يُتوقع من كوفيد- 19 أن يفعل ما لم يستطع فعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وترامب، والبريكسيت، والخلافات السابقة بشأن الديون.

وهناك سببان للاعتقاد بأن الأزمة الحالية مختلفة بالفعل. أولا، لأن الوباء هو في الأساس أزمة ولدت من العولمة، تتطلب استجابة عالمية تعاونية. ثانيا، لأن مقارنات معدلات الوفيات والعدوى بين البلدان والأقاليم، والعمق والنطاق المرعبين للتداعيات الاقتصادية للوباء، كلها عوامل تُعلِّق أهمية قصوى على الحوكمة المختصة بالنسبة لكثير من عامة الناس. والسبب وراء تسجيل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والبرازيل، أعداداً كبيرة من الحالات وعدد القتلى، لا يخفى على أحد. إذ لدى كل منها حكومة عاجزة وأيديولوجية وغير منسقة.

وعلى عكس ترامب أو الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، لا تميل ميركل وماكرون إلى اعتماد سياسات العاطفة. بل على العكس من ذلك، كلاهما يفخران بأنهما مديران بارعان يتخذان قرارات مبنية على الأدلة. وتشير الدلائل من جائحة كوفيد-19 إلى أن الدولة القومية غير مجهزة بالفعل لمواجهة الأزمة القائمة؛ فالاحتياجات الأكثر إلحاحًا إما محلية للغاية، أو تتجاوز حدود الولاية الوطنية.

إن مسألة “الاستجابات الضرورية” مؤثرة على نحو خاص في ألمانيا، التي، على غرار إيطاليا، نتجت من القومية في القرن التاسع عشر. وقبل أوتو فون بسمارك (ونظيره الإيطالي، كاميلو كافور)، كانت ما نسميها الآن بألمانيا، تتألف من عدة ولايات صغيرة. وكان لكل منها إحساسها الغني بالهوية المحلية، ولكن لم تكن أي واحدة منها كفئاً في مواجهة التحديات التقنية والاقتصادية، التي كان يفرضها عالم من الأسواق المتنامية، والتجارة، والأشكال الجديدة من الاتصالات والنقل. وعندما اتحدت هذه الكيانات الأصغر، لاحظ الصحفي الليبرالي، لودفيغ أوغست فون روشاو، أن ذلك لم يكن تعبيرا عن “تعاطف النفوس”، بل كان “مسألة تجارية محضة”.

وبعبارة أخرى، دُفعت الدولة القومية إلى الأمام في إطار عملي. وقبل سلام ويستفاليا في العام 1648، كان هناك 3000-إلى 4000 وحدة إقليمية مستقلة للمساءلة- معظمها يخضع فقط لولاية إمبراطورية فضفاضة. وبحلول القرن الثامن عشر، تراجع هذا العدد إلى 300-400؛ وبعد عام 1815، انضمت جميعها إلى الاتحاد الألماني. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت هناك ثلاث ولايات فقط مع عدد كبير من السكان الناطقين بالألمانية: الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والاتحاد السويسري.

وبعبارة أخرى، انخفض عدد الدول في وسط أوروبا بمعامل عشرة أضعاف كل قرن أو نحو ذلك. وهذا لا يعني أنه سيكون هناك قريبًا 0.3 دولة فقط في وسط أوروبا- فالتاريخ لا يتبع القوانين الرياضية. ومع ذلك، من الواضح أن الدول القومية القديمة تضطر إلى إعادة النظر في مركزها على مستوى العالم.

وفي الواقع، يمثل الحكم الأخير الصادر عن المحكمة الدستورية الألمانية ضد البنك المركزي الأوروبي الدفعة الأخيرة نحو مستوى أعمق من التكامل في الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أنه يفرض اسميا حدا على مشاركة البنك المركزي الألماني في برامج شراء السندات الخاصة بالبنك المركزي الأوروبي، إلا أن تأثيره لن يصل إلى إيقاف المشروع الأوروبي، بل فرض إنشاء أساس قانوني وسياسي يمكن من خلاله دعم هذا المشروع.

وفضلا عن ذلك، لا يوجد دستور أوروبي يركز أكثر من دستور ألمانيا على فكرة أوروبا. إذ ينص القانون الأساسي للعام 1949 على أن الشعب الألماني “مستوحى” من “التصميم على تعزيز السلام العالمي، ليكون شريكا متساويا في أوروبا الموحدة”. وبعبارة أكثر تحديدا، تنص المادة 24 من تلك الوثيقة صراحة على التنازل عن الحقوق السيادية من أجل “نظام سلمي ودائم” في أوروبا.

وفي القرن التاسع عشر، أنشئت الدول القومية من الدم والحديد. واليوم، يجري إنشاء شيء جديد من الطب، والسياسة الاقتصادية.

ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch

*يشغل هارولد جيمس منصب أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، ومنصب كبير زملاء مركز الابتكار الدولي للحوكمة.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.

المصدر: الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى