فصول من كتاب ” الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985″ الحلقة الثامنة عشر

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

نظرة تحليلية … مأزق الأيدولوجيا وامتحان السلطة 8 / 8

 

خلاصات عامة

بعد هذا العرض نستطيع أن نوجز مسار حزب البعث، ودروس هذا المسار بعدد من النقاط أهمها:

1 ـ  تاريخيا لعب حزب البعث العربي الاشتراكي دورا إيجابيا في المرحلة الأولى من عمره، تلك المرحلة التي اختتمت بالوحدة السورية ـ المصرية، ورغم العديد من السلبيات التي ظهرت إبان هذه المرحلة، فإنه أمكن إبقاؤها في إطار قدرة الحزب على التحمل، لم ينفجر الحزب، ولم تمنعه عن القيام بدوره، وقد ساعد في تحجيم آثار تلك السلبيات الظروف السياسية الداخلية التي كانت تشد الجماهير وقواها الوطنية

والقومية إلى المواجهة الحقيقية مع القوى العاتية التي كانت تعمل لرمي سوريا في دوامة التبعية، وفي إطار الدعوات الإقليمية والأحلاف.

إن معركة اغتيال عدنان المالكي من قبل القوميين السوريين، ومعارك مواجهة قوى الديكتاتوريات العسكرية المتتالية، ومعارك الوقوف في وجه الأحلاف، والاتفاقيات المشبوه عربيا ودوليا، ساهمت جنبا إلى جنب مع المعارك القومية التي قادتها مصر الناصرية، من كسر احتكار السلاح، إلى دعوة الحياد الإيجابي، إلى المعركة الأم، معركة قناة السويس، في خلق جو وطني قومي كاسح، دفع بكل السلبيات، والثغرات الفكرية والسياسية، والتنظيمية عند حزب البعث إلى الوراء، وساهمت هذه المعارك في ترشيد عمل الحزب وسياساته، ووضعته على الطريق الصحيح، فكانت هذه المعارك، وتلك القيادة، بمثابة المنارة التي جعلت سفينة البعث تتجه ـ رغم تشوش وتعطل  أجهزة التوجيه فيها ـ الوجهة الصحيحة، ولم يظهر في هذه المرحلة غير وجه البعث التقدمي.

ولقد تعزز هذا الوجه بالدور الإيجابي الذي لعبته قيادته السياسية من خلال وجودها في أجهزة وهيئات الحكم السوري، ومن خلال عسكرييها في اللجنة العسكرية العليا التي كانت تقبض على السلطة من وراء ستار، وجاء هذا الدور متوافقا مع دور الضباط، والقيادات السياسية القومية في الدفع بعملية الوحدة إلى الأمام، حتى تمت ولادة أضخم انتصار للأمة العربية في حياتها المعاصرة، بإنجاز الوحدة الرائدة وولادة الجمهورية العربية المتحدة.

2 ـ عند هذا المفترق بالتحديد انتهى الدور التقدمي للبعث، وجاء حل الحزب* كأسعد خاتمة يمكن أن يكافأ بها، فقد قام بدوره كاملا، واستفاد من كافة الظروف في إتمام هذا الدور، وفي بروزه على النحو الذي برز فيه.

لقد قامت دولة الوحدة، مستفيدة من كل الأجواء الموضوعية، والخاصة، والنفسية، ومتوافقة بالوعي أو بالطبيعة مع قواعد وسنن العمل الوحدوي، ولم يعد بالإمكان إلا السير مع هذه القواعد والقوانين، أو السير ضدها، وما من مكان أو موقع آخر بين هذين الحدين، وتلاقت بشكل نموذجي العناصر الثلاثة: “الوحدة، ومصر، وعبد الناصر”، وصار الموقف من أي منها يعني الموقف من العملية الوحدوية كلها، من وقف مع عبد الناصر ومصر فهو مع الوحدة، ومن وقف مع الوحدة فإنه واقف بالضرورة مع مصر وقيادتها، ومن عارض الوحدة أو مصر وقيادتها، فإنه وضع نفسه موضع الإقليميين أيا كان الرداء الذي يتستر به، وليس المقصود هنا عدم رؤية الأخطاء، أو الغاء حق النقد وكشف العيوب، لكن الموقف من هذا الثلاثي” الوحدة، مصر، عبد الناصر” شيء، الوقوف في وجه الأخطاء والثغرات شيء آخر مختلف كلية، وما من سلطة أو حكم إلا وله أخطاؤه، وثغراته، ولقد ثبت أن كل السلطات التي أعقبت دولة الوحدة كانت محملة بأخطاء، وقصور، وانحرافات، أضعاف مضاعفة عما كانت عليه الحال زمن الوحدة، بل ومختلفة عنها نوعيا.

