لم تعرف الأجيال السورية المتلاحقة معنى أن يكون للمواطن صوتٌ يستخدمه بحرية ومسؤولية، منذ جلاء الانتداب الفرنسي 1946، ما عدا فترة قصيرة في خمسينيات القرن الماضي، إذ غلبت على هذه الحقبة من تاريخ سورية الانقلابات العسكرية المتلاحقة، وجاءت الضربة القاضية مع الوحدة وحلّ الأحزاب وشلّ الحياة السياسية، ليجري تكريس هذا الأمر مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم، وتعزيزه بشكلٍ مكين، بعد انقلاب ما سمّي بـ “الحركة التصحيحية”، ما يعني أن أكثر من 60 عاماً من الجمود السياسي والفكري حكمت المجتمع السوري، مدعومة بممارسات وآليات قمعية وتكوينية، تنتج مجتمعات امتثالية لا مبالية بتمثيلها في كل ميادين الحياة العامة، أو على الأقلّ سلبية في ما يتعلّق بحياتها وتقرير مصيرها.
كانت هناك انتخابات مستحقّة “دستورياً” في سورية، من انتخاب مجالس محلية إلى انتخابات برلمانية إلى انتخابات على مستوى النقابات والمنظّمات الملحقة بحزب البعث الحاكم، إلى “الاستفتاء” على الرئيس، وكانت الجموع التي يحقّ لها التصويت تتدفّق إلى مراكز الاقتراع في المدن والبلدات والقرى، في ظاهرة يطلق عليها الإعلام “الواحد” الحكومي “العرس الديمقراطي”، فتتحوّل البلاد كلها إلى ظاهرة صوتية صاخبة، مشفوعة بمشاهد الاحتفال “الشعبي”، الذي يُصوَّر بأنه عفوي يشارك فيه كل أبناء الشعب المؤمن بعدالة قضيته، فيسير خلف قيادته الحكيمة وقائده الأكثر حكمة. ولو أجرينا استطلاعاً في الشارع وانتقينا أفراداً بشكل عشوائي، من مختلف الأعمار والأجناس، وطرحنا أسئلة عليهم، من قبيل ما قضيّتك العادلة؟ أو ما تعريف الوطن؟ أو ماذا يعني لك حق التصويت؟ وغيرها من أسئلة تلامس وعي الإنسان ذاته، لأصيب الجميع بالارتباك، بل بالتوجّس من الأسئلة.
ولقداسة هذا الاستحقاق الدستوري، الذي تُرصد له الملايين في كل دورة، يجري توفير الظروف المطلوبة لأجل أن يتم بـ”حرية ونزاهة”، ولأجل خاطر “العملية الديمقراطية” كانت توجد غرف “سرّية” للاقتراع، وكانت تتوفر تسهيلات كثيرة على المواطن/ة، منها توفر أوراق منجزة، ليس على المواطن “المدلّل” سوى طيّها ورميها في “الصندوق” المختوم بالشمع، ومنها أيضاً أن يأتي مندوبٌ عن الأسرة ومعه هُويات أفرادها الذين يحق لهم “قانونياً” التصويت، أو يأتي الرجل ومعه هُويّة زوجته، أو زوجاته، ويمارس عنهنّ حقّهن الذي يكفله الدستور، بامتلاك صوتٍ حرّ، وأكثر ما كان يبرهن على قداسة هذا الاستحقاق، خصوصاً في الاستفتاء على الرئيس، هو توفّر الإبر التي تجعل دم المواطن “الفائر” بسبب فرط الفرح والسعادة بما منّ الله عليه من نعم الحياة وكرمها، ينفر بغزارة لتسطير صوته بالدم، نعم بالدم. وكانت كلمة “بايعناك” إشهاراً مدوّياً يقضّ مضاجع المتربّصين بالأمة من أعداء التقدّم والحرية والديمقراطية والرسالة الخالدة، أعوان الإمبريالية العالمية والرجعية الجاهزة للانقضاض على منجزات الثورة التي معها بدأ تدوين التاريخ وبناء سورية.
لم يعش السوريون تجربة انتخاب حقيقية، فهذه الصورة التي كرّستها عقود من الاستبداد والقمع والنظام الشمولي الذي يمسخ شخصية المواطن السوري، ما زالت في البال، بل ما زالت تتوهّج وتزدهي عند كل مناسبة من هذا النوع، بالرغم من الفاتورة الباهظة التي دفعها الشعب في الصراع على السلطة، لم يتغيّر شيء، ولم يستعِد الفرد السوري ثقته بنفسه، بالرغم من انتفاضته لكرامته والصراخ عالياً من أجل الحرية والعدالة والعيش الكريم، وبقي التصويت بوصفه حقّاً دستورياً، ورافعة للديمقراطية والعدالة في توزيع فرص المساهمة في بناء نظم الدولة والمجتمع، ظاهرة منفصلة عن الواقع بالنسبة للفرد السوري، مثل غيرها من الشعارات الخلّبية التي تُرفع بنبرة عالية من دون ممارستها على أرض الواقع، لكنها ظاهرة “مصيريّة” بالنسبة إليه في الداخل والخارج السوريين، وتلفت اهتمام كل السوريين، عندما تجري في دول الجوار، أو حيث يوجدون لاجئين، مثال عليها حالياً الانتخابات التركية، وبعدها ستكون الانتخابات الرئاسية في لبنان، فيما لو جرت عملية انتخاب رئيس يسدّ الفراغ الذي ربما صار حالة مألوفة واعتيادية لدى هذا البلد الواقع في قلب الصراعات الدولية والإقليمية منذ عقود.
السوريون مهتمون بالانتخابات الرئاسية التركية، يتابعونها بتركيز وتوجّس وخوف، بالرغم من الممارسات العنصرية التي باتت تتزايد منذ مدّة تجاه السوريين، إنما تبقى على الصعيد الحياتي حالاتٍ يمكن اعتبارها فردية لم ترقَ إلى أن تكون ظاهرة عامّة ممأسسة ومنظمّة. أمّا اليوم، فمع احتدام المعركة الانتخابية بين الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، ومرشّح المعارضة كمال كلجدار أوغلو، تصاعد الخطاب المعادي لوجود اللاجئين، وخصوصاً السوريين منهم، وصار ملفّ اللاجئين قضية أساسية في الحملات الانتخابية لكل المرشّحين. وعددهم في تركيا ليس قليلاً، نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ، نسبة قليلة منهم يحملون جنسية ولديهم الحقّ في التصويت، أما الباقون فوجودهم هشّ، لكن حياتهم مرّت ضمن هذه الهشاشة، وضمن هذا العيش المؤقت، فأي ضلالٍ تمارسه السياسة، وأي قهر وظلم، في جعل الإنسان، على قصر حياته، يعيش في المؤقّت الذي يمتدّ ويتطاول تحت ظروفٍ لا توفر أساسيات البناء المستدام في أي جانب؟ هذا هو وضع السوريين في بلدان اللجوء، حتى التي منحتهم، وفق دساتيرها، حياة ضامنة، إلى حد مقبول، حقوقَهم الإنسانية، فهم يعيشون تحت وطأة المؤقّت، إن لجهة حلم العودة الذي ما زال يراود شريحة لا بأس بها منهم، أو لجهة الوقوع تحت رحمة الصراعات السياسية والانتخابات التي ستقرر الفائز، بين مناهض للجوء ومناصر له.
تعهّد مرشّح المعارضة للانتخابات الرئاسية التركية، كمال كلجدار أوغلو، بترحيل اللاجئين خلال عامين إذا أصبح رئيساً، أما الرئيس أردوغان، فاتخذ أخيراً خطوات عدة لاستئناف العلاقات مع دمشق. وربما يؤدّي هذا التقارب للتوصل إلى اتفاق يعيد السوريين إلى بلدهم، وهنا نقطة الخوف والتوجّس، فإلى أين يعود السوريون، وما زالت بلادهم مرهونة لبازارات السياسة، ولا ضامن لحقوقهم في عودة آمنة تتوفّر فيها ظروف بناء من جديد؟
في هذا الواقع الذي يعاني فيه لاجئون سوريون كثيرون من تدنّي مستوى المعيشة وصعوبة الحصول على وظائف ذات دخل مرتفع، فضلاً عن تعرّضهم لممارسات عنصرية من بعض المواطنين الأتراك، تتجاوز أحياناً التجاوز اللفظي لتصل إلى الاعتداء الجسدي، عدا الجريمة التي باتت تتزايد في الآونة الأخيرة، من سرقة أو اغتصاب أو قتل، فإن غالبية السوريين تتمنّى أن يفوز الرئيس أردوغان، “فربما يمنحنا الجنسية، لأن المعارضة تريد أن تُخرجنا من هذا البلد”، كما يقول أفراد عدة جرى معهم استطلاع حول الأمر. صحيحٌ أن تركيا مرتبطة باتفاقيات دولية عدة تلزمها بحماية اللاجئين، الذين تسمّيهم ضيوفاً، وهو ما يجعل من الصعب تنفيذ تعهدات المعارضة بالترحيل الجماعي لكل اللاجئين، لكن التسويات المتوقع أن تحصل في المستقبل تثير الهلع من هذا الأمر لدى السوريين، وهم محقّون في ذلك، خصوصاً أن الناخب التركي يهمّه بالدرجة الأولى ما تعد به الشخصيات المرشّحة للانتخاب بالنسبة إلى تحسين حياته التي تردّت بسبب التضخم الذي وصل، بحسب الدراسات، إلى 50%. لذلك باتت قضية اللاجئين مهمة بالنسبة إليه، خصوصاً أنها محورية في برنامج المرشّحين، ويدرك السوريون هذه الحقيقة، وأن قضيتهم تحوّلت إلى “ورقة انتخابية” لكسب الأصوات، خصوصاً في وضع اقتصادي متأزّم تعيشه تركيا حالياً.
أمّا السوريون في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، التي باتت لديها نواظم حياتية خاصة، حتى لو كانت بعيدة عن مفهوم الدولة، إنما هي كياناتٌ اقتصادية واجتماعية وسياسية تنتظم وفق آليات مدعومة، فإن الانتخابات التركية سوف تؤثر على هذه النواظم مستقبلاً، خصوصاً أمام ضبابية الحراك النشط في هذه الفترة على الصعيدين، الدبلوماسي والسياسي، حول إعادة العلاقات مع النظام في سورية، وقرار عودتها إلى جامعة الدول العربية، من وضوح الشروط المرتبطة بهذه القرارات، يواكب هذه الحالة توجّس ممن هم تحت سيطرة النظام أيضاً، خصوصاً أن الوضعين الاقتصادي والمعيشي لهم لا يقلّان هشاشة عمّن هم في دول اللجوء القريبة، إذ صار الخوف والريبة من كلّ ما يحدث وله علاقة بالحالة السورية ملازماً لهم أمام ظواهر ازدادت غموضاً، ومنها التردّي المريع في سعر الليرة، الذي انعكس كارثياً على حياتهم، مع الإمعان في انهيار مقوّمات الحياة والبنى التحتية والخدمات العامة.
هذه هي حال الانتخابات بالنسبة إلى غالبية السوريين، على رجاء نهوض الوعي بها وبكل الحقوق، وممارستها بفاعلية وحرص، من أجل قيامة سورية الجديدة.
المصدر: العربي الجديد