الحرب في أوكرانيا تتوقف على أفكار ومشاعر رجل واحد. بعد وقت قصير من توبيخ الغرب لروسيا بسبب غزوها لأوكرانيا عام 2022 وفرضه عقوبات مالية عليها بدرجة لم يسبق لها مثيل، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه يضع قوات بلده النووية في حالة تأهب قصوى. ومنذ ذلك الحين، أطلق الكرملين مزيداً من التهديدات النووية، بعضها صريح وواضح وبعضها غير مباشر.
وفي الواقع، إن مجرد احتمال أن يقوم بوتين في تنفيذ تلك التهديدات يثير قلقاً كبيراً. حتى قبل الحرب في أوكرانيا، تراجعت روسيا عن سياسة “عدم المبادرة إلى استخدام السلاح النووي” التي اعتمدتها لفترة طويلة زاعمة بموجبها أنها لن تستخدم سلاحها النووي مطلقاً ما لم يفعل العدو ذلك أولاً. ويعتقد بعضهم الآن أن روسيا تحولت إلى نهج يعرف باسم “التصعيد من أجل وقف التصعيد”، يتمثل في فكرة أن التصعيد النووي يمكن أن ينزع فتيل أزمة من خلال إثبات التزام جهة معينة بإلحاق الدمار بعدوها وإجباره على الاستسلام. في أوكرانيا، قد يعني ذلك استخدام عدد قليل من الأسلحة النووية التكتيكية المحدودة التأثير والمنخفضة القوة في ساحة المعركة، وهو أمر حذر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز وعدد من القادة العسكريين الأميركيين رفيعي المستوى من إمكان حدوثه. ومن جهته، ما قاله بوتين ببساطة هو إن روسيا تحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية إذا واجهت تهديداً “وجودياً”.
بيد أن الأمور التي تشكل تهديداً وجودياً بالنسبة إلى موسكو لم تحدد بشكل واضح في العقيدة الاستراتيجية الروسية. إنها تكمن في عين الناظر أي أنها تختلف بحسب ذهنية الفرد، وفي هذه الحالة، الناظر هو بوتين، الذي يحتفظ بالسيطرة الكاملة على الترسانة النووية الروسية، وإن كان ذلك خاضعاً لمتطلبات مزعومة تقتضي بأن يصادق وزير الدفاع الروسي ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة على أوامره بالإطلاق. بعبارة أخرى، تعتمد الإجابة على أحد أكثر الجوانب غموضاً في الأزمة الحالية: مزاج بوتين ونظرته إلى العالم.
تجدر الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من المناقشات بخصوص حال بوتين النفسية يتركز حول ما إذا كان الرئيس الروسي يتصرف بعقلانية. ويعتبر هذا الجدل مهماً، لكنه يفتقر في بعض الأحيان إلى الدقة والوضوح. إذاً، قد يكون النهج الأصح هو التساؤل عن الأمراض النفسية الشائعة التي، استناداً إلى النظرية والبحث السلوكيين، تبلور تصور الناس ونظرتهم إلى الحرب النووية، وكيف يمكن أن ينطبق ذلك على الزعيم الروسي. ولا يمكن لأحد أن يخمن إلى أي مدى سيصل بوتين في سياسة المجازفة النووية التي يعتمدها. لكن قد يتبين أن مزيجاً من الانحراف الإدراكي المعروف، أي الانحراف في طريقة معالجة المعلومة وفهمها، وبعض الميول النفسية الخاصة ببوتين تحديداً، يمكن أن تكون بالغة الخطورة إذا شعر بأنه محاصر في الزاوية، مع تداعيات هائلة محتملة حين تبدأ أوكرانيا هجومها في الربيع.
الدرع والسيف
منذ البداية، خيم شبح نووي على الصراع في أوكرانيا. على رغم خوض الحرب بالوسائل التقليدية، لم يكن بوتين ليبدأها من دون درعه النووي. وكانت محاولاته المتكررة لاستخدام السلاح النووي كوسيلة للإرغام عنصراً أساسياً في خطته الرامية إلى تحقيق عدد من أهداف الحرب، ولو أن هذه الاستراتيجية لاقت بالتأكيد درجات متفاوتة من النجاح.
أحد الأسباب، هو أن بوتين أعاد إحياء شبح الحرب النووية من أجل ردع تدخل حلف الناتو المباشر في ساحة المعركة. وقد نجح هذا بلا شك، والحالة هذه تقدم درساً لا تحمد عقباه للدول الأخرى، النووية وغير النووية على حد سواء، حول الحيز المتاح للعدوان تحت الستارة النووية.
لقد عقد بوتين الأمل أيضاً على أن تؤدي تهديداته إلى ردع المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، أو على الأقل الحد منها. ويبدو أن مستوى المساعدات محدود بالفعل خوفاً من التصعيد النووي. بيد أن نجاح جهود الإكراه التي تبذلها روسيا على هذه الجبهة آخذ في التراجع، إذ عمد تحالف من الداعمين إلى زيادة مستوى دعمه لأوكرانيا ببطء وقبل على الأقل بعض مخاطر التصعيد النووي للقيام بذلك. والجدير بالذكر أن أحدث الخطوات التي يتخذها هذا التحالف، المتمثلة في برنامج مشترك للحلفاء من أجل تدريب الطيارين الأوكرانيين على طائرات “أف-16” المقاتلة، تفتح الباب أمام تزويد أوكرانيا في المستقبل بهذه الطائرات المقاتلة المرغوبة للغاية.
وعلى نحو مماثل، فشل استلال بوتين لسيفه وتلويحه بالحرب في وقف توسع الناتو. فتخلت فنلندا بالفعل عن حيادها الطويل الأمد وانضمت إلى الحلف، مضيفة حدوداً تزيد على 1300 كلم للناتو مع روسيا. وفي منحى مقابل، تنتظر السويد موافقة تركيا للانضمام بعد ذلك إلى الحلف.
أخيراً، وربما الأهم من ذلك كله، هو رغبة بوتين في إجبار أوكرانيا على الاستسلام. ومن أجل دعم هذا الهدف، قد يميل الرئيس الروسي إلى الانخراط بشكل أكبر في سياسة المجازفة النووية. عموماً، في الحرب التي اتخذت مساراً سيئاً للغاية بالنسبة إليه، تظل الأسلحة النووية ضرورية لخططه وتحركاته المستقبلية.
نقاط مبهمة
عند تقييم استخدام الأسلحة النووية، سيواجه بوتين مفاضلات صعبة ولكن حتمية بين الأهداف المتضاربة. قد يؤدي التصعيد النووي، في رأيه، إلى تسريع الانتصار في حرب قاسية ومنهكة، لكن يجب عليه أن يقيم أية فوائد محتملة على المدى القصير ويقيسها بالنسبة إلى الأضرار المؤكدة سواء على المدى القريب أو البعيد. وتشمل تلك الأضرار الدمار، والخسائر في الأرواح، والضربات الانتقامية العقابية خارج حدود أوكرانيا، التي هددت إدارة بايدن وحلفاؤها بشنها، وكذلك الضرر الذي لا رجعة فيه، للناجين، والبيئة، ومعايير السياسة المحلية والدولية، وسلامة الحضارة الإنسانية. هذه المعادلة، إذا أعطيت ما تستحقه من تفكير وجهد، لن تشجع على التصعيد النووي.
ولكن بالاستناد إلى البحوث النفسية والأدلة التاريخية، تكمن المشكلة في أن الناس يكافحون عموماً للموازنة بين المخاطر والفوائد المتضاربة، بما فيها تلك التي تنطوي على أسلحة نووية. فحين نواجه تعقيدات معينة، نبسط الأمور، ونضيق نطاق تركيزنا إلى أن يظهر أمامنا خيار واضح. وعوضاً عن إنشاء معيار موحد، يمكن من خلاله تقييم القيم والأهداف المتنوعة وترجيحها بطريقة تعويضية [متوازنة]، فإننا نرتب أهدافنا بحسب الأولوية ونركز على تحقيق الأهم بينها. ووفق ما أشار إليه الباحثان كينيث هاموند وجيريل مومبور، فحينما تتنافس قيمنا، ننكفئ ونتراجع إلى “التركيز بشكل منفرد على القيمة المفضلة لدينا”. ويعرف تضييق الانتباه هذا باسم “تأثير العامل الأبرز” the prominence effect.
ومثل الضوء الكاشف، يركز “تأثير العامل الأبرز” انتباهنا على ما نعتبره السمات الأهم للقرار، مما يجعل تلك السمات تحظى بأولوية كبيرة وأحياناً قصوى، وهكذا يبدو الاختيار الصعب أسهل بكثير. في السياسة، يساعد هذا في تفسير ظاهرة الناخبين ذوي القضية الواحدة الذين يقدرون موقف المرشح بشأن قوانين ضبط الأسلحة، أو الإجهاض، أو الهجرة على سبيل المثال، مستبعدين أي عامل آخر.
وقد ثبت أن “تأثير العامل الأبرز” يقود الناس إلى تجاهل القيم الإنسانية، على غرار حماية الأرواح البشرية أو البيئة، لصالح أهداف أمنية يعتبر حدوثها وشيكاً والدفاع عنها سهلاً، أو أهداف شخصية جوهرية. (فالتصويت لجهة تركز على قضية واحدة، على سبيل المثال، شائع بشكل خاص في مسائل الأمن القومي، لا سيما في ظل ظروف التهديد) في القرارات المتعلقة بتطوير الأسلحة النووية واستخدامها، يجب على القادة أن يقارنوا بين الفوائد العسكرية والسياسية القصيرة الأجل، والعواقب الوخيمة الصعبة التقييم على المستوى الإنساني والاجتماعي والثقافي والسياسي. قد تؤدي صعوبة القيام بذلك بطريقة متوازنة ومنصفة إلى دفع العواقب الطويلة المدى إلى خارج دائرة أضواء اهتماماتهم، بغض النظر عن مدى أهميتها الجوهرية، بالتالي خفض عتبة تصعيد الصراع عند التعرض للتهديد أو مواجهة الخسائر.
حسابات التعاطف المميتة
الانحراف الإدراكي الآخر الذي يرجح كفة الميزان هو الصعوبة التي نواجهها في حساب المعاناة الجماعية. معظم الناس سمعوا بالقول المأثور إن “موت رجل واحد هو مأساة كبرى، أما موت ملايين فهو مجرد إحصاء”، حتى لو لم يكن جميعهم يدركون أن هذا القول ينسب في كثير من الأحيان إلى الزعيم السوفياتي مرتكب جرائم القتل الجماعية جوزيف ستالين. وعلى غرار مقولات أخرى من هذا النوع، مثل “الإحصاءات هي عبارة عن بشر جفت دموعهم” [أي أن الإحصاءات تفشل في تحريك عواطف الناس]، فهي تجسد حساباتنا الخاطئة في ما يتعلق بالتعاطف. نحن نكترث لحياة الأفراد، بيد أن مصائر جماعات من الناس مجهولي الهوية والأسماء تولد لدينا شعوراً باللامبالاة، ونعتاد بسهولة على الخسائر الكبيرة في الأرواح. ويعرف ذلك باسم “التخدير النفسي”.
تحمل حياة شخص واحد أهمية كافية لجعل بعض الأشخاص يؤدون أعمالاً بطولية من أجل إنقاذ أرواح أشخاص غرباء عنهم تماماً. في المقابل، من الأصعب بكثير تقدير إنسانية مجموعات أو شعوب بأكملها. وهناك تجارب عديدة حول السلوكيات المنقذة للحياة تكشف عن هذا الخلل في الحسابات الإنسانية، مما يدل على أن حدسنا، الذي نثق به لتوجيهنا في اتخاذ جميع أنواع القرارات، لا يتضاعف. مع ارتفاع عدد الأرواح المعرضة للخطر، يبدأ التخدير النفسي في تبليد أحاسيسنا وإضعافها. في بعض الحالات، كلما زاد عدد الذين ماتوا، قل اهتمامنا.
إذا رفعنا الأرقام بشكل كبير، قد تتلاشى مشاعر التعاطف لدينا أو تنهار تماماً. في عام 2015، أثارت صورة لآيلان كردي، اللاجئ السوري البالغ من العمر عامين الذي جرفت جثته على أحد شواطئ تركيا، غضباً وقلقاً حول العالم أكثر بأشواط مما أثارته الإحصاءات التي توثق مقتل مئات آلاف من القتلى في الحرب الأهلية السورية حتى تلك اللحظة. إذاً، فأعداد القتلى المتزايدة باستمرار لا تفاقم بالضرورة الشعور بالرعب، ناهيك عن الغضب ضد أولئك الذين يرتكبون الحرب أو الإبادة الجماعية. وعلى نحو مشابه، فإن أي زعيم مستعد لقبول حرب نووية قد لا يتأثر باحتمال وقوع إصابات جماعية. وبعد تجاوز عتبة منخفضة للغاية من الإحساس بمعاناة الأفراد، قد تتوقف هذه الأرقام عن التأثير في عملية صنع القرار.
المفاضلة والخيارات الفتاكة
تشير البحوث حول “تأثير العامل الأبرز” والتخدير النفسي إلى ديناميكيات نفسية عامة يمكن أن تبلور عملية صنع القرار لدى بوتين. لكن ما الذي يعرفه علماء النفس عن طريقة تفكير الناس تحديداً في موضوع استخدام الأسلحة النووية؟ لأسباب مفهومة، من الصعب الحصول على دليل حسي وملموس (مستقى من تجربة واقعية) على هذا السؤال. أجريت استطلاعات رأي عدة من أجل قياس دعم الأميركيين لاستخدام الأسلحة النووية. بيد أن تلك الاستطلاعات عادة ما تفشل في افتراض الاحتمالات التي قد يواجهها القائد في الحياة الواقعية، مثل الاختيار بين المخاطرة بحياة الجنود الأميركيين والضربة النووية التي ستقتل أعداداً كبيرة من الأجانب غير المقاتلين. في الواقع، كانت هذه المعضلة في صميم قرار الرئيس الأميركي هاري ترومان بإلقاء قنابل نووية على هيروشيما وناغازاكي في عام 1945. وهذه المفاضلة المستحيلة هي نوع من أنواع الظروف المحيطة بعملية صنع القرار التي تسمح لـ”تأثير العامل الأبرز” والتخدير النفسي بأن يزيدا عن حديهما.
في تجربة استقصائية أجريت عام 2017، حاول الباحثان سكوت ساغان وبنجامين فالنتينو أن يحددا بشكل تقريبي كيف سيتعامل الأميركيون اليوم مع الاحتمالات مثل التي واجهها ترومان في الماضي. واقترح الاستطلاع على المشاركين سيناريو افتراضياً ينطوي على حرب برية صعبة بين الولايات المتحدة وإيران. واستطراداً، عرضت على المشاركين قصة إخبارية أشارت إلى أن الحرب تتخذ مساراً سيئاً، وقدرت أن 20 ألف فرد إضافي من العسكريين الأميركيين قد يموتون في حال استمرت. ثم سئلوا عما إذا كانوا يوافقون على توجيه ضربة نووية إلى ثاني أكبر مدينة في إيران من أجل إنهاء الحرب والحفاظ على أرواح القوات الأميركية. كذلك، قيل للمشاركين إن الضربة قد تقتل 100 ألف مدني إيراني. وفي سيناريو ثان، ارتفع عدد القتلى المتوقع إلى مليوني مدني إيراني.
في الحقيقة، اعتبرت نتائج الاستطلاع مثيرة للقلق، إذ أيد أكثر من نصف المشاركين اللجوء إلى الخيار النووي، ولم يشكل لهم فرقاً يذكر إذا كانت الضربة ستقتل 100 ألف أو مليوني إيراني، الأمر الذي يتوافق مع مفهوم التخدير النفسي. وفي الواقع، يشير استعدادهم لإمكان قتل ملايين المدنيين من أجل حماية 20 ألف من الجنود الأميركيين إلى الأهمية (أي العامل الأبرز) التي ينسبونها إلى الأمن القومي، ولا مبالاتهم بحياة المدنيين التابعين للعدو.
في مقلب مغاير، قامت دراسة أخرى، شارك في تأليفها أحدنا (سلوفيتش)، بتكرار دراسة ساغان وفالنتينو، لكنها بحثت بشكل أعمق في نظرة المشاركين إلى العالم. دمجت وجهات النظر حول الإجهاض، وعقوبة الإعدام، وضبط الأسلحة، والهجرة في معيار كمي واحد يقيس درجة تأييد الشخص بشكل عام لمعاقبة أولئك الذين يعتقد أنهم يستحقون معاملة قاسية. كلما ازداد دعم شخص ما للسياسات العقابية ضد الآخرين الذين أساءوا إليه أو هددوه (على سبيل المثال، حظر الإجهاض بمجرد سماع نبض الجنين من دون استثناء للاغتصاب أو سفاح القربى)، ازداد تأييده بطريقة موازية لفكرة إلقاء قنبلة نووية على المدنيين الأعداء.
واستطراداً، أجريت متابعة استقصائية أضافت أسئلة حول العدالة العرقية (بما في ذلك التمييز العنصري في أحكام السجن، التي غالباً ما تؤدي إلى قضاء الأشخاص ذوي البشرة السوداء عقوبات أقسى من آخرين ارتكبوا الجرائم نفسها) والإيمان بالجحيم، العقوبة النهائية القصوى. وتبين أن المشاركين الذين أيدوا ست طرق أو أكثر من أصل ثماني طرق لمعاقبة الناس أو تقييد حقوقهم، كانوا يظهرون ميلاً إلى الموافقة على توجيه ضربة نووية للمواطنين الإيرانيين أكثر بـ10 مرات من أولئك الذين عارضوا مثل تلك المقاربات العقابية. كذلك، أظهرت نتائج الاستطلاع شعوراً بالعدالة الأخلاقية بين مؤيدي التصعيد النووي، الذين كانوا يميلون إلى الاعتقاد بأن الضحايا الإيرانيين يستحقون مصيرهم وأن قصفهم كان أخلاقياً. ويتماشى هذا مع الفكرة القائلة بأن مرتكبي الأذى غالباً ما يعتقدون أن أعمالهم العنيفة هي أعمال فاضلة. عندما يتضح أن العنف تجاه العدو ليس مبرراً فحسب بل فاضلاً أيضاً، فإن عتبة منع استخدام القوة، أو تجنب التصعيد، تقل وتتضاءل بشكل كبير.
“لئيم، متعطش، عنيف”
لا يزال من المستحيل إعطاء تقدير دقيق لاحتمالية حصول تصعيد نووي روسي في أوكرانيا. في المقابل، قد يكون من الأسهل التنبؤ بالأمور التي يمكن ملاحظتها في حال أصبحت الضربة النووية الروسية في أوكرانيا وشيكة. ذكر خبير الأسلحة النووية بافيل بودفيغ، على سبيل المثال، أربع علامات يجب مراقبتها: إطلاق الكرملين تهديدات نووية أكثر وضوحاً ودقة، هزيمة ساحقة تواجهها القوات الروسية يلقي فيها الداخل الروسي اللوم على بوتين شخصياً، ونقل الأسلحة النووية التكتيكية من المخازن إلى الميدان، واعتراض الاتصالات الروسية التي تشير إلى نية محتملة باستخدام الأسلحة النووية.
لكن الدلائل على أن روسيا تستعد لضربة قد تكون حيلة تهدف إلى تخويف حلفاء أوكرانيا ودفعهم إلى التنحي جانباً. ولن تأتي مثل هذه الإشارات إلا في مرحلة متأخرة من جمع المعلومات الاستخبارية، مما يعني أنه لن يبقى ما يكفي من الوقت لتقييم معناها بشكل صحيح. وعلى رغم ذلك، يمكن للمعلومات المستقاة من البحث النفسي أن تسلط الضوء على المراحل المبكرة من عملية صنع القرار. واستطراداً، من الممكن أن تساهم عوامل مثل “تأثير العامل الأبرز”، والتخدير النفسي، ومفهوم “العنف الفاضل” virtuous violence المزعوم، في الكشف عن الطريقة التي يعتمدها زعيم مثل بوتين في تقييمه للمخاطر، وبالتالي توليد إحساس مبكر بالاحتمال النسبي لاستخدامه أسلحة نووية.
استناداً إلى عدد من تصريحاته السابقة، فإن رغبة بوتين في الحفاظ على السلطة بإحكام وطموحه لقيادة إمبراطورية روسية حديثة نحو عصر ذهبي جديد هما من بين أبرز أهدافه. وفي الواقع، سيكون كلا الهدفين في مهب الريح إذا استمرت الحرب في أوكرانيا في التعثر. والجدير بالذكر أن بوتين لا يزال يشعر بالظلم بسبب المهانة المتصورة الناجمة عن تفكك الاتحاد السوفياتي، ويرى نفسه على أنه يحتل مكانة فريدة في تاريخ روسيا. وعلى حد تعبيره، هو النسخة الحديثة للإمبراطور بطرس الأكبر القادرة على استعادة الأراضي المفقودة واسترجاع المكانة السابقة التي كانت بلاده تحتلها بصفتها قوة عالمية كبرى. وتميل مثل هذه السمات النرجسية إلى تضخيم قوة التخدير النفسي وتقليل إدراك المرء لقيمة حياة الآخرين، هذا إذا فكر في تلك الأرواح في الأساس.
إن قسوة بوتين أسطورية وقد خدمته بشكل جيد في الحصول على السلطة والمحافظة عليها. وتشير البراهين والمعلومات الموثقة إلى أنه يحقد على أولئك الذين ينتقدونه أو يقفون في طريقه وينتقم منهم. ولديه سجل طويل في رمي المعارضين السياسيين خلف القضبان واغتيالهم والموافقة على جرائم الحرب في الشيشان وأوكرانيا. كذلك، فهو يصور الحرب في أوكرانيا على أنها قتال عادل ضد النازيين ويجرد أولئك الذين يجرأون على انتقاده من إنسانيتهم، فيشبه الأشخاص الذين يعارضون غزوه بالبعوض الذي يدخل إلى الفم ويجب بصقه على الرصيف.
ويربط رواة السير الذاتية هذه النزعة، المتمثلة في الاعتقاد بأن الوحشية هي مهارة مستخدمة للبقاء على قيد الحياة، بمرحلة الشباب في حياة بوتين. وفق ما كتبته الصحافية ماشا غيسن عن مسقط رأس الرئيس الروسي، “كانت ليننغراد بعد الحصار مكاناً قاسياً جائعاً وفقيراً تربى فيه الأطفال على اللؤم والجشع [التعطش] والعنف”. وبصورة تتناسب مع هذا الوصف، كان بوتين الشاب سريع الغضب. وفي هذا السياق، كان أحد أصدقاء بوتين أخبر غيسن، أنه إذا أساء إليه شخص ما، “كان يهاجم الرجل فوراً، ويخدشه، ويعضه، ويقتلع خصلاً من شعره، ويفعل أي شيء يخطر في البال كي لا يسمح لأحد بإذلاله بأي شكل من الأشكال”.
علاوة على ذلك، تأثر بوتين بشدة بتجربته كضابط شاب في الـ”كي جي بي” KGB في دريسدن في عام 1989، التي تزامنت مع سقوط جدار برلين. لقد صدم من السرعة التي تسببت فيها قوة الشعب بانهيار ألمانيا الشرقية، وشعر بالخيانة لأن موسكو لم تصدر أي رد فعل. يمكن أن تعزى رغبته اللاحقة في السلطة والثروة، وعلاقاته الاجتماعية الدائمة والثابتة، إلى تلك التجربة السابقة التي شهد فيها تغيراً اجتماعياً سريعاً.
بصفته قائداً، تفاقمت عقلية الحصار Siege mentality [حالة ذهنية يعتقد فيها فرد أو مجموعة من الناس أنهم يتعرضون للهجوم أو الاضطهاد أو العزلة باستمرار في مواجهة النوايا السلبية لبقية العالم] التي عاناها بوتين، وتحولت إلى ما وصفه الصحافي ميشيل إلتشانينوف بأنه شعور دائم بدور الضحية، وتركيز على ما يعتبره إذلالاً واضحاً وإهانات موجهة ضد روسيا. على مدى عقود، نمت لدى بوتين نظرة متشككة إلى العالم ولكن متماسكة. وفي رأيه، كانت روسيا طوال قرون ضحية لمحاولات احتوائها وتقطيع أوصالها. وفي أوكرانيا، أخذ بوتين على عاتقه مرة أخرى أن يقاتل ويناضل.
تمن الأفضل، واستعد للأسوأ
لم يتراجع بوتين أو يتوان على رغم الخسائر الفادحة في ساحة المعركة والعقوبات الاقتصادية القاسية. ويبدو أنه منشغل جداً بالأمن القومي وبرغبته في السيطرة. ومن المؤكد أنه يعتبر هجومه على الأوكرانيين أمراً فاضلاً، إذ ذهب إلى حد الادعاء بأنه “ينتزع النازية” من دولة يقودها رئيس يهودي، رجل حارب جده النازيين في الحرب العالمية الثانية. كل هذه الأمور، من التخدير النفسي والأهمية القصوى للاعتبارات الأمنية إلى العنف الفاضل المزعوم، تنذر بأنه لن يسعى إلى السلام من دون استسلام أوكرانيا.
بالطبع، من المستحيل إجراء تقييم دقيق لاحتمالات استخدام بوتين أسلحة نووية في أوكرانيا، بيد أن عدم اليقين وعدم الدقة يختلفان تماماً عن الجهل. تشير النظرية والأدلة النفسية، المدعومة بمعلومات تاريخية عن الحروب، إلى وجود مخاطر عالية بما يكفي تقتضي بأن تضع الحكومات الغربية خططاً مسبقة. يجب أن يدرسوا الآن ردود فعلهم المحتملة على تصعيد قد يشكل صدمة بالنسبة إليهم، ولكن ليس من المفترض أن يشكل مفاجأة. خلافاً لاستطلاعات الرأي التي تفترض نظرياً وجود خطر يهدد الجنود الأميركيين، فإن هشاشة وضع بوتين (بسبب الأوضاع على أرض المعركة) حقيقية وكبيرة. لقد كانت خسائر روسيا صادمة، متخطية بشكل كبير عتبة 20 ألف جندي التي قد يعتبر عدد من الأميركيين أنها تستدعي استخدام الأسلحة النووية.
وفكرة أن بوتين لم يتخذ هذه الخطوة بعد، على رغم مواجهة خسائر فادحة في الأرواح، هو سلوى واهنة. قد يراهن على أن الوقت لا يزال في صفه وأن حرب استنزاف غير نووية مطولة ستقضي حتى على آلة الحرب الأوكرانية وداعميها. لكن اهتمامه النرجسي، الذي يركز على إبقاء قبضته على السلطة، يمكن أن يؤدي إلى تقليص الإطار الزمني بشكل كبير. مع استمرار جنرالاته ومرتزقته في الاقتتال الداخلي، قد يخوض مزيداً من المجازفات من أجل إنهاء الحرب في وقت أبكر. وبالتالي، سيجعل البشرية تندم لأنها لم تبعده عن أكثر أسلحتها فتكاً.
روز ماكديرموت بروفيسورة جامعية في مقعد دايفد وماريانا فيشر للعلاقات الدولية بجامعة براون.
ريد بولي بروفيسور مساعد في العلوم السياسية وأستاذ مساعد للعميد في الأمن والسياسة النوويين بجامعة براون.
بول سلوفيتش بروفيسور في علم النفس بجامعة أوريغون ورئيس معهد “بحوث علوم اتخاذ القرارات” Decision Research
مترجم عن “فورين أفيرز” 30 مايو 2023
المصدر: اندبندنت عربية