الموقف من الوحدة يبنى على قاعدة قوانينها، ومعاركها، ووجودها الموضوعي الموحد للأمة، ولقد كان البعث في هذا الجانب فقيرا إلى درجة الخواء، لذلك ما لبث أن وجد نفسه وجها لوجه أمام ” الوحدة، ومصر، وعبد الناصر”، وتصاعد الحديث

حول الهيمنة المصرية، وديكتاتورية عبد الناصر، فإذا بقيادة الحزب أولا، ثم بالحزب بعد ذلك تنجر إلى واقع التجزئة وقوى الاقليمية، وإذا كان الرجعيون قد أقاموا الانفصال الأول تحت شعارات اليمين، فإن البعث قد اقام حكمه الانفصالي الإقليمي تحت راية اليسار.

3 ـ إن الضعف العقيدي، وغياب منهج التفكير العلمي، وافتقار الحزب لرؤية قواعد وقوانين تطور المجتمع عكست نفسها على ممارسة الحزب السياسية، وعلى بنائه التنظيمي، ولم يكن من نتيجة ذلك غير مراكمة الأخطاء، وفتح الباب واسعا للانقسامات، مما عجل بنهاية الحزب كلية، أو بانحرافه، ولن تفيد في مثل هذا الوضع أي محاولة لتجاوز هذا الضعف، إلا إذا جاءت هذه المحاولة في الاتجاه الصحيح. وعند ذلك لا نكون أمام الحزب نفسه، وإنما أمام حزب جديد، وبناء جديد، ولعل هذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نحن لسنا مع حكم الحزب الواحد، ونرى كما رأى جمال عبد الناصر أن حل الأحزاب في سوريا كان خطأ، ولم يتوافق لا مع حاجة دولة الوحدة، ولا مع طبيعة الحياة السياسية في سوريا، لكننا نقول هذا القول هنا من منظور تحليل وضع حزب البعث، ومهمته وآفاقه، ورؤية قادته لواقعه في تلك المرحلة.

هو الفارق بين البعثيين الذين أعادوا بناء الحزب على نفس القواعد السابقة فوجدوا أنفسهم أمام كل نتائج كل الفقر العقيدي، والمنهجي، وبين أولئك البعثيين الذين انخرطوا في بناء أحزاب وحدوية ناصرية في سوريا على أسس قادرة على استيعاب قواعد العمل الوحدوي وقوانينه.

مشكلة حزب البعث أنه يرفع شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، وقد أسس بناءه وتاريخه على هذا الشعار، لكن هذا الشعار الذي كان يستوجب أن يقوم على قواعد المنهج العلمي، وعلى الالتزام بقوانين العمل الوحدوي، وعلى الاستناد إلى الجماهير، والالتزام بقوى العمل الرئيسية فيها، أقامه البعث على منهج “مثالي ـ ذاتي”، وضرب عرض الحائط بتلك القوانين الوحدوية، وتصادم بعنف مع الحركة الجماهيرية، لذلك جاء انحراف الحزب وتفتته تعبيرا عن حالة طبيعية جدا، ولو لم يحدث هذا لكنا أمام ظاهرة يصعب تفسيرها علميا.

إن تجربة حزب البعث أثبتت عيانا مدى الوهم القائل بإمكانية الاستعاضة بالعوامل الذاتية “الحزب ـ الوعي”، عن العوامل الموضوعية، كما أثبتت مدى خطورة هذا الوهم على الحياة العامة.

لقد أراد قادة البعث أن يخضعوا الأمة العربية للحزب، وأن يخضعوا الحزب لإرادتهم، واعتقدوا أن مجرد انطلاقهم من شعار صحيح: أمة عربية واحدة، فإنهم قادرون على أن يبنوا حزبا قوميا، يقود هذه الأمة، ويوجه مسارها، وفاتهم أن صحة الشعار لا تعني صحة البناء العقيدي الذي وقف هذا الشعار على رأسه، وأن بناء الحزب لا يكون أبدا وفقا لشعارات مهما كانت صحيحة، وإنما وفقا لدلالات التاريخ القومي، ووفقا لفهم الواقع الموضوعي العياني، الذي أعطى لهذا الشعار صحته.

ولأن الرؤية النظرية عند الحزب كانت دائما واستمرت على هذا النحو من “المثاليةـ والضعف” فإنه لم يعرف ولا مرة واحدة لماذا امتنعت مصر عن الاستجابة لهذا الحزب؟ ولماذا بقي المغرب العربي كله شبه مغلق عنه؟ ولماذا تراجع بنيانه في كل مكان بما فيه المشرق العربي؟ ولماذا أيضا استحالت على قادته وكوادره المحافظة على وحدة الحزب، أو تحقيق وحدة اقليمين عربيين حكمهما الحزب نفسه.

