أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب مع روسيا، أن “أوكرانيا وحّدت العالم”. ليت الأمر كان صحيحاً. فالحرب وحّدت الغرب بالتأكيد، إلا أنها قسمت العالم. وسوف تتسع هوة الانقسام تلك إذا فشلت دول الغرب في معالجة أسبابها الجذرية.
وقد استعدّ التحالف التقليدي عبر الأطلسي، بين دول أوروبا وأميركا الشمالية، استعداداً غير مسبوق لصراع طويل الأمد في أوكرانيا، وقدّم دعماً إنسانياً قوياً للأوكرانيين داخل أوكرانيا، وللاجئين الأوكرانيين خارجها. وهو يعدّ لمهمة لإعادة إعمار ضخمة بعد الحرب. إلا أن الدفاع عن أوكرانيا ليس على رأس الأولويات خارج أوروبا وأميركا الشمالية. وقليلة هي الحكومات التي تؤيد الغزو الروسي السافر. وفي المقابل، ثمة حكومات كثيرة لا تزال غير مقتنعة بإصرار الغرب على أن النضال من أجل الحرية والديمقراطية في أوكرانيا هو نضال عليها أن تشارك فيه دولها. وما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير (شباط)، “لقد صُدمت بفقداننا ثقة الجنوب العالمي”، مصيب وهو على حق. فالقناعات الغربية في شأن الحرب ومدى أهميتها، يقابلها، في أماكن أخرى، الشك في أحسن الأحوال، والازدراء الصريح في أسوأها.
إذاً، فالفجوة بين الغرب وبين بقية العالم لا تتعلّق بصواب الحرب أو خطأها فحسب، بل هي ناجمة عن إحباط عميق، لا بل عن غضب على الإدارة السيئة للعولمة في قيادة الغرب، منذ نهاية الحرب الباردة. ومن هذا المنظور، فإن الرد الغربي المنسق على الغزو الروسي لأوكرانيا سلط الضوء بشكل واضح، على مرات سابقة انتهك فيها الغرب قواعده المعلنة، أو على الأحيان التي تخلى فيها عن المبادرة إلى إجراءات تعالج مشكلات عالمية. قد يبدو هذا الصنف من الحجج مفتعلاً في ضوء وحشية القوات الروسية اليومية في أوكرانيا. ولكن على القادة الغربيين معالجة هذه المسائل، عوض تجاهلها. والحق أنّ الهوة في وجهات النظر تتهدد بالخطر عالماً يتعرض لمخاطر عالمية هائلة، على نحو ما تهدد تجديد نظام قائم على القواعد يمثّل توازن قوى جديداً، ومتعدد الأقطاب في العالم.
الغرب مختلف عن بقية العالم
حمل الغزو الروسي على وحدة وتحرّك ملحوظين في العالم الديمقراطي الليبرالي. فنسقت الدول الغربية مجموعة واسعة من العقوبات الاقتصادية على روسيا. وفي هذا الإطار، لاءمت الدول الأوروبية سياساتها المناخية الرامية إلى إزالة الكربون مع التزامات الأمن القومي الساعية إلى إنهاء اعتمادها على النفط والغاز الروسيين. واجتمعت الحكومات الغربية على دعم أوكرانيا، فأرسلت شحنات ضخمة من المساعدات العسكرية في وقت واحد. وقريباً من هذا، ترشحت فنلندا والسويد إلى الانضمام إلى حلف الناتو. ورحبت أوروبا بثمانية ملايين لاجئ أوكراني حلوا فيها. وهذه الجهود كلها دعت إليها الإدارة الأميركية، وتولت القيام بها في شراكة قوية مع الحلفاء الأوروبيين وغيرهم. ويبدو كأن دهراً انقضى على طي الخلافات حول أفغانستان والشراكة الأمنية “أوكوس” AUKUS [اتفاقية عقدت عام 2021 بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وأثارت غضب فرنسا].
وفاجأ هذا التحول كثيرين في الغرب. ومن الواضح أن الكرملين تفاجأ بذلك أيضاً، فهو حسب أن غزوه لن يتسبب في رد فعل غربي قوي وحازم. بيد أن التماسك والالتزام اللذين يُظهرهما الغرب في أوكرانيا يقتصران على قضيتها. وفي بداية الحرب، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إدانة الغزو الروسي بغالبية 141 صوتاً مقابل 5 أصوات، فيما تغيّب 47 عضواً أو امتنعوا عن التصويت. وصورت النتيجة الحال في صورة أفضل مما هي عليه فعلاً. وكان فريق المحللين في مجموعة الأزمات الدولية International Crisis Group لاحظ أن “معظم الدول غير الأوروبية التي استنكرت العدوان الروسي في مارس (آذار) الماضي لم تستكمل تصويتها بفرض العقوبات. وقد يكون القرار الصائب في الأمم المتحدة ذريعة للامتناع عن فعل ما ينبغي في شأن الحرب”.
وفي عمليات التصويت في الأمم المتحدة منذ بدء الحرب، امتنعت حوالى 40 دولة، يعد سكانها ما يقرب من 50 في المئة من سكان العالم، عن التصويت أو صوتت ضد الاقتراحات التي تدين الغزو الروسي. وفي أبريل (نيسان) 2022، امتنعت 58 دولة من التصويت على طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وتقدّر وحدة الاستخبارات الاقتصادية EIU، أن ثلثي سكان العالم هم مواطنون في بلدان محايدة رسمياً أو مؤيدة لروسيا. وتجتمع هذه البلدان في محور تتكتل فيه دول تسودها أنظمة استبدادية، فبينها دول ديمقراطية بارزة، مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا.
ولعل بعض دواعي هذا الحياد لم يكن السبب فيه خلافات حول الصراع في أوكرانيا، بل أحد أعراض متلازمة أوسع: الغضب من انتهاج الغرب المعايير المزدوجة في معالجة القضايا، والإحباط جراء تعثر محاولات إصلاح النظام الدولي. ونوه الدبلوماسي الهندي المتميز، شيفشانكار مينون، بهذه المسألة في شكل واضح، في وقت سابق من هذا العام في مجلة “فورين أفيرز”، فكتب: “تنظر دول نامية كثيرة، على حدة، وبعين مستاءة، إلى الحرب في أوكرانيا، وإلى التنافس الغربي مع الصين، وترى في الأمرين إلهاءً عن قضايا العالم الملحة، مثل أزمة الديون والتغير المناخي وآثار الجائحة”.
على الحياد
وأدت السياسة الواقعية دورها في تحديد مواقف بعض البلدان من الصراع في أوكرانيا. فلطالما اعتمدت الهند على روسيا في إمداداتها العسكرية. وتحالفت شركة “فاغنر” شبه العسكرية، وهي منظمة مرتزقة روسية تنشط في أوكرانيا، مع الحكومات في غرب ووسط أفريقيا، على حفظ أمن تلك الدول وبقائها. والصين، وتُعد أحد أركان دعم روسيا الرئيسة، هي أكبر شريك تجاري لأكثر من 120 دولة حول العالم، وأثبتت أنها لا تتسامح مع الإهانات الدبلوماسية.
ولكن ثمة عوامل أخرى. فبعض الدول تعارض الرواية الغربية لأسباب الحرب. وعلى رغم أن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا وصف الغزو بأنه “غلطة”، رجّح صدق الحجة القائلة بأن روسيا تعرضت للظلم. وفي بيان سلط الضوء على الازدواجية العالمية في تناول الصراع، زعم لولا، في الصيف الماضي، أن “زيلينسكي مسؤول عن الحرب على قدر بوتين”.
ويرى عدد من المراقبين، خارج الغرب، أن الإفلات من العقاب هو، عموماً، أمر تختص به جميع الدول القوية، وليس روسيا وحدها. والولايات المتحدة في وضع ضعيف، في صورة خاصة، يحول بينها وبين الدفاع عن المعايير العالمية، وذلك بعد رئاسة دونالد ترمب التي شهدت استخفافاً بالقواعد والأعراف العالمية في مجالات كثيرة مثل المناخ، وحقوق الإنسان، وحظر انتشار الأسلحة النووية. ويسلّط المنتقدون الضوء على الحروب التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، ويخلصون إلى أن النفاق هو سائق الغرب، وليس المبادئ. وأيدت الولايات المتحدة حروباً، في غير بلد عربي، أدت إلى أزمة إنسانية. ويُستخدم دليلاً على الازدواجية عندما يتعلق الأمر بالحرص الأميركي على المدنيين. ويُقال أيضاً إن الغرب أبدى تعاطفاً مع ضحايا الحرب في أوكرانيا أكبر من تعاطفه مع ضحايا الحروب في بلاد أخرى. فمناشدات الأمم المتحدة لتقديم مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا حظيت بتمويل بلغت نسبته 80 إلى 90 في المئة. بينما حصلت دعوات الأمم المتحدة، عام 2022، إلى مساعدة السكان المحاصرين في أزمات إثيوبيا وسوريا واليمن على تمويل يكاد لا يبلغ النصف.
وبعض الأسباب في الوقوف موقف المتفرج تبدو في نظر الأوكرانيين الذين يقاتلون على الخطوط الأمامية تافهة. والتردد في دعم أوكرانيا ينبغي ألا يحجب مشكلة أكبر. فمنذ أزمة عام 2008 المالية، فشل الغرب في البرهان على قدرته على صوغ اتفاقية اقتصادية عالمية أكثر تكافؤاً واستدامة، أو على تطوير المؤسسات السياسية المناسبة لإدارة عالم متعدد الأقطاب. واليوم نحصد نتائج هذا الفشل. وقبل جائحة كورونا، على سبيل المثال، ابتعد العالم كثيراً عن مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة، وأجمعت الدول الأعضاء عليها وسط صخب حاد في عام 2015. وفي عام 2018، دل القياس على أهداف التنمية المستدامة على أن من بين خمس دول هشة وتمزقها الصراعات، ثمة أربع دول أخفقت في بلوغ الأهداف المرسومة. وتُظهر أرقام البنك الدولي عام 2020 أن الأشخاص الذين ولدوا في تلك البلدان كانوا أكثر عرضة عشر مرات إلى الوقوع في الفقر مقارنةً بأولئك الذين ولدوا في بلدان مستقرة. والفجوة لا تنفك تتسع.
منذ ذلك الحين، وبسبب النزاعات المتطاولة، وأزمة المناخ والوباء، تبددت أحزمة الأمان. وثمة أكثر من 100 مليون شخص ينزحون من بلادهم لينجوا بحياتهم من الحروب أو الكوارث. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 350 مليون شخص يحتاجون اليوم إلى مساعدات إنسانية، مقارنة بـ 81 مليون شخص قبل عشر سنوات. وهناك أكثر من 600 مليون أفريقي محرومون من الكهرباء. وأفاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UN Development Program بأن 25 دولة نامية تنفق أكثر من 20 في المئة من الموارد الحكومية على خدمة الديون، وأن 54 دولة تعاني من مشكلات ديون حادة. وعلى هذا، فإن الوصول غير المتكافئ إلى اللقاحات، ومكافحة الوباء، وهو كان في مثابة فجوة كبيرة في أثناء المراحل الأولى من حملة التلقيح في عام 2021، صار مثالاً للوعود الفارغة.
والحق أن الحكومات الغربية لم تقم بالتزاماتها في مجالات أخرى. فالبلدان المانحة لم تفِ بتعهدها جمع 100 مليار دولار سنوياً وإنفاقها على تمويل كبح التغير المناخي في البلدان النامية. ويُحمل هذا التقصير على سوء نوايا الغرب، وعلى مجرد كلام من دون أفعال. وقد أدى التأخر الحاد عن جمع التمويل إلى اشتداد المطالبة بإنشاء صندوق جديد يتولى تغطية “الخسائر والأضرار” الناجمة عن أزمة المناخ. ودُشّن الصندوق الجديد هذا العام الماضي، ولكنه لم يتلق تمويلاً بعد. وإذا عانت مبادرة عالمية أخرى بسبب نقص التمويل، فلن يؤدي ذلك إلا إلى تعميق فجوة الثقة بين الدول الغنية والدول الفقيرة.
تضامن عقيم
وإذا أشبه العقدان المقبلان العقدين السابقين، وسادتهما أولويات الغرب الملتبسة، ووعوده الخائبة، فلن يعني تعدد الأقطاب في النظام العالمي مجرد احتداد المنافسة الاقتصادية، بل تحديات أيديولوجية حادة تجبه الدول الغربية، وحوافز أقل تدعو الدول غير الغربية إلى الانضمام إلى الغرب أو التعاون معه. وعوض ذلك، تحتاج الدول الديمقراطية الليبرالية التي تؤيد نظاماً عالمياً قائماً على القواعد إلى التفكير في هدف استراتيجي بعيد المدى والعمل بموجب دواعيه في أثناء تعاملها مع بقية العالم. والحق أن الصين تنتهج هذا النهج منذ عام 1990.
وتجدر الإشارة إلى أن القوة الصلبة، أي الشراكات العسكرية والتعاون التجاري، ستضطلع بدورها في تحديد علاقات الغرب ببقية العالم. وتحتاج الحكومات الغربية إلى إيلاء بعض قضايا القوة الناعمة اهتمامها، لا سيما في ثلاثة مجالات: الالتزام بالتضامن والإنصاف في إدارة المخاطر العالمية، وتبنّي الإصلاحات التي تكثر عدد الآراء والمواقف في المفاوضات على المسائل الدولية، ومعاكسة تراجع الديمقراطية من طريق رعاية مثال ناجح. وهذه الإجراءات لا تسهم في الحفاظ على مكانة الغرب العالمية فحسب، بل هي لا تجانب الصواب والعدل.
والدعوة إلى مزيد من التضامن والإنصاف في إدارة المخاطر العالمية أمر جوهري في الوقت الحالي، فالمنافسة بين القوى العظمى تؤدي إلى تفاقم التحديات العالمية على حساب أشد البلدان فقراً. وليست أزمة الغذاء الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، والاستجابة العالمية غير المناسبة لها، إلا مثالاً واحداً، من بين أمثلة كثيرة على مترتبات المنافسة العالمية. ويعلي هذا مكانة “مركز التنمية العالمية” Center for Global Development ويحفز على تطبيق منظور “المنافع العامة العالمية” (Global Public Goods، أي المصالح والمنافع التي يستفيد منها سكان العالم جميعاً، مثل تلك المتعلقة بالبيئة والصحة العامة والتكنولوجيا وغيرها)، على التنمية الدولية. وتشمل هذه المنافع برامج تتولى تقليل مخاطر الأوبئة، والتخفيف من آثار تغير المناخ، والتصدي للجراثيم المقاومة للأدوية، ومكافحة الإرهاب غير الحكومي والجرائم الإلكترونية. إلا أن فشل منطق السوق يجعل من الصعب الاستثمار في إحباط التهديدات التي تلوح في الأفق: فبما أن الاستفادة تشمل الناس كلهم، ولا تقتصر على أولئك الذين يدفعون المال، كفّ هؤلاء عن الدفع. ووفقاً لـ “مركز التنمية العالمية” CGD، خُصص على مدار العقد الماضي حوالى ستة في المئة من إجمالي ميزانية وزارة الخارجية الأميركية للمنافع العامة العالمية ذات الصلة بالتنمية، ولا يبدو أن هذه النسبة زادت مع الوقت.
والأوبئة مثال جيد على ما تقدّم. ففي عام 2022، نشرت “هيئة الإعداد المستقلة لمواجهة الأوبئة ومكافحتها” Independent Panel for Pandemic Preparedness and Response، التي طلبت “جمعية الصحة العالمية” World Health Assembly من “منظمة الصحة العالمية” (WHO) إنشاءها، وكنت أحد أعضائها، مراجعةً شاملة للإجراءات العالمية والضرورية للوقاية من حدة الأوبئة في المستقبل والتخفيف من مضارها. ووفق التقديرات المذكورة في التقرير، تبلغ التكلفة المالية للوقاية من الوباء 15 مليار دولار سنوياً، أي أقل من نصف ما ينفقه الأميركيون على البيتزا في العام.
وكانت أقوى المعلومات التي كشف عنها التقرير وقعاً هي أن 11 لجنة وهيئة رفيعة المستوى، ذُكرت في 16 تقريراً على مدار العشرين عاماً الماضية، اقترحت توصيات منطقية حول وجوه الاستعداد للأوبئة واكتشافها واحتوائها، ولم يؤخذ بمعظمها. وخلصت اللجنة المستقلة إلى أنه لا يمكن التغلب على هذه المشكلة إلا من خلال إلزام القادة بقطع تعهد طويل الأمد بالتأهب لمواجهة الأوبئة، وتلتزم به الحكومات بأسرها. ونحن اقترحنا إنشاء مجلس عالمي يعنى بمعالجة التهديدات الصحيةGlobal Health Threats Council ، مستقل عن منظمة الصحة العالمية (لأن الأوبئة ليست مجرد مشكلة صحية)، ويتولى مهمة ضمان استعداد الحكومات للأوبئة استعداداً وافياً، سواء من خلال أنظمة المراقبة الفعالة أو من خلال الإنذار بخطر تفشي الأمراض في الوقت المناسب. وينبغي ألا نسمح بإهمال هذا الاقتراح وتركه يبيت في الأدراج.
ويقدم دعم اللاجئين مثالاً آخر على تقاسم الأكلاف العالمية بشكل غير متساو. فعلى رغم أن عدداً من الدول الغربية يتذمر من تدفق اللاجئين، تستضيف البلدان الفقيرة، والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى، أكثر من 80 في المئة منهم. وتستقبل بنغلاديش وإثيوبيا والأردن وكينيا ولبنان وباكستان وتركيا وأوغندا أعداداً كبيرة من اللاجئين. وبولندا، التي تستضيف حالياً أكثر من 1.6 مليون أوكراني، وألمانيا، التي تحتضن 1.5 مليون سوري، يُعتبران استثناء بين الدول الغنية. وتتلقى البلدان الفقيرة والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى تعويضات محدودة من الدول الغنية لقاء الخدمات التي تتكبدها، وعليه فحافزها إلى سن سياسات تعزز دمج اللاجئين في أبنية العمل والتعليم والصحة ضعيف.
وفي هذا السياق ثمة مبادرتان من البنك الدولي تنمّان باستعداد لمعالجة مخاوف البلدان النامية التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين. فبرنامج “نافذة دعم المجتمعات المضيفة واللاجئين”Window for Host Communities and Refugees (WHR) يعد بتعزيز الإسهامات، المتوسطة والطويلة الأجل، والهادفة إلى دعم البلدان المنخفضة الدخل التي تستضيف لاجئين. وخُصص 77 في المئة من أموال هذا البرنامج للبلدان الأفريقية. لكنه يحتاج إلى موارد أكثر؛ فهو توسّع ليشمل بنوك التنمية المتعددة الأطراف الأخرى، على غرار بنك التنمية الأفريقي African Development Bank، والبنك الإسلامي للتنمية Islamic Development Bank. وعُزّز دوره بالتنسيق مع مصادر المساعدات الثنائية. وهناك مبادرة أخرى يتولاها البنك الدولي، هي “مرفق التمويل العالمي الميسر” Global Concessional Financing Facility، وتشمل بنوك التنمية المتعددة الأطراف الأخرى، وتدعم البلدان المتوسطة الدخل التي تستضيف اللاجئين (على سبيل المثال، خصص البنك الدولي 1.6 مليار دولار لكولومبيا من أجل مساعدتها على القيام بالجهود التي تبذلها في خدمة اللاجئين الفنزويليين). ولكن مساهمات الصندوق موجهة لبلدان محددة، ولا تلبي على وجه وافٍ احتياجات البلدان المضيفة.
ومن وجه آخر، تُعتبر أزمة المناخ أعظم خطر عالمي يلوح في الأفق، وأهم اختبار لصدق تضامن الدول الغربية مع بقية العالم. ويقع على عاتق الدول الغنية إنفاق تريليونات من الدولارات على إزالة الكربون من اقتصاداتها، ولكنها تحتاج إلى ذلك، إلى دعم التنمية المنخفضة الكربون في البلدان الفقيرة، ودفع الأكلاف اللازمة للتكيف مع تغير المناخ الذي تدل عليه المستويات الحالية للاحترار العالمي.
لذا، يكتسب تعيين مدير إداري جديد للبنك الدولي، في اجتماعات ربيع عام 2023، أهمية قصوى. وعلى ما كتب وزير الخزانة الأميركي السابق، لاري سامرز، “من الضروري جداً للولايات المتحدة وحلفائها استعادة ثقة العالم النامي. ومن أجل استعادة تلك الثقة، ليس ثمة وسيلة أفضل من تقديم دعم جماعي واسع النطاق لأولويات هذه البلدان. ومن أجل حشد الدعم، أسرع الطرق وأجداها هي الاستعانة بالبنك الدولي”.
وعلى قيادة البنك الدولي الجديدة تعويض الوقت الضائع. فوفق المحلل تشارلز كيني، انخفضت مساهمات البنك نسبةً إلى الدخل القومي الإجمالي في البلدان المقترضة من 4.0 في المئة في عام 1987 إلى 0.7 في المئة في عام 2020. ومن الممكن، بل من الضروري أن يبذل البنك الدولي مزيداً من الجهود. ويجب أن تتناول عملية الإصلاح معالجته البالغة التشدد في شأن المخاطر، ومجموعة شركائه المحدودة للغاية (من غير الحكوميين والحكوميين)، وثقافته وطريقة عمله، جنباً إلى جنب مقترحات التمويل الجديد في أجندة بريدج تاون التي تعهدتها رئيسة وزراء بربادوس، ميا موتلي. وهي مبادرة تدعو إلى حشد جديد وعريض للأموال، وصرفها على البلدان التي تعاني من تغير المناخ والفقر، وذلك بواسطة المؤسسات المالية الدولية. ولا يحتاج المدير العام الجديد إلى جمع مزيد من الأموال فحسب، بل إلى تطوير أنظمة تسديد تأخذ في الاعتبار أن الدول الهشة التي تمزقها النزاعات تحتاج إلى معاملة تختلف عن معاملة الدول الأكثر استقراراً.
مكان على طاولة القرار
فإلى صياغة طريقة أكثر إنصافاً لمواجهة المخاطر العالمية، تحتاج الدول الغربية إلى تلبية مطالب الدول النامية في دور دولي أقوى تأثيراً. والحق أن دولاً كثيرة تبدي استياءها من اختلال ميزان القوة العالمية في المؤسسات الدولية المعاصرة. وبرز أخيراً أحد الأمثلة على ذلك أثناء جائحة كورونا. وكانت مبادرة “تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19” التي أطلقتها “منظمة الصحة العالمية” مبادرة مهمة رمت إلى تعزيز وصول اللقاحات والعلاجات والتشخيصات إلى أنحاء العالم. ولكن ممثلي البلدان المنخفضة الدخل، والبلدان المتوسطة الدخل، لم يُشركوا في إدارة البرنامج على نحوٍ مجدٍ. وهذا النقص في التمثيل أعاق الجهود المبذولة والتي رمت إلى تحقيق التوزيع العادل للقاحات، وتقديم الخدمات الصحية الأخرى على نحو فعال.
ويدعو حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، على رأس النظام العالمي، إلى التفكير في إعادة التوازن إلى جميع المؤسسات الدولية، وإلى أساليب عملها، ومراعاة وقائع القوة الحديثة. فاليوم، يحق للأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، استخدام حق النقض على القرارات كلها، ما يؤدي إلى تهميش الدول الأعضاء العشر الأخرى، وهي في معظمها دول ذات دخل منخفض ومتوسط.
ولا يبدو من المرجح إحداث إصلاح جوهري يغيّر عدد الدول التي تمتلك حق النقض في المجلس. ولكن النزاعات الجارية في إثيوبيا وسوريا وأوكرانيا واليمن أمثلة على سيادة الإفلات من العقاب عندما يشل حق النقض أو التهديد بإعماله مجلس الأمن. ومن القرائن على الإحباط، في هذه القضية، “مبادرة حق النقض” التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2022، وتشترط أن تنعقد الجمعية العامة تلقائياً لمناقشة المسألة المطروحة عندما تستخدم دولة حق النقض. وإلى ذلك، وقّعت أكثر من 100 دولة على اقتراح فرنسي ومكسيكي، يحظى بدعمي، يدعو الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إلى الموافقة على الامتناع عن استخدام الفيتو في أحوال الجرائم الجماعية الفظيعة. وبعض الأعضاء الدائمين يمارس ضبط النفس. فالمملكة المتحدة، مثلاً، لم تستخدم حق النقض بشأن أي قضية منذ عام 1989.
وينصّ الاقتراح على أن يحدد الأمين العام للأمم المتحدة الأحوال التي تقتضي تعليق حق النقض، بناءً على تعريف واضح لـ “الفظائع الجماعية”. ومثل هذا الإصلاح يحرر عملية صنع القرار في المجلس، فتشمل على نحو أكثر إنصافاً آراء الأعضاء العشرة المنتخبين، بالإضافة إلى الأعضاء الخمسة الدائمين. وفي هذا الإطار، أعربت الولايات المتحدة عن قلقها من التسييس المحتمل لتعريف الفظائع. وعلى رغم أن المسؤولين الأميركيين قلقون، بشكل مبرَّر ومفهوم من عواقب التخلي عن حق النقض (وإن كان ذلك في ظروف محدودة)، ينبغي أن يحفّز استخدام موسكو المتكرر حق النقض على القرارات المتعلقة بأوكرانيا، في العام الماضي، واشنطن على التفكير في ما إذا كانت المكاسب التي قد تجنيها من رفضها النظر في القيود على الفيتو تفوق الخسائر التي قد تتكبدها.
النظر في المرآة
وفي معركة استمالة الرأي العام العالمي، يلعب الخطاب دوراً مهماً. واعتماد الغرب وصف الحرب في أوكرانيا بصراع بين الديمقراطية والاستبداد، لم يلق صدى قوياً خارج أوروبا وأميركا الشمالية، على رغم أن الأوكرانيين يقاتلون، حقيقة، من أجل ديمقراطيتهم إلى قتالهم دون سيادتهم. إلا أن الغزو ينتهك، في المقام الأول، وفي نظر بقية العالم، القانون الدولي. ويصح هذا في الهجمات العسكرية الروسية، واستهدافها المدنيين الأوكرانيين والبنية التحتية المدنية.
وثمة بديل أفضل من هذا. وعلى الحكومات الغربية تعريف الصراع صراعاً بين حكم القانون وبين الإفلات من العقاب، أو بين القانون وبين الفوضى، عوض تصويره صراعاً بين الديمقراطية والاستبداد. ويتمتّع مثل هذا النهج بمزايا كثيرة. فهو يحدد موقع الديمقراطية بشكل صحيح بين مجموعة من الأساليب الرامية إلى تعزيز المساءلة والحد من إساءة استخدام السلطة. ويوسع نطاق التحالف الداعم المحتمل لأوكرانيا. ويختبر الصين في أضعف مواضعها. فهي تدّعي دعم نظام دولي قائم على القواعد. وإلى ذلك، يبدو هذا النهج أيضاً أقل تركيزاً على الذات، وهو أمر مهم نظراً للمشكلات الحادة التي ابتلي بها عدد كبير من الديمقراطيات الليبرالية. والأرجح أن يكون التحالف المبني على أساس الحاجة إلى القواعد الدولية أوسع بكثير من التحالف القائم على الدعوة إلى الديمقراطية.
ويقتضي الدفاع عن حكم القانون، من الدول الغربية الالتزام به ودعمه. وإدانة الولايات المتحدة الانتهاكات الصينية لـ “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار”، وما يتعلق بالمنشآت العسكرية الصينية على الجزر في بحر الصين الجنوبي على سبيل المثال، تكون أكثر إقناعاً إذا صادقت الولايات المتحدة على الاتفاقية. وعلى رغم أن نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس وجهت دعوة قوية في مؤتمر ميونيخ الأمنيMunich Security Conference الذي عُقد أخيراً إلى ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب في أوكرانيا، إلا أن تلك الدعوة كان من الممكن أن تكون أكثر فاعلية لو صادقت الولايات المتحدة على نظام روما الأساسي Rome Statute الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية في عام 1998. ويستشهد نقاد القوى الغربية وخصومها، من غير كلل، بهذه المعايير المزدوجة، وليس من الصعب معرفة السبب.
والتساؤل عما إذا كان من المهم حقاً أن تصطف دول العالم مع أوكرانيا، مشروع. وفي هذا الإطار، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، في خطاب ألقاه في يونيو (حزيران) 2022، إنه يعتقد أن هذا الاصطفاف مهم بالفعل، مجادلاً أنه في أعقاب الحرب، “تشكلت مراكز قوية جديدة على هذا الكوكب”، في إشارة إلى صعود قوى مثل البرازيل والصين وجنوب أفريقيا. ويدّعي بوتين أن هذه التغييرات “أساسية ومحورية”. وفي الأثناء، أطلقت الصين سلسلة من المشاريع العالمية تحت عنوان “مجتمع المصير المشترك للبشرية”، بما في ذلك برنامج الاستثمار الضخم في البنية التحتية، المعروف باسم “مبادرة الحزام والطريق”، الذي يجسّد النظام العالمي المتغير.
وعلى رغم ذلك، أمضى الرئيس الأميركي جو بايدن أقل من ثلاث دقائق في مناقشة أحوال العالم الأوسع، خارج حدود أوكرانيا، في خطابه عن “حال الاتحاد”، في فبراير (شباط)، الذي استغرق أكثر من ساعة. وكانت هذه ثغرة مذهلة، نظراً إلى سجل إدارته الجدير بالثقة: أكثر من 90 في المئة من المساعدات الإنسانية التي يتقاضاها الصومال، على سبيل المثال، مصدرها اليوم هو الولايات المتحدة. ولا شك في أن أجندة تولي المرتبة الأولى التودد إلى العالم لا تحظى سوى بقليل من التأييد المحلي؛ فهذا ليس المكان الذي تُدلى فيه بالأصوات الانتخابية. بيد أنّ الدول الأخرى قادرة على الإدلاء بصوتها، ليس في الانتخابات الأميركية، بل في طريقة رؤيتها للمصالح الأميركية والترويج لها في جميع أنحاء العالم. وفي حال أوكرانيا، ظلّ الاقتصاد الروسي صامداً على رغم العقوبات الغربية. وتوسل إلى ذلك بتوسيع التجارة مع العالم غير الغربي، وتحالفات الطاقة الجديدة، ومصادر تسلح جديدة. وهذه العلاقات مهمة.
ولا يزال كيان الغرب الجيوسياسي صاحب دور قوي ومؤثر. ويسهم التماسك الجديد الذي يبديه في ترسيخ تلك القوة. ولا ريب في أن حصص الدول الغربية من الدخل العالمي ستكون، في القرن الحادي والعشرين، نسبياً أقل مما كانت في القرن العشرين. ولكن نصيب الفرد من الدخل في الدول الغربية لا يزال مرتفعاً، قياساً على المعايير العالمية. وقوة الغرب العسكرية والدبلوماسية حقيقية. والأنظمة البديلة للديمقراطية قمعية وغير جذابة.
وفي الوقت نفسه، تتمتع مطالبة مجموعة متنوعة من البلدان بصفقة جديدة على المستوى الدولي بمنطق لا شك فيه، في كثير من الأحوال. وتلبية تلك المطالب بسرعة، وبحسن نية، أمر ضروري لبناء نظام عالمي يرضي الدول الديمقراطية الليبرالية ومواطنيها. وأتاحت الحرب في أوكرانيا للغرب اكتشاف قوته من جديد، واختبار تصميمه وشعوره بالمسؤولية. ويفترض في الصراع حث الحكومات الغربية على مواجهة نقاط ضعفها وعثراتها.
*ديفيد ميليباند هو الرئيس والمدير التنفيذي للجنة الإنقاذ الدولي. شغل بين عامي 2007 و2010، منصب وزير خارجية وشؤون الكومنولث في حكومة المملكة المتحدة.
مترجم من فورين أفيرز، أبريل (نيسان) 2023
تصويب نشرته فورين أفيرز: وصفت نسخة سابقة من هذه المقالة أهداف صندوق التكيف، وهو صندوق مناخي متعدد الأطراف تأسس في عام 2001. وذكرت المقالة أن الصندوق مكلف بجمع 100 مليار دولار سنوياً لتمويل المسائل المتعلقة بالمناخ بحلول عام 2020، وهو هدف حددته البلدان المتقدمة في عام 2009. والحقيقة، أن هذا الهدف ليس مسؤولية الصندوق، وليس عليه وحده الوفاء به، بل كان هدفاً جماعياً أعلنته مجموعة كبيرة من الدول والمؤسسات المانحة. ويجمع الصندوق مبلغاً أقل بكثير من التمويل، غالباً لدعم مشروعات التكيف مع تغير المناخ في البلدان النامية. وهدفه السنوي لعام 2023، على سبيل المثال، هو 300 مليون دولار.
المصدر: اندبندنت عربية