أصدرت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية في 18 الشهر الماضي (أبريل/ نيسان) مبادرة لحل الأزمة السورية. ومن دون الدخول في تفاصيل المبادرة الطويلة باعتبارها منشورة للجميع، والتي هي بطبيعة الحال تستحقّ ذلك، تعرض هذه المقالة نقاطا يمكن أن تضيء على بعض جوانبها، تتمثّل في ظروف إصدار المبادرة، وفي ردود الأفعال التي قوبلت بها.
جاءت المبادرة ذات الطبيعة السياسية في جوهرها من الإدارة الذاتية، التي هي بحسب تعريفها جهة إدارية لا سياسية. ولتدارك هذا التناقض الشكلي أو الجوهري، حسب وجهة النظر إليه، مع الاختصاصات المحدّدة لكلّ من الإدارة الذاتية من جهة ولمجلس سوريا الديمقراطية من جهة ثانية، تمّ إدراج تحديدٍ أو تقديمٍ يقول “… وعملاً بالمبادئ والرؤية السياسية لمجلس سوريا الديمقراطية الرامية إلى إيجاد حل سياسي، وتزامناً مع المساعي الحثيثة التي تبذل في هذا السياق؛ فإننا نتقدّم بهذه المبادرة من أجل التوصل إلى حل سلمي وديمقراطي للأزمة التي تجتاح بلدنا سورية، لإنهاء معاناة الملايين من أبناء شعبنا”. يؤشّر هذا التحديد على إدراك المسؤولين عن المبادرة لطبيعة الإدارة الذاتية التي هي كيانٌ تنفيذيٌ لا اختصاص له في العمل السياسي بمعناه الضيّق والمباشر.
يتأكدُ ما سبقَ طرحُه من خلال الرجوع إلى تعريف مجلس سوريا الديمقراطية ذاته، حيث ورد في وثائقه تعريفه كما يلي: “هو إطار وطني ديمقراطي سوري يتكوّن من القوى المجتمعية والسياسية والشخصيات المستقلة التي تصادق على وثائقه … كما أن مجلس سوريا الديمقراطية هو المرجعية والمظلة السياسية للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية، وهي المخوّلّة في إجراء أية عملية تفاوضية معتبراً خيار الحل السياسي عبر المفاوضات هو السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد”، أي أنّ المجلس هو الجهة السياسية المناط بها إطلاق المبادرات السياسية وقيادة عمليات التفاوض مع الجهات الأخرى.
تتعدّد الافتراضات وراء إطلاق المبادرة من جهة إدارية تحت مظلّة “المبادئ والرؤية السياسية لمجلس سوريا الديمقراطية”، فبعضها يقول إنّ فشل المفاوضات السابقة التي خاضتها قيادات سياسية من المجلس مع مسؤولين في نظام الأسد، كانوا على الدوام أمنيين لا سياسيين، هو السبب وراء تصدير جهة ثانية للواجهة. ويذهب آخرون إلى أنّ السبب وراء ذلك إرسال إشارات واضحة الدلالة إلى جميع القوى المحلية السورية والإقليمية، مفادها ببساطة أنّ من يمتلكون السيطرة على الأرض هم أصحاب الكلمة الفعليون. أي أن تلك المبادرة هدفت، بشكل أو بآخر، إلى تنبيه الجميع إلى السلطات الحاكمة فعليًا في بقعة تقارب مساحتها ثلث المساحة الجغرافيّة السورية، وتحتوي ضمنها على أهمّ مصادر المياه والطاقة والثروات الباطنية والزراعية السورية. باختصار شديد، هنا يقبع الفيل الأبيض الذي لا يريد أحدٌ رؤيته في غرفة النقاش المفتوح للجميع باستثناء من يتحكّمون بالمنطقة فعلًا! وتذهب بعض الافتراضات إلى أنّ المبادرة، على الرغم من عيوبها الكثيرة، كانت ردّ الفعل السياسي الحقيقي والوحيد على حراك التطبيع الرسمي العربي مع نظام الأسد، وهذه تُحسب لسلطة الأمر الواقع الحاكمة في شمال سورية وشرقها، بغضّ النظر عمّن أصدرها. وتذهب افتراضات أخرى إلى أنّ الخوف من انعكاس التنافس بين محور الأنظمة العربية ومحور تركيا- روسيا – إيران على التطبيع مع نظام الأسد، والخشية من أن تكون على حساب السلطة الحاكمة هناك، بغضّ النظر عن توصيفاتها وتسمياتها، كان هو الدافع لهذا التحرّك.
وفيما يتعلّق بالشق الثاني من هذه المقاربة لهذه المبادرة، أي القسم الخاص بردود الأفعال تجاهها، نجد مؤشّرات كثيرة على عمق الأزمة السياسية السورية. يمكن تتبّع بعض هذه المؤشّرات من خلال العناصر التالية: أولا، لم يصدر عن قوى وسلطات الأمر الواقع الثلاث الأخرى في سورية أي ردّ فعلٍ مباشر تجاه هذه المبادرة، فلا النظام ولا الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وحكومته المؤقتة ولا حكومة الإنقاذ التابعة لسلطة هيئة تحرير الشام بحثت في المبادرة أو ردّت عليها.
ثانيا، اقتصرت ردود الأفعال على نشطاء أفراد، وعلى بعض الكيانات السورية الفاعلة في الفضاء العمومي السوري، من دون أن يكون لها، في الوقت نفسه، تأثيرٌ كبيرٌ وفعلي على الأرض.
ثالثا، أخذت بعض ردود الفعل جانب التأييد المطلق للمبادرة، مع وصفها بالشجاعة والجريئة، واعتبارها الحل الوحيد للخروج من الأزمة السورية في ظل الوضع المتردّي، انطلاقًا من قناعة أصحابها أنّ “هناك في سورية بقعة ضوء هي الإدارة الذاتية، وهي تجربة فريدة في المنطقة تشكّل مشروعًا وطنيًا تقدّميًا ديمقراطيًا”.
رابعا، بينما اعتبرت ردود أفعال أخرى أنّ هذه المبادرة ما هي إلا مجرّد “ذرّ للرماد في العيون، ومحاولة لركوب موجة تقارب بعض الدول العربية مع نظام الأسد، وهدفها تصوير الإدارة الذاتية طرفًا فاعلًا لديه حلّ للمسألة السورية”.
خامسا، فيما ركّزت نقاشاتُ كثيرين من السوريات والسوريين الأفراد على ما خلت منه المبادرة من جهة أولى، مستشهدين بذلك على عدم الإشارة إلى النظام بوصفه المسبّب الأول لهذه المأساة السورية، وعدم إدراج أية إشارة إلى الدور الإيراني أو الدور الروسي في دعم هذا النظام. ومن جهة ثانية، ركّزت النقاشات أيضًا على انحياز لغة خطاب المبادرة الواضحة لمطالب المكوّن الكردي أولًا، ولهموم المنطقتين الشمالية والشرقية ثانيًا، مستشهدين على ذلك بالتطرّق للدور التركي تفصيلًا ونسيان غيره، وبإيراد مخاوف وتطلعات بقيّة المكونات السورية والمناطق الجغرافية على سبيل الاستدراك الذي يثبّت الأصل.
في النهاية، يمكننا الاستشهاد بأقوال كثيرة لم تخرج عن حيّز ردود الأفعال الكلامية على مبادرة الإدارة الذاتية الأولى المحكي عنها أعلاه، لكنّ ذلك يؤشّر إلى مدى الديناميكية التي تتحرّك بها سلطات الأمر الواقع في شمال شرق سورية مقارنة بسلطات الأمر الواقع الأخرى المحسوبة ضدّ النظام، خصوصا المحسوبة على الثورة. وإذا نظرنا إلى التصريح للإعلام الذي أطلقته بدران جياكرد الرئيس المشترك لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية في 30 إبريل/ نيسان بخصوص استعداد الإدارة الذاتية لاستضافة اللاجئين السوريين في لبنان، نرى كم هو البون شاسع بين مختلف القوى المتحكّمة بالجغرافيا والسياسة السورية.
المصدر: العربي الجديد