شيءٌ ما أيقظ هيئة التفاوض السورية المعارضة بعد غياب دام سنوات. عادت الهيئة للاجتماع بكل مكوّناتها في جنيف في 2 حزيران (يونيو) الجاري، بعد آخر اجتماع لها في الرياض في كانون الأول (ديسمبر) 2019. وإذا ما غيّبت ظروف لوجستية وموضوعية وسياسية الهيئة عن الفعل، فإنّ ما استجدّ داخل الملف السوري، لاسيما في الأشهر الأخيرة، استدعى، ونكاد نقول أخيراً، تحرّكاً للمعارضة السورية.
تبدّل المزاج الإقليمي على نحو جذري في علاقة عواصم المنطقة مع دمشق. وساهم الزلزال الذي ضرب سوريا في تقدّم ما هو إنساني لحلحلة عِقَد سياسية قادت لاحقاً إلى واجهات تطبيع عربي مع النظام السوري. اجتمع وزراء خارجية دول الخليج مع نظرائهم من مصر والأردن والعراق في جدة في 15 نيسان (أبريل) الماضي للتشاور في مسألة العلاقة مع دمشق، تلاه اجتماع آخر في عمّان شارك فيه وزراء خارجية السعودية ومصر والعراق والأردن في الأول من أيار (مايو) الماضي في حضور وزير الخارجية السوري.
مداولاتٌ كثيرة جرت في الاجتماعين، بعضها سُرّب إلى الإعلام، مهّدت لقرار جامعة الدول العربية في 7 أيار (مايو) الماضي بإعادة سوريا إلى مقعدها داخل الجامعة. بات بعد ذلك منطقياً دعوة الرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في القمّة العربية في جدة في 19 أيار (مايو) الماضي. ألقى الأسد كلمة هناك، لم تستنتج منها المعارضة أي تبدّل في قراءة دمشق للمسألة السورية.
وفي كل البيانات التي مهّدت لعودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، حتى تلك التي صدرت لمناسبة زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى جدة في 12 نيسان (أبريل) الماضي ثم زيارة نظيره السعودي فيصل بن فرحان إلى دمشق في 18 من الشهر نفسه، جرى التطرّق إلى مسألة “التسوية السياسية” من دون الاستغراق كثيراً في خريطة الطريق التي نظمّها قرار مجلس الأمن الدولي في القرار 2254، ومن دون أن تُظهر دمشق ومنابرها الإعلامية أي اهتمام بأي مسار سياسي. عملت دمشق على الترحيب بـ “العودة العربية”، مشدّدة على دعم العرب لإعادة الإعمار وانتشال الاقتصاد السوري، وكأنّها قواعد وشروط لعودة اللاجئين أو بعضهم.
يحقّ للمعارضة السورية أن تعبّر عن ذهول من تطوّرات داخل النطاق العربي، أعاد تعويم المسألة السورية من بوابة دمشق وحدها. بعض هذه المعارضة انتقد متفرّقاً الخطوات العربية، فأصدر العتب واللوم والتبرّم، وبدا بعيداً من تطوّر لم يكن في صورته ولم يوضع في سياق احتمالاته. ولأنّ التحوّلات الدولية تفرض وقائع وموازين قوى جديدة، بدت المعارضة مشلولة عاجزة عن التعاطي بنضج وبراغماتية مع ما استجدّ.
جرت التحوّلات العربية حيال دمشق لاحقة على تحوّلات “صاعقة” في موقف تركيا من المسألة السورية. كثر الحديث عن مصير اللاجئين السوريين في تركيا، واستُخدمت ورقة اللجوء السوري داخل السجال الحاد الذي شهدته حملات الانتخابات الأخيرة في شقّيها، التشريعي والرئاسي. فحتى مسار التقارب بين أنقرة ودمشق وما تحقّق من لقاءات على مستوى أجهزة المخابرات ثم وزراء الدفاع ثم الخارجية برعاية روسيا، جرى وفق منطق انتخابي لم يكن خافياً في حسابات الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته.
بدت المعارضة السورية مهمّشة خارج الفعل. بدا أيضاً أنّ علاقات مكوّناتها مع عواصم المنطقة، وخصوصاً أنقرة، فاقم صمتها وذهولها. ولأن تفهّمت المعارصة السياق الانتخابي التركي وأخذت بالاعتبار المصير المقلق لثلاثة ملايين لاجئ في تركيا، فإنّ الأداء التركي-العربي مجتمعاً استدعى قراءة متأنية لاستحقاق وجب الاعتراف بحدوثه ووجبت الاستفاقة للتعامل مع مفاعيله.
وفق ذلك، يمكن قراءة اجتماع هيئة التفاوض السورية المعارضة، وفي جنيف بالذات. وكأنّ المطلوب أن تُسمع المعارضة صوتها داخل ورش تعالت فيها أصوات كثيرة، وأن تدلي الهيئة بدلو تُقارب به الدول الإقليمية التي انخرطت في سياق التطبيع مع دمشق. فإذا ما كانت البيانات العربية تتحدث كلها عن “حلّ سياسي” للأزمة السورية، وإذا ما كان السياق التركي في هذا الصدد يكرّر لازمة “الحلّ السياسي” السوري، فإنّ في الأمر استدراجاً للمعارضة بأن تؤكّد مواقفها وتكرّر ثوابتها لاستخدام أوراقها داخل معادلة الـ”خطوة مقابل خطوة” التي أوحت بها بيانات جدّة وعمّان الوزارية والبيانات العربية الأخرى ذات الصلة.
ولأن طغت ضبابية في مقاربة الحديث الإقليمي عن “حل سياسي” في سوريا، ولأن أعادت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا التذكير في بيان مشترك في 16 آذار (مارس) الماضي بشروط وموقف المجتمع الدولي للتعامل مع دمشق قبل أي تطبيع مع النظام السوري، فإنّ بيان هيئة التفاوض أعاد وضع نقاط على حروف تلك التسوية السياسية المتوخاة. تكرّرت في كل مقطع من بيان الاجتماع لازمة الالتزام بالقرار الأممي 2254، الذي يرسم قيام حكم انتقالي تكون المعارضة جزءاً منه، وفق دستور جديد يتمّ التفاوض عليه في جنيف (وليس في دمشق وفق ما طالبت منصّة موسكو).
وإذا ما ارتأت جامعة الدول العربية تطبيع علاقاتها مع دمشق وفق نصوص تسووية، وإذا ما تجنّبت عواصم المنطقة تناول “الحلّ السياسي” في صيغ ومفردات لا يستسيغها النظام في سوريا (وإيران وروسيا من خلفه)، فإنّ من حقّ المعارضة أن ترفع السقف من دون لبس، وتدخل حلبة أوسع بشأن المعتقلين ومسائل المحاسبة والمساءلة، وكأنّها توحي بها لأصحاب الشأن لأخذها في الاعتبار في تمارين الـ”خطوة مقابل خطوة”. وطالما أنّ المنطقة تنخرط في حقبة تسويات، تستنتج الهيئة المعارضة “أنّ الظروف الدولية والإقليمية تُعدّ مناسبة لاستئناف المفاوضات المباشرة مع النظام”، ودائماً وفق القرار 2254.
حضر اجتماع هيئة التفاوض المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون. حضر أيضاً عدد من ممثلي الدول المعنية بالشأن السوري، وبدا أنّ للاجتماع بيئة أممية دولية حاضنة (لاسيما في لقاء نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي غولدريتش مع الهيئة)، وأنّ الحدث من عدّة شغل لاحق. في المقابل، يسيل حبر سوري كثير بشأن شرعية المعارضة وتمثيلية هيئاتها والحاجة إلى تحديث وترشيق مؤسساتها، بما في ذلك هيئة التفاوض. لكن الواقع يقول إنّ تحرّك الهيئة هو في الاتجاه الموضوعي الذي لا يسمح بكسل واستقالة وحرد.
وإذا ما يجري الاختلاف تحت سقف الهيئة، فإنّ خروج بيان موحّد يعبّر عن “إنجاز” داخل مشهد دولي إقليمي شديد التشرذم والتعقيد قد لا تجدّ المعارضة حيّزاً لها داخله. ولأن يعبرّ الحدث عن دينامية قابلة للنقاش، غير أنّ ما صدر عن الهيئة في جنيف، وما قد يلي ذلك من تحرّك أوسع، داخل صفوف المعارضة نفسها أو مع كل العواصم المعنية، قد يصبح ضرورة من لوازم تسوية ما زالت تفتش بصعوبة عن معادلات جديدة.
المصدر: النهار العربي