قراءة في رواية : قيامة جميلة|| الجبال في حلم التقائها بين قسنطينة والجودي

أحمد العربي

د . اديب حسن طبيب وكاتب سوري قرأنا له بعض رواياته وكتبنا عنها سابقا ، منها الخزاف الطائش . وهذه روايته الجديدة قيامة جميلة من اصدار موزاييك في اسطنبول اقرؤها واكتب عنها.

ندخل منذ بداية الرواية في عوالم وجدانية مشاعرية مع أجواء صوفية تجعلها معجونة في سياقها بين الواقعية والتبحر الصوفي والامتلاء المشاعري. فنحن أمام أحداث محدودة، لكننا في ذات الوقت نحن أمام اكوان نفسية شاعرية لشخصيات الرواية الرئيسيين. جان الشاب الكردي ابن جبل الجودي حيث مثوى العاشقين الأبديين ممو و زين. وجميلة ابنة قسنطينة المدينة الجزائرية الشهيرة بجسورها المعلقة الواصلة بين جبالها الشاهقة. تسرد الرواية أحيانا على لسان الراوي وتارة على لسان شخصياتها الاساسية بتوالي يكمل الحدث وينضج العمق المعرفي والوجداني لأبطال الرواية.

جان الراعي الكردي السارح وراء قطيعه، المتبحر بالكون الذي يحيط به بحثا عن معنى ما. يلتقي بشيخ في أثناء رعيه، يطلب منه بعضا مما معه من غذاء في زوادته المتواضعة، يعطيه منها، يشكره الشيخ وينبئه بلقائه بجميلة التي ستملأ حياته حبا وشغفا . جميلة في مدينة قسنطينة الجزائرية وهو في جبل الجودي حيث جغرافيا بلاد الكرد والمسافة بين المكانين تساوي المسافة بين الأرض والسماء. لكن النبوءة أقوى من الواقع وتدفع جان للذهاب الى قسنطينة حيث مرقد الصوفي الشهير سيدي مسيد ليصل الى جميلته التي وعد بها…

يترك جان وراءه كل شيء ويشد الرحال الى

جميلة في بلادها الجزائر، لقد ارتحل مع آخرين أغلبهم مات على الطريق أما هو فقد تحول الى نسر اوصله الى قسنطينة وسيدي مسيد وجسره الشهير. ذهب تحكمه المقولة الصوفية : المسير في الطريق أهم الوصول. لا ندري نحن كقراء هل وصل فعلا الى هناك أم أنه نوى الرحلة وانتهت به في بلاد الخليج العربي حيث التقيا هناك بعد ذلك…

جميلة ابنة التسعينيات في الجزائر ومسقط رأسها قسنطينة، البلاد التي عاشت تجربة ديمقراطية في الحكم والتي انتهت بسيطرة التيار الإسلامي على المجلس النيابي، وهذا ما لم يقبله العسكر فانقلبوا على التجربة الديمقراطية الوليدة، وعادوا الى حكم عسكري استبدادي. ازاح الوسطيين الإسلاميين من المشهد الجزائري ودخل الجهاديين الإسلاميين على اثره بصراع مع السلطة الاستبدادية لعشر سنوات كانت قاسية جدا على الجزائريين فبين نيران العسكر التابعين للسلطة والجهاديين الذين يحاربونها ضاعت الحقوق وأزهقت الدماء وعاش الجزائريين في ويل ومآسي. جميلة ابنة تلك المرحلة تعيها بطفولتها. حيث زرعت في نفسها خوف ورهاب من العنف بأنواعه ومن نتائجه الأليمة. لذلك ما إن كبرت حتى فكرت ان تغادر الجزائر الى بلاد الخليج التي كانت جنة العرب الموعودة حيث يذهب إليها كل باحث عن فرصة عمل أو مال…

أدركنا من سياق الرواية أن جميلة كانت قد تزوجت واستمر زواجها ثلاث سنوات ولم ينجح ذلك الزواج، لا تفاصيل…

كانت قد تزوجت اخت جميلة من أحد الخليجيين زواجا سريا واحضر زوجته لبلاده ، وهكذا وجدت جميلة فرصة السفر الى هناك وان تعيش عند اختها. اختها التي لم تكن راضية عن هذا الزواج وكأنها اُحضرت لتلبي نزوات زوجها الجنسية كل عدة أيام وتعود حياتها مغلقة وكئيبة. لكنها لن تستسلم لذلك. ستعوض عن حرمانها من زوجها. عندها خادم وكلب صغير، الخادم يقوم بأدوار خدمة جنسية شاذة لها. وعوضت ايضا بإشباع رغبات التبضع والتملك…

لم تكن جميلة تقبل بحياة اختها، لكنها لا تملك اي قدرة على تغيير حياتها. بل هي بحاجتها، لذلك سكتت على واقع اختها على مضض. جاءت جميلة الى تلك البلاد وهي تحلم بعمل مجزي وان تحصل بعض المال لتعود إلى بلادها يوما تبني حياة أفضل. كان إيجاد العمل صعبا والمنافسة حادة. كما أن سوق العمل للفتيات مقترن دائما باحتمال أن يقارن بمطالب جنسية ترفضها اغلب الفتيات اللواتي جئن للعمل وليس للدعارة المقنّعة… مع ذلك كانت جميلة تدرك المسافة الفاصلة بين الخطيئة والطريق المؤدي لها. كانت تمنع نفسها من الوقوع بها كل الوقت.

بدأت تبحث عن عمل ووجدت فرصة عمل في متجر عطور. نجحت في عملها ، لذلك حصلت على ترقية بعملها وأصبحت مسؤولة عن قسم في الشركة. بالطبع الشركة لها مدير ومديرها له مطالبه التي تنتهي غالبا بالسرير. له محظياته وله من يصطاد له النساء في العمل من النساء والرجال. يتصرف كشهريار يمتلك سلطة المال والتشغيل. كثيرات من يقعن في حبائل هذه المعادلة الظالمة وينتهين سلعة مستهلكة وغالبا ما يطردّن من العمل بعد أن يخسرن انفسهنّ وشرفهن …

لم تكن تعلم جميلة بقدرها الذي استشرفه الشيخ عندما أخبر جان به في جبل الجودي. وان جان يركض وراء كشفه الصوفي حتى يصل إلى البلد الخليجي نفسه. ويعمل في ذلك المبنى الضخم ويكن قريبا منها وبجوارها. يقترب منها بحذر…

عاشت جميلة مشاعر إيجابية تجاه جان الذي بقي متحفظا كل الوقت، يقترب منها رويدا رويدا. ويتجاوز تخوفه بعد وقت ويكتب لها رسالة يبث لها حبه. تجيبه بعد وقت انها تبادله المشاعر اياها. ليبدأوا رحلة حب استطاع التحقق . استطاعت جميلة ان تهرب من إشارات ومحاولات تحرش مسؤول عملها وأن توقفه عند حدّه. لكن ذلك قد يؤدي إلى طردها من العمل. لم تكن جميلة تخاف على نفسها خاصة بعد ان التقت بحب حياتها جان. تطورت بينهما العلاقة وأصبحت علاقة جسدية. تعوّض عن حرمانه وحرمانها الجسدي وتروي حبهما وتعطشهما لبعضهما. لكن ذلك لن يستمر طويلا حيث تصاب جميلة بمرض خطير في رحمها تحتاج على اثرها لعلاج طويل. وقد يودي بحياتها.

اصاب جميلة الخيبة وقررت الانعزال وابتعدت عن حبيبها جان، ولم تخبره بما حصل معها، وهذا ما أذهله. لم يتركها استمر يتابعها عبر اتصالاته ورسائله العشقية عبر الهاتف او الصاق الاوراق على زجاج نافذة سيارتها. لكنها لم تستجب له. لذلك اخذ يبحث عن سبب ابتعادها عنه ووصل إلى طبيبتها وعرف مرضها. وقرر انه لن يتخلى عنها وسيبقى بجانبها مهما حصل معها. .

اسودت الحياة في وجه جميلة ابتعدت عن العمل. عادت تحتاج لاختها لقضاء حوائجها في الحياة. وانتظرت علاجاتها لعلها تشفى وانعزلت عن كل محيطها بما فيهم جان. الذي خافت عليه من أن تعديه بمرضها القاتل…

تراكمت المآسي على بعضها فقد جاء فيروس قاتل يجتاح العالم (كرونا) وأصبح كل من يعمل في الخليج يفكر أن يهرب إلى بلاده فإن كان لا بد من الموت فليكن في بلادنا وبين اهلنا. هذا ما فكرت به جميلة وأختها التي طلقها زوجها وأمرها بالعودة الى بلادها…

أما جان الذي تتبع حكاية جميلة ومرضها العضال فقد قرر أن يبقى جوارها، وعندما قررت جميلة ان تعود الى الجزائر وتستقر في بلدتها قسنطينة، فقد قرر السفر معها دون علمها. وهكذا حصل.

تنتهي الرواية عندما ترى جميلة طيف حبيبها جان صاعدا سلالم  طائرتها المتجهة لبلادها…

في التعقيب على الرواية اقول:

استوقفتني كثيرا اللغة الجزلة الممتلئة شغف ولهفة ومشاعرية عند الكاتب. وان الحدث الروائي عنده ليس إلا مجالا حيويا يعرض من خلاله ما يراه حول الانسان. المرأة والرجل، الحب والغرائز. نظرة منتقدة ضمنا لواقع بلادنا العربية. جان الذي صمت عن حال الكرد وما حصل معهم عبر عقود. الجزائر وكونه ضحية الاستبداد و الجهاديين العنيفين. الخليج تجارة المتعة و تسليع كل شيء بما فيه الإنسان ذاته. البلاد التي تطرد أبناءها. والبلاد التي تستقبلهم اقنان بشكل غير رسمي. بيع الإنسان لنفسه وبأرخص الأثمان. ثم الوباء كورونا الذي جاء مكملا مأساة حياة هؤلاء الناس يحصدهم بموت عبثي. لكن الحب حاضر وكأنه هبة انقاذية للبشر. لكنه كان مهزوما كل الوقت سواء بسبب نقص وعي المحبين أو سوء ظروفهم. لكنه بقي البرق المضيء في ظلمة حياة نعيشها بألم للاسف الشديد…

هل يكون الحب علاج مشاكل العالم.؟.

 لعله كذلك… لكنه مجرد أمنية غير قادرة على التحقق مع الأسف…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى