أولا: مدخل إلى الكتاب.
جان بيير فيليو: كاتب فرنسي معاصر، يعيد قراءة العلاقة بين الغرب الأوروبي والامة العربية، والأحداث التي مرت عليها، مع تركيز على ما بعد الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨م، كبداية احتكاك معاصر بين الغرب الأوروبي والعرب. الكتاب مكثف جدا، يكاد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الأحداث التي مرت على المنطقة ما قبل أن تصبح دولا وما بعد ذلك الى عام ٢٠١٥م. ينطلق الكتاب من منظور اساسي عند الكاتب، وهو أن أوربا والعرب على علاقة قديمة ومستمرة وهناك كثير من الأسباب التي تجعلها مستمرة وصميمية، يرصد ما حصل بالفعل، ينتصر لضرورة أن يكون مسار العرب كمسار الغرب مسار تحرير وتقدم وديمقراطية. يرصد المسار الواقعي لعدم تقدم العرب في اوليات التحرر والديمقراطية، يرصد الدور الغربي في استمرار التخلف والاستبداد والدكتاتوريات في بلادنا العربية، والدور المركزي للغرب في ذلك… إننا أمام دور أوروبي معرقل للتحرر والتقدم والديمقراطية…
لماذا..؟. وكيف..؟.
الكتاب يحاول الجواب على هذا التساؤل بالتفاصيل ومن الواقع العياني للدول العربية عبر اكثر من قرن ونصف من الزمان.
ثانيا: مدخل فرنسي.
تحت هذا العنوان يريد الكاتب ان يقول ان العلاقة بين أوروبا والعالم العربي قديمة، وانها مرت في مراحل ايجابية، يستند بذلك الى رسائل ومقتنيات متواجدة في متحف اللوفر في فرنسا. نموذج ذلك رسائل بين هارون الرشيد الخليفة العباسي وشارلمان في نهاية القرن الثامن الميلادي حول القدس ودور المسلمين في حمايتها وتسهيل مجيء المسلمين والمسيحيين إلى أماكنهم الدينية المقدسة؛ الاقصى وكنيسة القيامة وبيت لحم. كذلك نموذج الحملات الصليبية ولو انها ترصد العلاقة بين أوروبا والعرب من جانبها السلبي، وكيف انتهى قرنين من الحملات الصليبية بعد أسر لويس التاسع عام ١٢٥٠م في الحملة التاسعة، حيث دفع الفدية ليفك اسره، وكيف عاد مجددا في حملة عاشرة، قُتل وانتهت عندها الحروب الصليبية. والنموذج الثالث هو الاتفاق بين السلطان العثماني سليمان وفرانسوا الأول عام ١٥٣٦م على حلف تجاري متبادل. أما النموذج الرابع فهو الحملة الفرنسية على مصر عام ١٧٩٨م بقيادة نابليون بونابرت، فشلت أيضا حيث واجهها الشعب المصري من جهة، وتوقفت على أسوار عكا وعجزت عن فتحها، عاد نابليون الى مصر ومن ثم الى فرنسا ليأخذ السلطة هناك، أما خليفته كليبر في مصر سيقتله سليمان الحلبي. ويحاربوا من الشعب المصري و العثمانيين ويعودوا مهزومين، بعد ثلاث سنوات. سيكون للحملة الفرنسية دور في خلق الحافز للتقدم العلمي والتقني في مصر وبلاد المسلمين. كان تأثير العلماء المرافقين لحملة نابليون وكذلك المطبعة وغيرها دور كبير في ذلك.
ثالثا: العرب والنهضة ١٨٠١ – ١٩٠٣.
كان القرن التاسع عشر قرنا ممتلئا بالمتغيرات على العالم العربي، والمؤسِسة للنهضة التي ستبرز معالمها اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. حيث كان المغرب واليمن وعُمان عصيين على السيطرة العثمانية، كذلك استطاع آل سعود بالتحالف مع الدعوة الوهابية السلفية أن يسيطر على أغلب شبه الجزيرة العربية، عام ١٨٠٥م، أصبح محمد علي باشا والي مصر العثماني كان له دور في القضاء على الدولة السعودية الأولى عام ١٨١٨م، وسرعان ما استقل محمد علي عن العثمانيين وامتد من مصر الى الشمال الافريقي، والى بلاد الشام وكاد يصل الى الاستانة ويسقط الخلافة، لكن تحالف دول اوربا ضده ادى لضرب اسطوله وجيشه وتحجيمه واعادته الى حدود مصر عام ١٨٤٠م. كان محمد علي نموذج أخذ بالأساليب العلمية الحديثة، بعث الطلاب ليحصل العلم من الغرب، كان بصحبتهم الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي تحدث عن رحلته الى باريس في كتاب ، وبدأ محمد علي نهضة في مصر. لكن التدخل الأوروبي حجّم حكمه وضرب تجربته الواعدة. واستمرت مصر تحت الوصاية الفرنسية والإنكليزية والتي تتوجت في فتح قناة السويس ١٨٦٩م، واصلة بين البحر الاحمر والبحر الابيض المتوسط، مختصرة طريق الهند عليهم. أما الجزائر فقد كانت وجهة الفرنسيين لاحتلالها منذ أوائل القرن التاسع عشر، قاومهم الشعب الجزائري وكان على رأس المقاومة الأمير عبد القادر الجزائري الذي لم يستطع الصمود أمام التقدم العسكري للفرنسيين. استسلم لهم عام ١٨٤٧م، ونفي الى دمشق واستقر بها، بعد محاكمة وحبس واحتمال الإعدام. أما تونس التي كانت قد أخذت باكرا توجهات سياسية شبه ديمقراطية، وكانت جامعة الزيتونة مركز إشعاع علمي و تنويري، لكنها وقعت أيضا ضحية احتلال فرنسي عام ١٨٨١م. كما أعلنت بريطانيا احتلالها لمصر رسميا بعد ذلك بسنة واحدة عام ١٨٨٢م. اما بلاد الشام فقد كانت مركز إشعاع تنويري نهضوي، لقد انتشرت فيها المطابع باللغة العربية، كان للتنويريين المسيحيين دور في ذلك. كما كان نهاية القرن التاسع بداية ظهور تنويريين نهضويين يتحدثون عن ضرورة مواجهة الاستبداد والتجديد الديني ، نموذجهم عبد الرحمن الكواكبي الحلبي و كتابه طبائع الاستبداد، و كذلك محمد عبده المجدد الديني في مصر وبعده تلاميذه رشيد رضا ولطفي السيد. إن موجة التنوير كانت شاملة كل بلاد العرب وحتى في مركز السلطنة حيث سينشأ جمعية تركيا الفتاة، والعربية الفتاة في بلاد الشام. وكلها تؤسس لضرورة الأخذ بالعلم والتكنلوجيا والتجديد الديني وأساليب الحكم الديمقراطي لبناء الحياة الأفضل. ونصب أعينهم النموذج الغربي الأوروبي. لكن الغرب الأوروبي كان يجهز نفسه في مطلع القرن العشرين، لاقتسام تركة الرجل المريض السلطنة العثمانية واحتلال ماتبقى من البلاد العربية.
ثالثا: سلام الحروب كلها. ١٩١٤ – ١٩٢٥م.
كانت أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين قد أوضحت الخطط والمطامع الأوروبية في التركة العثمانية في منطقتنا العربية، خاصة فرنسا وبريطانيا والى حد ما المانيا وايطاليا واسبانيا والبرتغال. كانت بريطانيا قد ثبتت احتلال مصر منذ ١٨٨٢م وفرنسا أحتلت منذ عقود الجزائر ومدت سيطرتها باتجاه تونس، اما اسبانيا والبرتغال فقد استحوذوا على بعض اراض المغرب العربي، الذي بقي أغلبه في حالة استقلال تحت حكم العلويين الأشراف، وعندما حاولوا استعماره واجههم الشعب ووقفوا خلف ملكهم محمد الخامس الذي نفي واعيد واستمر في حكم مستقل نسبيا على جزء من المغرب. كانت الخلافة العثمانية تعيش مشاكلها ، مطالبات داخلية بإصلاحات تمخضت عن دستور جديد، ومجلس برلماني، المبعوثان، وعظم دور تركيا الفتاة التي ترى بالغرب وتقدمه نموذجا لها ورفضت استمرار آلية الحكم السابق، طالبت بدستور وبرلمان وحصلت عليه. كانت الاستهدافات الخارجية ضد الخلافة العثمانية من كل المحيطين بها، روسيا واليونان، وكذلك الفرنسيين والانكليز الطامعين بتركتها. ألمانيا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي كان على علاقة جيدة مع العثمانيين وتحالف مع السلطنة ضد النفوذ البريطاني الفرنسي المتعاظم. كانت نذر الحرب العالمية الأولى تظهر والتجهيزات لها مستمرة. بادرت بريطانيا للتواصل مع الشريف حسين شريف مكة، الذي كان على صراع مع السعوديين داخل شبه الجزيرة العربية، وعده الانكليز أن يساعدوه ويساعدهم لطرد العثمانيين من بلاد العرب، ويكون ملكا على البلاد العربية، تحرك هو وأولاده لهذا الهدف، وصل إبنه فيصل إلى الشام وإبنه عبد الله الى شرق الاردن وكانت الاجواء في بلاد الشام تغلي، وكان استلم زمام الجيش التركي في بلاد الشام الضابط جمال الذي لقب السفاح، حيث نصب المشانق عام ١٩١٦م في دمشق وبيروت لرموز التنويريين العرب المعادين للسيطرة العثمانية والمنتمين لجمعية العربية الفتاة. وكان الانكليز والفرنسيين قد اتفقوا عبر ممثليهم سايكس وبيكو على تقاسم التركة. سوريا ولبنان للفرنسيين، والعراق وفلسطين وشرق الأردن للانكليز، حتى الاناضول كانت مشمولة بالاتفاق لكن مواجهة مصطفى كمال والقادة العسكريين معه ، انتج الدولة التركية المعاصرة بعد معاهدة سيفر بين الأتراك وفرنسا وبريطانيا. انهزم الألمان والعثمانيين في الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م واستمرت لسنوات. كانت بريطانيا قد قدمت وعدها للحركة الصهيونية عبر وزير خارجيتها بلفور عام ١٩١٧م بأن يأخذوا فلسطين وطنا قوميا لهم. وهذا ما حصل بعد انتصار الحلفاء وسيطرة الفرنسيين والانكليز على المنطقة، حيث أعطت عصبة الأمم الدولية حق الانتداب لفرنسا وبريطانيا على المنطقة. تم نقض الاتفاقات مع الشريف حسين، وتبين أنهم استخدموه في معركتهم ضد العثمانيين، وكجائزة ترضية، أعطي عبد الله ابن الشريف حسين مملكة اخترعت في شرق الأردن، بقيت تحت الوصاية الإنكليزية، و متوافقة مع المشروع الصهيوني الذي يُنفذ على الأرض بإعلان الدولة الصهيونية بعد عقود في عام ١٩٤٨م. اما فيصل فقد ذهب الى دمشق وصار ملكا عليها ضمن تجربة ديمقراطية متواضعة، لكن دخول الفرنسيين بقيادة غورو مستخدما القوة العسكرية واجهه جيش رمزي هزم على مدخل دمشق. طردت فرنسا فيصل الى العراق وأعلنت الانتداب على سورية، حيث قسمتها إلى أربع دول، دولة دمشق وحلب واللاذقية للعلويين والسويداء للدروز. لكن الشعب السوري رفض ذلك وفرض على الفرنسيين التعامل مع كيان سوري واحد. وكان الفرنسيين قد وسعوا حدود لبنان باضافة البقاع والجنوب اللبناني له. وسموه لبنان الكبير واعلنوه دولة، وثبتوا فيه دستورا قائما على التقسيم الطائفي: المسيحيين والسنة والشيعة والدروز عبر محاصصة للسلطة فيه. لم تستسلم الشعوب العربية لهذا الواقع الجديد. ففي مصر قامت حركة سعد زغلول عام ١٩١٩م تطالب بجلاء المستعمر الانكليزي، وأدى ذلك الى نفي زغلول ومحاصرة الحراك الديمقراطي تحت هيمنة الانكليز، وكذلك شهد العراق ثورة العشرين ضد الانكليز الذين لعبوا على وتر شق الصف العراقي بين عربي وكردي من جهة، وسني وشيعي من طرف آخر، لكن الشعب كان اوعى وتوحد في مواجهته كمستعمر. كما حاول الانكليز اعطاء علي ابن الشريف حسين سلطة حكم الحجاز، مكة والمدينة. لكن آل سعود يسيطرون على مكة والمدينة وجدة عام ١٩٢٤م، بعد مواجهة مع الهاشميين، ويعلنون مملكة آل سعود على كامل شبه الجزيرة العربية بصمت انكليزي. وهكذا ما أن هدأت الحرب العالمية الأولى الا وأصبحت المنطقة العربية أمام متغيرات كبيرة، تتوضح معالمها بعد حين.