محمد صدّيق عثمان طالب سوري في الصف الحادي عشر، يقطن في الأحياء الشعبية المجاورة لدمشق العشوائيات. محمد من المكوّن الكردي السوري، عندما حصلت الثورة السورية ربيع ٢٠١١م. احسّ على حداثة سنه بأن الثورة السورية جاءت ردا على مظلومية مجتمعية تطال كل السوريين، والمكون الكردي منهم. كان قد وطد نفسه مع صديقه راكان و أخوه الأصغر على رصد التظاهرات وتصوير المقاطع التي تتابع أجهزة الأمن والشبيحة الذين استشرسوا في التعامل مع المتظاهرين. اطلاق نار وضرب بالهراوات واعتقالات.
وفي شهر حزيران من عام ٢٠١٣م. داهم الأمن بيت محمد وبيت صديقه راكان. لم يكونا في منزليهما ذلك الوقت. وصلهما الخبر لم يهربا رغم علمهما بأنهما سيعتقلان، ومع ذلك فضلا الذهاب إلى بيوتهم ومواجهة الأمن لكي لا يسيئوا لأهلهم أو يعتقلوا احدا من عائلتهم حتى يسلموا أنفسهم. وبالفعل كان الأمن بالانتظار حيث اعتقل محمد وراكان واخاه .
بدأت المعاملة القاسية منذ لحظة الاعتقال الأولى عنف جسدي وهم في طريقهم الى المعتقل كذلك قذف وشتم واساءة لفظية، والثلاثة صامتين خوفا من ردة فعل اسوأ من رجال الامن. لم يعرفوا إلى أين اقتيدوا لأنهم كانوا معصوبي الأعين منذ لحظة الاعتقال الأولى.
وصلوا إلى المعتقل استقبلوهم بالضرب والشتم والاساءة. جردوهم من ملابسهم كاملة بدعوى التفتيش. اخذوا هواتفهم ووثائقهم وما معهم من مال. كان محمد قد سحب بطاقة هاتفه المحمول عليها مقاطع الفيديو واستطاع أن يرميها في ارض سيارة الاعتقال، رغم الخطورة. لقد تخلص من ادانة واضحة ودليل جرمي على ما كان يود أن ينكره.
وُضعوا في غرف جماعية كانت تحوي العشرات. بجانب الغرفة تواليت وحمام صغير. لكل غرفة في المعتقل رئيس لادارة امور المعتقلين يكون غالبا موقوف غير سياسي. وكثيرا ما ينقلب على المعتقلين رغم كونه ضحية ظلم مثلهم، ويمارس عليهم دور السجّان . الطعام المقدم لهم يكاد يكون قطعة خبز صغيرة مع بضع زيتونات أو غير ذلك. ضيق المكان يجعل الجميع متلاصقين والنوم سيّافي يعني على الجنب، ولوقت محدود. لان البعض قد يكون جالسا او واقفا ينتظر دوره في الجلوس والنوم. أجواء المعتقل مرعبة، اصوات السجانين الصارخة والمسيئة. يعيش الكل حالة رعب وخوف حيث يتم أخذ المعتقلين تباعا للتحقيق وتعذيبهم واعادتهم، بعضهم مدمّى وبعضهم مشوّه وبعضهم يأتي ميتا، أو ليموت بعد قليل جراء التعذيب الشديد الذي وقع ضحيته. الكل هنا من المتظاهرين او من شباب الجيش الحر أو من عائلات الثوار يحتجزونهم حتى يسلموا الابناء او المطلوبين أنفسهم. وكذلك يوجد نساء معتقلات. الكل يسمع الضرب والصراخ والتعذيب. يتم استدعاء المعتقل للتحقيق بدء من بعد اعتقاله حوالي الأسبوع الى الشهرين، الكل يستدعى للتحقيق ولو بعد حين. أعمار الموقوفين من سن الطفولة حتى سن الكهولة.
يعذّب المحققين المعتقلين اولا على الأقل مرة واحدة وقد يعذبون لمرات عدة حتى يجهزوا نفسيا ويرتعبوا من القادم ويعترفوا بما فعلوا. ؟!!..
يستمر التعذيب حتى قبل الاعتراف وبعده لان اغلب المعتقلين لا يصمدون أمام هول التعذيب وقساوته، و لأن المحققين يريدون من المعتقلين أن يعترفوا بقضايا لم يقترفوها. وذلك حسب أجندة الأجهزة الأمنية والنظام. في ذلك الوقت طلب من أحدهم أن يعترف بأنه من الجيش الحر و تلقى مواد كيماوية لكي يضربها في أطراف دمشق حيث الأحياء والبلدات الثائرة. حتى يتهم النظام الثوار انهم هم من ضرب الكيماوي على الناس. وهذا ما ادعاه النظام بعد أن ضرب الكيماوي على الغوطتين في ذات الوقت عام ٢٠١٣م. وراح ضحيته حوالي ١٥٠٠ ضحية. كذلك مطلوب من المعتقل أن يعترف على انه جلب السلاح من مصدر خارجي، وانه ارهابي، وعلى أنه جلب التمويل الخارجي. وعلى قيامه بعمليات عسكرية أدت لمقتل جنود سوريين. كثيرين من المعتقلين يموتون تحت التعذيب او اعدامات مباشرة من خلال هذه الاعترافات التي يدلون بها رغما عنهم، وقد يموتون من شدة التعذيب، او اثناء تسلية السجانين بالمعتقلين…
خضع محمد وراكان واخوه للتحقيق. حاولوا إنكار التهمة الموجهة لهم حول تصوير مقاطع فيديو ووضعها على اليوتيوب وتوصيلها لوسائل إعلام عالمية، لكنهم لم يصمدوا أمام التعذيب بل اعترفوا بما فعلوا واكثر. لأنهم مثل غيرهم لم يصبروا على التعذيب ولم يصمدوا أمام انتهاك أجسادهم. وتهديدهم بأهلهم وذويهم.
استمر محمد في شهادته يتحدث عن المعتقلين الذين التقى بهم في المعتقل وحيث تنقّل بين غرف المعتقل وعند مجيء اي جديد وحتى بعد تحويلهم للمحكمة. من جاء ومن ذهب ومن قتل ومن نقل إلى مكان آخر. تحدث عن المئات ممن التقى بهم. كلهم يجمعهم واقع واحد ظلم قبل الاعتقال وفيه. وامل واحد بالخلاص من جحيم الاعتقال ولو بالموت…
استمر اعتقاله وصديقيه ستون يوما التقى بالمئات هناك كان يحارب الوقت بالاستماع إلى قصص المعتقلين ومآسيهم مع النظام المجرم القاتل.
اكتشف انهم معتقلين في معسكر للحرس الجمهوري على قمة قاسيون. حيث كانت تقصف المدفعية من هناك المناطق الثائرة بالقذائف القاتلة. علم بوجود نساء محتجزات بدلا عن ابن او زوج مطلوب. يخضعن للتحقيق والتعذيب ايضا. شباب وكهول معتقلون لنفس الاسباب ايضا. شباب تم التقاطهم بشكل عشوائي من بلداتهم وزجهم بالمعتقل وتلفيق تهم لهم.
علموا عن صفقات تحصل للإفراج عن بعض المعتقلين حيث يبيع الاهل بيوتهم وجنى عمرهم لاجل ذلك. التقى بكثير من الشباب الثائر من المناطق الثائرة المجاورة لدمشق. استمر اعتقاله وصحبه ستين يوما. في كل يوم يسمع حكايا جديدة، ويتجرع آلاما أكثر. حلم بالخروج كثيرا. ويئس من الخروج أيضا. عايش الموت والتعذيب معه ومع غيره. أدرك أن النظام لا يتورع عن فعل أي شيء ضد الشعب ليستمر بالسلطة…
بعد مضي فترة الشهرين على اعتقال محمد وصديقيه معه. حوّلوا الى محكمة امن الدولة وهناك استجوبوا مجددا. وتم اطلاق سراحهم على أن يحاكمون طلقاء.
كان خروج محمد واصدقائه من السجن بمثابة هدية سماوية لأهلهم الذين يئسوا من الإفراج عن اولادهم. وخوفا من احتمال مقتلهم في المعتقل.
كان والد محمد معارض سياسي كردي ينتمي لأحد الاحزاب الكردية المعارضة للنظام والمطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية للسوريين جميعا ومنهم الأكراد مع حصولهم على حقوقهم المجتمعية كاملة. لذلك وبعد خروج محمد من السجن قرر والده مغادرة سوريا، توجهوا الى لبنان ومن هناك بعث لهم اخاه الاكبر الذي اعتقل سابقا في سوريا كمعارض ثلاث مرات، وذلك قبل الثورة. وغادروا إلى فرنسا . ذهبوا من لبنان الى فرنسا. ومن هناك إلى ألمانيا. حيث استقروا وبدؤوا حياة جديدة…
هنا تنتهي شهادة محمد صدّيق عثمان، وهي مثلها مثل آلاف الشهادات للسوريين المظلومين الضحايا. من كل مكونات الشعب السوري. الذين ثاروا ثم راحوا ضحية القتل والاعتقال والتشريد واللجوء، مات ما يزيد عن المليون إنسان ومثلهم مصاب ومعاق وثلاثة عشر مليون لاجئ داخل سوريا وخارجها. بلاد مدمرة اغلبها. محتلة من الأمريكان الداعمين للانفصاليين الاكراد ال ب ك ك ممثلين بال ب ي د وقوات سوريا الديمقراطية. والمحتل الروسي والإيراني والميليشيات الطائفية حزب الله وأمثاله. سوريا التي قسمت واقعيا وانعدمت بها أسباب الحياة. هذا ما أراده النظام القمعي الطائفي المجرم وحلفاؤه. لماذا ؟ لان الشعب طالب بالحرية والعدالة والديمقراطية. لان انساننا أراد أن يعيش كرامته ويحسها مثل كل البشر في ارض الله…