إن القضية القومية كل متماسك في بنائها النظري، وفي مسلكها العملي، وفي وسائلها وأدواتها، ومن لا يقف مع القضية القومية على هذا النحو فإنه سيصطدم بها كلها، ولا يعود له موقع إلا الموقع المضاد للحركة القومية.

إن القضية القومية لا تتجزأ، ولا تقبل أن تغيب في موقع أو معركة، وتظهر في أخرى، القضية القومية تحكم كل شيء، أو تكون غائبة عن كل شيء، من بنية الحزب، إلى التنمية الداخلية، إلى قضية فلسطين، إلى مسألة الحريات، إلى الموقف من جماهير الأمة، إلى السياسة الخارجية، وحين تغيب فإننا نلحظ بسهولة أثر هذا الغياب في تشوهات اجتماعية، إقليمية وطائفية، في كل هذه المجالات.

4 ـ وأثبتت تجربة البعث أن الحزب ـ أي حزب ـ لا يستطيع أن يحكم مسار المجتمع: “السلطة، العسكر، التنمية، طبقات المجتمع”، إلا إذا كان هو نفسه خاضعا لقوانين التطور لاجتماعي، تَمَثلها، وتجاوب معها، واندفع بها نحو مزيد من الفاعلية، أما خارج هذا الإطار فإنه سريعا ما يتحول إلى أداة للقوى القابضة على مراكز القوة في المجتمع.

وفي بلداننا، وبحكم ظروف موضوعية، فإن الجيش من أهم هذه القوى، ولقد رأينا ونحن نتابع جدل العلاقة بين العسكر والسلطة كيف أن الحزب شأن كل القوى السياسية التي وقفت على مسرح السياسة السورية قبل الوحدة، خضع لإرادة السلطة العسكرية، وصار طوع بنانها، ولم يبق أمامه إلا أن يلهث وراءها، وفي كل مرة أراد أن يتمرد على هذا الواقع جاءت التطورات لتعيده إلى صوابه.

على منوال المنهج ” المثالي ـ الذاتي” فإن قادة الحزب لم يروا في تمرد عسكرييه على سلطتهم الحزبية، وفي استلامهم للسلطة السياسية غير “ضعف التثقيف السياسي”، وغير ” انحراف بعض القيادات والأدوات”، ولو أنهم ملكوا المنهج العلمي في فهم الظواهر وتحليلها لتبينوا أن سبب ذلك يكمن في الحزب نفسه، وفي قصوره العقائدي، وفي منهجه المثالي، وفي تصادمه مع قوانين العمل الوحدوي الذي يرفعون لواءه.

إن الجيش مثله مثل الشعب لا يخضع للسلطة إلا إذا كانت تقوم فعلا بما يتجاوب وصميم احتياجاته، أي بما يتجاوب وقواعد تطوره الموضوعي، وهذا التجاوب والاستجابة هو ما يعطي السلطة القائمة ـ أي سلطة قائمة ـ مشروعيتها، إذ ليس مصدر شرعية السلطة الاستفتاء، ولا الرضا الحزبي، ولا أي شيء آخر، إلا بمقدار ما يأتي هذا انعكاسا وتمثلا للحقائق والاحتياجات الاجتماعية، وحينما لا يكون الأمر كذلك، فإن جوهر هذه الشرعية يسقط، ويبقى أن من يملك القوة يسقطها  عمليا، ويقيم عوضا عنها شرعية جديدة تستند إلى أحد مصدريها: الناس واحتياجاتهم، أو القوة وعنفوانها، والجيش في سوريا هو مالك القوة، وعسكريو الحزب هم الذين استطاعوا بالتربية الحزبية التي غرست فيهم أن يقبضوا على مواقع القوة والقرار في الجيش، وباستمرار كانت اللعبة القديمة تعود مجددا، لكن اللاعبين يجري تبديلهم.

وإذا كان تاريخ الحياة السياسية في سوريا حتى الوحدة يشير بوضوح إلى أن القوى السياسية كانت تنصاع وراء الإرادة العسكرية وتلهث للحاق بها، فإن هذا التاريخ يشير منذ استلام البعث للسلطة إلى نفس الحقيقة، حيث الحزب بمؤسساته وقياداته، وتوجهاته، كان دائما ينصاع لإرادة عسكرييه، ويلهث في محاولة اللحاق بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى