فـــــي ذكــــــرى الــــنـــــكــــــبــــة : كـــــــلام للـــــمــــــزايــــــديـــــــــن

محمد خليفة

 لا خلاف على أن ما شهدته القدس الاثنين الماضي يشكل لحظة انكسار في تاريخ العرب المعاصر, تضاف الى مناسبات مماثلة تمتد من يوم اعلان اسرائيل 1948 ,الى نكسة يونيو 1967, وحريق الاقصى 1969, واجتياح بيروت 1982, واتفاق كامب ديفيد 1979, واتفاق أوسلو 1993 .

وما جرى ليس انكسارا للعرب وحسب , بل سقوط للشرعية الدولية , لأن عروبة القدس محمية بإثني عشر قرارا لمجلس الامن الدولي عبر نصف قرن , وعشرات قرارات الجمعية العامة للامم المتحدة تمثل اجماعا عالميا على حقنا في القدس وفلسطين . وما ارتكبته الادارة الاميركية في معناه العميق تفوق للقوة البربرية على الحق والقانون , وغلبة للاحتلال على الشرعية والسيادة , ومؤشر على انحياز الدولة العظمى الاولى الى صف العدوان والاستعمار بعد قرن من غروب زمن الاستعمار والعدوان , وبعد 73 سنة من قيام الامم المتحدة والنظام الدولي .

 لذلك رفضت الغالبية الدولية قرار واشنطن بشأن القدس, ورفض سفراؤها حضور “الاحتفال” بالجريمة , لكيلا تتحمل المسؤولية الاخلاقية عن فصل جديد من فصول الجريمة بحق القدس العربية , بكل جلال رمزيتها وأهميتها ومكانتها الروحية والتاريخية والحضارية للأمة الاسلامية والعالم المسيحي ولكل العالم . ومع كل ما تنطوي عليه هذه اللحظة من شحن عاطفي وانكسار اخلاقي وقيمي فإنها بالنسبة للعرب ليست ولن تكون نهاية التاريخ , ولن يستطيع الصهاينة والاميركيون بإجراءات دعائية غوغائية قصيرة النظر فرض إرادتهم على الأمة العربية والعالم , وتزييف الحقائق التاريخية , بدليل زخم الانتفاضة الفلسطينية في مواجهه الغطرسة والبلطجة . الشعب الفلسطيني الذي هب ثلاث هبات نضالية في أقل من عام واحد دفاعا عن القدس لن يهزم .

 لقد راهن الصهاينة وحلفاؤهم منذ نكبة 1948 على مرور الزمن وتراكم اليأس والهزائم لتدفع الأجيال القادمة ولا سيما في الشتات لنسيان القدس وحيفا ويافا والجليل, ولكن التجربة أثبت سطحية هذه المراهنات والاوهام . وقد قرأت قبل عقدين كتابا يضم أبحاثاعلمية متنوعة لاكاديميين إسرائيليين يحاولون استشراف مستقبل الدولة اليهودية في القرن التالي (21) . وقد توصلوا الى نتيجة مشتركة هي إخفاق المشروع الصهيوني , لأن سكان اسرائيل رغم ما يتوفر لهم من قوة عسكرية ورفاهية ونفوذ دولي , يفتقرون للاحساس باليقين بمستقبلهم . واستنتجوا ان اسرائيل محكوم عليها بالفشل , حتى ولو لم تتعرض لهجوم من جيرانها العرب .

ما حدث الاثنين الماضي في الذكرى السبعين لقيام الدولة الاسرائيلية لن يغير الحقائق , ولا ينبغي أن يدفعنا لمزيد من جلد الذات والندب والنواح , بل يجب أن يحرضنا على مزيد من الكفاح والنضال لتصحيح معادلات الصراع وموازين القوى بشكل عقلاني وواقعي , بلا خوف ولا خجل من سوء الواقع وقسوته حاليا .

إن العرب يمرون بحالة انكسار وهزيمة وضعف مهينة وغير مبررة ,نعم ولكنها حالة نمطية موصوفة تصيب كل الامم في تجاربها المشابهة ثم تنهض الامم الحية ثانية , وسينهض العرب ويواجهوا أعداءهم ويحرروا فلسطين لأنها تمس مصيرهم جميعا . ولذلك لا مبرر لليأس ولا ينبغي لبعض الاطراف الاقليمية استغلال حالة العرب العارضة لبث ثقافتهم الشعوبية العنصرية المعادية لهم , والنيل من قيمتهم التاريخية .

وعلى هؤلاء المزايدين تقديم كشف حساب بما قدمته دولهم وشعوبهم معا للشعب الفلسطيني قبل أن يزايدوا على العرب .

من حقنا – على سبيل المثال – مطالبة الترك والفرس الذين يتصدرون صفوف المزايدين والمتاجرين بالقدس وعذابات الشعب الفلسطيني تقديم كشوف حسابات عما قدموه لفلسطين وعن الدور الذي قاموا به في الصراع ضد المشروع الصهيوني . عليهم أن يفعلوا ذلك قبل أن يشنوا حملاتهم المعادية والمخونة للعرب, وعلى مصر أو السعودية أو غيرهما مثلا , وعليهم أن يطلعونا على عدد شهدائهم على أرض فلسطين , وعلى مواقفهم في المحافل الدولية في مواجهة اسرائيل وحلفائها خلال سبعين سنة.

للأسف إن هاتين الدولتين بالذات تصدرتا قائمة الدول المؤيدة لاسرائيل منذ قيامها, وتصدرتا الدول الاقليمية التي ناصبت العرب العداء في مرحلة حروبهم مع العدو الاسرائيلي . والحقيقة المحجوبة التي يجب أن يعيها ويتذكرها جيدا هؤلاء وأتباعهم بين ظهرانينا أن ايران وتركيا ساهمتا في توطيد دعائم المشروع الاسرائيلي فعليا من ناحية , وساهمتا من ناحية اخرى في تحطيم مراكز القوة العربية وساهمتا في إيصالنا الى الوضع الراهن .

 لقد قدم المصريون والسوريون والاردنيون والعراقيون واللبنانيون والسعوديون واليمنيون والسودانيون والكويتيون والليبيون والتوانسة والجزائريون والمغاربة مئات الوف الشهداء ومئات مليارات الدولارات وتكبدوا الخسائر الجسيمة في صراعهم مع العدو منذ بدايات القرن العشرين , وما زالوا يقدمون دماء واموالا, بينما لم تقدم ايران أو تركيا شهيدا واحدا من أجل فلسطين , فبأي حق يزايد هؤلاء وأمثالهم على العرب ..؟ أين كانت وكيف كانت مواقف طهران وانقرا منذ سبعين سنة حتى اليوم ؟ ألم تكن الدولتان عونا وظهيرا لاسرائيل وخنجرا في ظهر العرب ؟ فبأي حق ينفثون شعوبيتهم ومزايداتهم التافهة تشكيكا وتخوينا للعرب ؟؟

العرب الذين خاضوا خلال 35 سنة فقط خمسة حروب كبرى وعشرات المعارك الصغيرة والمتوسطة ضد اسرائيل ومن ورائها الغرب كله وتكبدوا أعباء باهظة جدا, من الطبيعي أن يتعبوا وينكسروا ويهادنوا قليلا قبل أن يستأنفوا صراعهم الوجودي الطويل مع عدوهم الذي لا يتمثل باسرائيل وحدها , بل بمن وراءها . وهو صراع لا يقل بل يزيد صعوبة عن صراع العرب مع الغزو الصليبي قبل الف سنة , وسيمتد عشرات أخرى من السنين ,لأنه صراع عالمي وتاريخي بين قوى الغرب مجتمعة وقوى العرب والمسلمين مجتمعة .

لا أحد ينكر أن العرب اليوم في حالة مهادنة وضعف وانكسار وتراجع مبررة ومفهومة , ولا أحد ينكر أنهم ارتكبوا أخطاء فادحة , ولكنها أيضا ممكنة ومبررة . أما الآخرون الذين يصطادون بالمياه العكرة فعليهم أن يثبتوا صدق نواياهم تجاه فلسطين بوقف حروبهم الطائفية ضد العرب لانهم يعلمون ويرون نتائجها المدمرة التي تخدم العدو وتضعف الجبهة العربية . وعليهم أن يثبتوا صدقيتهم وجديتهم بدعم العرب لا أن يحاولوا تمزيقهم وإضعافهم , والحلول مكانهم , لأن الأمور لا تستقيم هكذا .

نعم على من يريد مواجهة اسرائيل واسترداد فلسطين دعم العرب أولا لينهضوا مجددا , لا أن يطعنهم في ظهورهم ويتآمر عليهم خدمة لاسرائيل والغرب .

=========================================

هذا المقال منشور في العدد 1849 من مجلة الشراع اللبنانية , الصادر يوم 18 / 5 / 2018 .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى