فصول من كتاب ” الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985″ الحلقة الرابعة عشر

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

نظرة تحليلية … مأزق الأيدولوجيا وامتحان السلطة 4 / 8

في المسألة القومية

 في قضية الوحدة العربية، والقومية العربية، نستطيع أن نقول بكل اطمئنان إن أيديولوجية الحزب في هذه الخصوص تبشيرية محضة، ليس فيها أي جانب من جوانب اكتشاف القواعد الموضوعية لعملية التوحيد ذاتها، ولا الرؤية التاريخية للوجود القومي، ولاكتمال بنيان الأمة، ولا الاستناد إلى نظرية قومية قائمة على مفاهيم واضحة.

إن هذا التوصيف العام لفكر الحزب في المسألة القومية يأتي نتيجة طبيعية لغياب منهج التحليل العلمي عند الحزب ومؤسسه، ولاعتماده على خلفية مثالية ذاتية، لا نستطيع أن نعطيها وصف المنهج، ولا وصف الرؤية الواضحة الموضوعية.

لهذه الخاصية التبشيرية فإن الحزب بقي محافظا على تمسكه، متألقا حول شعار الوحدة، يعمل بفاعلية وتأثير متنام بين الجماهير، ما دام ألأمر في نطاق التبشير، في نطاق العامل الذاتي.

فالجماهير لم تسأل الحزب يوما ماهي الأمة التي ننتمي إليها، ما هي خصائصها، ما علاقتها بالتراث الذي تتحرك الأمة في إطاره، ما علاقتها بالإسلام كدين وحياة، ثم ما هو الطريق الى تجسيدها في دولة واحدة، ذلك أن الجماهير هي الواقع الحيوي للأمة، وهي مخزن قيم الأمة، وتوجهاتها. إن من يطرح هذه الأسئلة ليس الجماهير، وإنما المعارك التي تدخلها الأمة، وتحتاج خلالها إلى شحذ أسلحتها الفكرية، وكذلك تطرحها عملية التنظيم ذاتها، باعتبارها تجسيدا للنظرية ومقاربة للهدف.

ولأن الحزب في الفترة ألأولى من عمره ـ حتى إتمام الوحدة السورية المصرية ـ لم يُختبر جديا خارج إطار التبشير، فإنه بقي محافظا على موقعه من الشعار ” الوحدة”، وبالتالي من الجماهير، أما بعد ذلك فإن اصطدامه مع دولة الوحدة، ووقوفه إلى جانب القوى الإقليمية، وعجزه عن تحقيق وحدة الحزب، وعجزه عن تحقيق الوحدة الثلاثية، ثم الوحدة الثنائية بين سوريا والعراق، وتحوله التدريجي إلى أداة من أدوات الدعم والمحافظة على الإقليمية العربية، وتغذيتها بروافد جديدة تحت شعارات تقدمية، جعلت كل تلك الأسئلة تطرح مرة واحدة، وبدأت الإشارات تتصاعد حول وجود خلل في مفاهيم الحزب للقضية القومية، وجعله يتحول هذا التحول.

وإذا كانت قضية الوحدة تخضع ـ شأن أي قضية أخرى ـ لقواعد موضوعية، فإنه يبدو أن افتقاد الحزب لهذه القواعد، رؤية والتزاما، جعلها تفعل فعلها في مسار الحزب، وتكشف عن مسار جديد مولد للإقليمية، غير تلك المسارات التقليدية.

لكشف هذا العجز في فهم والتزام القواعد الموضوعية في عملية الوحدة، نحن مضطرون أن نتابع رؤية هذه القواعد لدى قادة ومفكرين قوميين، ونقارن ذلك بما يقدمه مفكرو الحزب.

ـ بأسلوب سياسي أدبي يطرح جمال عبد الناصر بعض القواعد الموضوعية في عملية التوحيد حينما يتحدث في فلسفة الثورة عن الزمان، والمكان، والدور، فيقول*:

“إن القدر لا يهزل، ليست هناك أحداث من صنع الصدفة، ولا وجود يصنعه الهباء، ولن نستطيع أن ننظر إلى خارطة العالم نظرة بلهاء، لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة، ودورنا بحكم هذا المكان.

أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة هي منا، ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقة وفعلا لا مجرد كلام.

ايمكن أن نتجاهل أن هناك قارة أفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها، وشاء أيضا أن يكون فيها صراع حول مستقبلها، وهو صراع سوف تكون آثاره لنا أو علينا، سواء أردنا أم لم نرد.

أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ.

وكما قلت مرة: فإن القدر لا يهزل.

فليس عبثا أن بلدنا في جنوب غرب آسيا، يلاصق الدول العربية وتشتبك حياته بحياتها، وليس عبثا أن بلدنا يقع في شمال شرق أفريقيا، ويطل من علٍ على القارة السوداء التي يدور فيها اليوم أعنف صراع بين مستعمريها البيض، وأهلها السود، من أجل مواردها التي لا تح.

وليس عبثا أن الحضارة الإسلامية، والتراث الإسلامي ـ الذي أغار عليه المغول الذين اكتسحوا عواصم الإسلام القديمة ـ تراجع إلى مصر، وآوى إليها فحمته مصر، وأنقذته عندما ردت غزو المغول على أعقابه في عين جالوت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة ص    دار المسيرة ـ بيروت

.

كل هذه حقائق أصيلة ذات جذور عميقة في حياتنا لا نستطيع مهما حاولنا أن ننساها أو نفر منها…

ولست أدري لماذا يخيًل إليً دائما أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دورا هائما على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يخيًل إليً أن هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعبا منهوك القوى على حدود بلادنا، يشير إلينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور، ونرتدي ملابسه، فإن أحدا غيرنا لا يستطيع القيام بذلك.

وابادر هنا فأقول: إن الدور ليس دور زعامة، وإنما دور تفاعل وتجاوب مع كل هذه العوامل يكون من شأنه أن يفجر الطاقات الهائلة الكامنة في كل اتجاه من الاتجاهات المحيطة بها، ويكون من شأنه تجربة لخلق قوة كبيرة في هذه المنطقة، ترفع من شأن نفسها، وتقوم بدور إيجابي في بناء مستقبل البشر”.

بهذا الأسلوب يطرح جمال عبد الناصر دور مصر*، ويؤكد أنه دور محطوم بقواعد لا يمكن الفكاك منها، ولا يستطيع أحد غير مصر القيام به، وأنه دور يتوقف عليه تفجير طاقات المنطقة، وبناء قوة كبيرة تصنع لنفسها، وللإنسانية، عالما جديدا.

**وبأسلوب علمي بحثي رصين يقوم المفكر العربي نديم البيطار بدراسة حركة التوحيد القومية في تجارها المختلفة، ثم يجري عليها عمليات التجريد اللازمة ليستخلص منها القوانين الأساسية للعملية الوحدوية، ولتتكشف أمامه أنه ما من عملية وحدوية جرت إلا وتحقق لإنجازها عدد من الشروط / العوامل، بعضها كان يتوفر في كل تلك العمليات، وبعضها الآخر يغيب هنا، ويظهر هناك. وحين حدد تلك العوامل المستمرة في كل التجارب الوحدوية ـ وهي ما دعاها بالقوانين الأساسية ـ جاء وجود وتوفر “الإقليم القاعدة”، كأحد القوانين الأساسية للعملية الوحدوية في مختلف العصور، وفي مختلف أشكال العمل التوحيدي، وحين طبق ذلك على الوضع العربي، ظهرت أمامه مصر باعتبارها التجسيد الكامل للإقليم القاعدة، فأوقف عليها انطلاق

العملية الوحدوية وتمكنها. يقول البيطار1: ” تمثل مصر في أهمية مركزها الاستراتيجي، وفي موقعها الجغرافي في قلب الوطن العربي، وفي وزنها البشري، وثقلها العسكري. الخ، القطر العربي المرشح حاليا أن يمارس دور “الإقليم ـ القاعدة”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*بعض المفكرين أخذ على عبد الناصر أنه لم ير في العروبة، والأمة العربية، غير دائرة من عدة دوائر، ولو أن هذا البعض أمعن النظر قليلا فيما قاله عبد الناصر، ثم تابع قليلا حديثه عن الدائرة الأولى” الأمة العربية”، لاكتشف خطأه في فهم ما قاله عبد الناصر، إنه حديث عن دور إقليم كمصر، في دوائرها المختلفة، دور مصر كما هيأه لها الزمان، وكما فرضته عليها “عبقرية المكان”، وحينما لا تقوم هي نفسها بهذا الدور فإنه يبقى معطلا، ويعكس أكثر الآثار سوءا في إطار دوائرها الثلاث أيضا، وهذا ما يشهد عليه الواقع الراهن.

** نديم البيطار: من التجزئة إلى الوحدة، ط 4 1983 ص 388ـ389، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت

فبدون مصر تستحيل الوحدة العربية، وخروجها منها يعني قتلها. هذه الوحدة يمكنها “الاستغناء” عن أقاليم أخرى، وخصوصا التي تقع في أطراف الوطن العربي، ولكنها تستحيل دون مصر التي تشطر الوطن العربي إلى نصفين، لهذا لم يكن غريبا أن تصدر عنها المبادرتان أو الحركتان الوحيدتان اللتان حققتا درجة من درجات الوحدة في هذا الوطن في تاريخنا الحديث، مرة غي النصف الأول من القرن الماضي، وأخرى في النصف الثاني من هذا القرن”.

وما دام وجود الإقليم القاعدة “ظاهرة / قانون” في كل عملية وحدوية، وقيام هذا الإقليم بدوره شرط لانطلاق العملية الوحدوية، فإن قعوده عن القيام بهذا الدور يعني انتكاسة للعملية الوحدوية، وبالتالي انتكاسة خطيرة لقضية الثورة، لذلك يلاحظ البيطارأن2:

” نهاية المرحلة الناصرية، مع وفاة عبد الناصر، قادت في الواقع ليس إلى انحسار وحدوي رهيب، بل إلى انحسار ثوري مماثل، بعد تلك المرحلة التي كانت تدور باستمرار وبقوة جول فكرة الوحدة والثورة، لم تحدث أي ثورة، اية خطوة وحدوية، وأصبح الوطن العربي فريسة مد رجعي وإقليمي يزداد بروزا مع الوقت”.

ولأنه استخلص بيقين ضرورة توفر ” الإقليم القاعدة”، كقانون في العملية الوحدوية، جنبا إلى جنب مع القانونين الآخرين: “القيادة المشخصنة، والتحدي الخارجي”، فإنه استخلص معيارا لصفة الوحدوية التي يمكن أن تطلق على أي فرد أو حركة، أو اتجاه سياسي، فجعل الارتباط بهذا الإقليم دليلا عمليا على وحدوية الالتزام بعيدا عن الشعارات المرفوعة، وبعيدا أيضا عن كل الاعتبارات الذاتية، فيقول*:

الارتباط بمصر الناصرية آنذاك كان يعني الارتباط بهذه القوانين الأساسية، التي لا يمكن دون توفرها، والعمل لها الانقال من حالة التجزئة إلى حالة الوحدة، ولذا كان كل خروج عنه، وعليه، يعني خروجا من وعلى التاريخ، ومن وعلى العقل التاريخي… إن مقاومة الارتباط بمصر الناصرية، أو بقيادة عبد الناصر آنذاك، كانت تعني مقاومة دولة الوحدة، وبالتالي اللقاء ” الموضوعي” ـ مهما كانت النيات الوحدوية نقية ـ مع التجزئة، واختلال فلسطين، وجميع ما يؤخر بناء مستقبل عربي جديد”.

ـ وعلى قاعدة البحث العلمي يقدم لنا الدكتور جمال حمدان رؤيته لجانب من هذه المسألة في كتابه الموسوعي ” شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان فيقول**:

“إن دور مصر الريادي لم ينقطع ابدا حتى في الفترات التي آلت فيها الزعامة العربية إلى غيرها، بل إننا نوشك أن نقول إن الزعامة العربية خارج مصر لم تكن في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* البيطار المرجع السابق ص376 ـ 377

**جمال حمدان: شخصية مصر ـ دراسة في عبقرية المكان ج4 ص 659 ـ 660

جوهرها إلا مرحلة تجريبية، أو مرحلية ـ عابرة ومؤقتة ـ قل فترة أو محطة حضانة”.. وهكذا كانت التجربة التاريخية الحرة تؤكد بإصرار أن الزعامة التي آلت إلى مصر العربية هي زعامة طبيعية، وملمح أصيل في شخصيتها الإقليمية، وحتى تحت نير الاستعمار الأوربي الحديث، حتى حينما انحسر مبكرا في وحدات خارج مصر بينما كان لا يزال يجثم فيها، كانت مصر بلا جدال القلب الحضاري للعرب، وظلت ” واحة العرب”.

ويلخص هذا جميعا ما يقتبسه واحد من أكبر رواد الدعوة القومية العربية الحديثة في دور مصر ” لقد زودت الطبيعة مصر ـ يقول الرائد ساطع الحصري ـ بكل الصفات التي تحتم عليها أن تقوم بواجب الزعامة والقيادة في إنهاض القومية العربية، لأنها تقع في مركز البلاد العربية بين القسمين الأفريقي والآسيوي، كما أنها أكبر كتلة من الكتل التي انقسم إليها العالم العربي بحكم السياسات، والظروف، وكل ذلك ، من الموقع الجغرافي، الى الكثرة ، الى الثورة العامة، ومستوى الثقافة، وتشكيلات الدولة، مما يجعل مصر الزعيمة الطبيعية للقومية العربية”.

في مواجهة هذه القاعدة الموضوعية “الإقليم القاعدة”، التي جعلها الدكتور البيطار أحد ثلاثة قوانين أساسية في العملية الوحدوية، فإن حزب البعث يظهر عجزا بينا عن تفهمها، أو حتى الوقوف عليها.

وقد يرى البعض أن فكر الحزب قوميا قد تطور وتعمق، وغذا كانت سمة التبشير والعاطفية هي التي لفته بردائها في مرحلة الخمسينات، فليس شرطا أن تكون هذه السمة قد استمرت بعد ذلك، وهو قول يحمل الكثير من الجدية، لأنه يمس حقيقة إنسانية وهي أن التعلم من الحياة والتجربة، والنضوج مع تقدم السن، لكن مما يعو إلى خيبة الأمل أن هذا الحزب، في هذا الإطار لم يكتسب من التجربة، ومن مرور الزمن، ما يجعله يقارب أو يتطلع إلى قانون ” الإقليم القاعدة”، إن لم قل ازداد ابتعادا عن هذا القانون.

ـ في الفترة ما بين 26 ـ 29 تشرين ثاني / نوفمبر 1979، قام مركز دراسات الوحدة العربية بتنظيم ندوة حول ” القومية العربية في الفكر والممارسة”، قدم لها الأستاذ محمود رياض ورقة حول تجربة “الوحدة السورية ـ المصرية”ـ وكان للأستاذ صلاح البيطار مداخلات عديدة على هذه الورقة، ما يهمنا هنا أن نقف على رؤيته لدور مصر، ومكانتها في العملية الوحدوية، ومن اين تستمد هذا الدور، يقول صلاح البيطار*:

“في موضوع الهيمنة التي سبقت ردود الفعل الإقليمية، قصدت الهيمنة السياسية، فأنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ندوة “القومية العربية في الفكر والممارسة”، المرجع السابق، ص440

أعرف أن مصر لم تستفد اقتصاديا من سوريا، هذا شيء مؤكد، والمؤكد أيضا هو الهيمنة السياسية، والهيمنة السياسية على أساس استبعاد الحزب الذي قام بالخطوة الوحدوية، لماذا؟، وماذا كان ذنبه!. كيف لا نتوقع حدوث صدمة قوية عند أعضائه الأبرياء!، مشكلة الهيمنة في الوحدة المصرية السورية يجب بحثها بعمق، لو أن مصر كانت تحمل أكثر من سوريا لواء الوحدة لقبلت هيمنتها، وهذه مشكلة أساسية، فالذي يحمل لواء الدعوة الوحدوية القومية هي سوريا، وليست مصر، فكمصر مع الأسف لم تكن بروسيا في وحدة ألمانيا، حتى تخضع الإمارات الثلاثمئة لها، هذه نقطة اضيفها لأنها مهمة جدا”.

بعيدا عن المعاني السلبية التي يمكن لكلمة “هيمنة” أن تثيرها، فإن الأستاذ البيطار يرضى بزعامة مصر لو أنها كانت تحمل لواء القومية العربية، ولكنه يرى الأمر عكس ذلك، حيث أن هذا اللواء معقود لسوريا، وبالتالي لحزب البعث، إن مصر بعرفه لم تكن “بروسيا العرب”، ويجعل من هذه الفكرة قضية أساسية يصفها بأنها “المهمة جدا”.

إن طرح مسألة الإقليم القاعدة على هذا النحو يثير في الحقيقة اشكاليتين أساسيتين:

الأولى: “إشكالية منهجية”، فهو يبني “الدور ـ المكانة” المترتبة على هذه المسألة على عنصر الوعي، وليس على قاعدة موضوعية، أي أنه يكشف عن نظرة “مثالية ـ ذاتية”، تماما كما كشف عنها الأستاذ عفلق في أحاديثه عن الأمة والقومية، ولو أن هذه النظرة خرجت من شخص آخر غير الأستاذ البيطار لتحرزنا أن نضعها في فكر الحزب ورؤيته، لكن البيطار مثل دوما العقل السياسي للجزب، مثلما مثل عفلق عقله الفلسفي والنظري، ويصعب غلينا نحن وأيضا على مفكري وكتاب الحزب أنفسهم الفصل بين هذه القيادة التاريخية وبين الحزب : سياسة، وفكرا، ومسلكا.

الثانية: إشكالية تاريخية تنبئ عن قراءة سطحية عجولة للتاريخ العربي الحديث، ولتاريخ ثورة 23 يوليو 1952، ورجالاتها حتى قيام الوحدة عام 1958.

إن القول بأن سوريا كانت معقل القومية العربية، وحاملة راية الوحدة العربية، يحتاج إلى نقد جدي من زاويتين ـ كما أشرنا سابقا ـ: معنى النضج، ومعنى القومية العربية اتها، وإذا لم نقم بذلك فإن الكثير من ظواهر الحياة المشرقية وفي المقدمة منها بروز الإقليمية النظرية والعملية بشكل حاد، وبروز الطائفية في المشرق العربي يبقى عصيا على الفهم.

إن الظواهر الاجتماعية، ليست اختراعا، ولا وقفا على إرادات الأفراد، وإلا كانت مراجعتها ودراستها ضربا من السحر والوهم، ومن لا يرى هذه الظواهر في سياقها التاريخي، ويستعجل استخلاص قواعد وقوانين، من خلال نظرات جزئية للتاريخ، أو نظرات مجتزأة للأفراد، والكتل والقوى الاجتماعية، فإنه يقع حتما في تصادم مع القواعد العامة التي تشير الى تلك الظواهر، ويتحول تدريجيا من أداة دفع اجتماعية، إلى أداة إعاقة، سواء عرف ذلك أم يعرف.

في فهم القضية القومية مشرقيا، فإن دراستها في إطارها الطبيعي والصحيح يجعلنا نتحفظ كثيرا على ما خلص إليه الأستاذ البيطار، وقد تناول العديد من المفكرين دراسة هذه المسألة، ونكتفي هنا بإيراد رؤية الدكتور جمال حمدان لهه المسألة، وهي رؤية تصيب كبد الحقيقة، وتساعدنا على فهم ليس الدعوة القومية المشرقية فحسب، وإنما الانتكاسة في القضية القومية مشرقيا بعد ذلك، يقول الدكتور جمال حمدان*:

” هناك من يرى أن مصر بدأت تتجه اتجاها عربيا في الأربعينات الماضية خاصة، كنتيجة لصراعات التوازن الأسرية بين الرجعيات الحاكمة في المشرق العربين فرحبت مصر الملكية بإنشاء جامعة الدول العربية كرد ـ جزئيا على الأقل ـ على السياسة الهامشية ممثلة في أطماع ” سوريا الكبرى”، ثم زاد هذا الاتجاه العربي بالضرورة مع حرب فلسطين، حتى إذا كانت الهزيمة حاولت الرجعية الحاكمة العزلة مرة ثانية، قبل أن تأتي نهايتها مباشرة على يد ثورة لم تقم إلا لتأكيد الاتجاه العربي، وعروبة مصر، ومعنى هذا بوضوح أن سياسة العزلة كانت أساسا مسألة مناورات تكتيكية تحتمها مصالح الرجعية الحاكمة، ولا تدل على واقع الشعب الطبيعي، أو اتجاهه الحر”. …..

وبعد أن يتحدث جمال حمدان عن أثر اختلاف ظروف مصر عن سوريا والمشرق العربي في علاقتهما بالسلطة العثمانية وبمواجهة الغزو الغربي المبكر لمصر، على ظهور المسالة القومية فيهما يؤكد أن اهتمام سوريا بحمل مشعل القومية العربية قبل مصر كان نتاجا لأثر هذه الظروف**:

“ومن هنا حملت سوريا بالضرورة مشعل الدعوة العربية، بينما مصر بالضرورة أيضا مشغولة عنها، ومن الواضح أن ليس في هذا عزلة طبيعية، ولا مقصودة عن العروبة، ويكفي أن سوريا حين أصابها الاستعمار الأوربي أجلت هي أيضا الهدف العربي رغما عنها إلى حين، بينما حينما نفضت مصر والمشرق هذا الاستعمار برزت

الدعوة العربية فيهما متعاصرتين بصورة لها كل مغزى، بل لقد نزعم أن الدعوة العربية كما ظهرت في مصر جاءت أكثر نضجا ووضوحا منها كما جاءت في سوريا.  فإذا كان لا شك في سبق وأصالة وتقدمية الدعوة السورية المبكرة في العشرينات، فمن الثابت كذلك أنها لم تخل جزئيا من دوافع معينة، بحثت عن القومية العربية كبديل عن الإسلامية العثمانية، كما أن مما له مغزاه أن نفس هذه الدوافع الجزئية، حين أوشك تحقيق القومية العربية أن يكون أمرا واقعا، نكصت عنها، وتخندقت في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ـ **جمال حمدان: المرجع السابق ص 653 ـ 654

انفصالية الوطنيات الضيقة، ولهذا قلنا إن الدعوة المصرية “للقومية العربية”، وإن جاءت أكثر تأخرا زمنيا فقد جاءت أكثر نضوجا قوميا، حتى يمكن أن نميز بين مرحلتين من الدعوة إلى القومية العربية: المرحلة العاطفية أو الرومانتيكية كما ظهرت في سوريا في العشرينات، والمرحلة الواقعية أو العلمية كما ظهرت في مصر المعاصرة”.

هذا من جانب رؤية التاريخ الحديث للقضية القومية بين سوريا ومصر، أما من جانب رؤية ثورة يوليو فإن القومية العربية إذا كانت ـ كما يقول ميشيل عفلق ـ ” حقيقة نضالية”، وإذا كانت الأمة العربية متحققة في كل مكان يوجد فيه نضال، وأن أمتنا موجودة في كل مكان يحمل فيه أفرادها السلاح، فإن من المفروض أن يتبع ذلك  القول: إن ثورة يوليو، ورجالاتها، وقيادة جمال عبد الناصر كانت التعبير الحي الناضج عن روح القومية العربية وهي تخوض معاركها العديدة التي جاءت وحدة 1958 تتويجا لها، ولا يعود هناك من معنى حقيقي للتساؤل عمن يحمل لواء الدعوة القومية.

إن قانون “الإقليم ـ القاعدة”، ليس جديدا في الفكر العربي، وليس اختراعا أتى به مفكر، كما أنه ليس قضية” أوربية”، ذلك أن العرض الذي يقدمه الدكتور البيطار لتجارب العمل الوحدوي في العالم القديم، وفي المنطقة العربية، وفي أوربا وأمريكا، يؤكد أن هذا القانون “قانونا عاما وأساسيا”.

ولو عدنا قليلا على بدايات تشكيل الدولة العربية الإسلامية عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجدنا هذا القانون يبرز بصورة طبيعية وواعية عند أوائل الصحابة، لكنه يبرز بشكل يتناسب مع ظروف تلك المرحلة، ومع مفاهيمها.

إن غالبية فقهاء المسلمين إذ يتفقون على أن الخلافة في قريش، فإن أول من قال هذا صراحة وبوضوح هو “أبو بكر الصديق” رضي الله عنه، حين قال في اجتماع سقيفة بني ساعدة*” إن العرب لا تعرف هذا الأمر ” الخلافة” إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط دارا ونسبا”.

إننا حين نقف وقفة مطولة على هذا القانون فلأنه عماد الفكر الوحدوي، وأهم مميز في السلوك الوحدوي وذلك على وجهين: حين يكون هذا الإقليم القاعدة نشطا تجاه دوره ومهمته، وحين تكون قواه معطلة ومشلولة عن القيام بهذا الدور.

فإذا كان معيار الوحدوية الارتباط بهذا الإقليم، وبقادته حين نشاطه وفاعليته القومية، فإن معيار الوحدوية حينما تعطل ظروف ما قدرته عن القيام بهذا الدور أن يعمل كل الوحدويين حتى يستعيد هذا الإقليم دوره، ويتحرر من كل ما يعوق حركته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الطبري ـ تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 200 طبعة دار القلم.

إذا فإنه في الوضعين: الإيجابي والسلبي، فإن معيار الوحدوية هو الموقف من هذا الإقليم، والموقف من حركته ونشاطه.

ولعل أبرز مظاهر الإقليمية هي محاربة هذا الإقليم حينما يكون فاعلا في الاتجاه القومي، والوقوف إلى جانب القوى المعيقة لدوره حينما تكون هذه القوى مكبلة لنشاطه، معطلة لقواه، وإننا لنرى في تاريخ ” البعث ـ السلطة ” هذا الدور في أكثر من مرحلة.

خارج إطار قانون ” الإقليم القاعدة”، الذي تلاحم بوجود جمال عبد الناصر مع القانون الآخر ” القيادة المشخصنة”، فإننا نشهد لحزب البعث طفولية ذات أثر سلبي عميق في التعامل مع الخطر الخارجي، أي مع التحدي الخارجي الممثل بالوجود الصهيوني، وغذا كان الموقف النظري من هذا الوجود موقفا سليما بشكل عام، قبل استلام البعث للسلطة، فإن الموقف العملي كان موقفا شائكا ألقى بظلاله على الحياة العربية واصابها إصابة بالغة.

ـ فعلى صعيد إدارة التحدي، وبناء القوة القادرة على الوقوف في وجه هذا الوجود فإن إجمالي مسلك البعث قبل عدوان حزيران 1967، وبعده، في مواجهة إرادة عبد الناصر المستمرة لبناء جبهة شرقية قادرة على تغطية حاجة الصراع، وعلى بناء وضع وطني داخلي في المشرق العربي قادر على تحمل مرحلة الصراع، كان مسلكا غنيا عن التعريف، ولعل كل الشعارات التي رفعت بدءا من شعار” حرب التحرير الشعبية” كانت عملية هروب إلى الأمام.

ـ وعلى صعيد الموقف من المقاومة الفلسطينية فإن تاريخ سلطة البعث يشهد مقدار ما كان سلبيا، أو حينما أعطتها من عناصر الاطمئنان ما شجعها على المضي في عملية تحدي السلطة ألأردنية، ثم التخلي عنها دفعة واحدة من قبل بعثيي سوريا والعراق على حد سواء، أو بعد أن تجربتها في الانتقال إلى لبنان، وهي تجربة ما زالت حية في النفوس.

ـ وأخيرا على صعيد الحركة السياسية في إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهو صعيد يصب مباشرة في اتجاه معاكسة خط عبد الناصر، وذلك أن ما رفضوه زمن عبد الناصر، وقد كانت كلها حينذاك خطوات تكتيكية ـ من وقف إطلاق النار، الى القرار 242 إلى مبادرة روجرز ـ قبلوه بعد رحيل عبد الناصر، وبعد الردة في مصر، أي بعد أن أصبح الخط الاستراتيجي للقرار السياسي العربي يختصر بالتفريط بالحق العربي. لقد كان عبد الناصر يؤمن*” أن الطريق إلى فلسطين لا يفتحه السلاح وحده،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جمال عبد الناصر: رسالة إلى مؤتمر الطلبة العرب في الولايات المتحدة الأمريكية، بتاريخ 28 / 8 / 1963، من بحث ياسين الحافظ: عبد الناصر والصراع العربي ـ الإسرائيلي، مجلة شؤون فلسطينية ص20

إن الجيوش الوطنية إذا لم تكن في قوتها تعكس واقعا اجتماعيا صلبا وقويا، تصبح في أحسن الأحوال قشرة من حديد يسهل كسرها، وإنما تصبح للجيوش الوطنية فاعلية حقيقية إذا كانت قوتها أعمق من قشرة الحديد، إذا كانت قوة دروعها مستمدة من الواقع الاجتماعي، ومقدرته”. وقد كانت سياسة البعث وفلسفته على عكس هذا الاتجاه سواء نظرنا إلى الأمر في الإطار الوطني، حيث قاد البعث اشد المعارك مع القوى الوحدوية والتقدمية داخليا، أو نظرنا إلى الأمر على المستوى القومي، حيث صبت سياساته في اتجاه منع قيام قوة سياسية وعسكرية تستطيع أن تلجم العدوان الإسرائيلي.

ولعل ياسين الحافظ ” الماركسي الاتجاه”، الذي كتب ” التقرير العقائدي للحزب” في مؤتمره السادس، والذي على أساسه نبعت توصيفات اليمين واليسار، الثوري والاصلاحي، هو خير من يصف مسلك الحزب، وسياساته تجاه التحدي الخارجي، ففي مقال له في شؤون فلسطينية يقول*:

“ما لبث عهد الانفصال أن سقط، ولاح سراب وحدة ثلاثية ما لبث أن تبدد، وانفرد حزب البعث بالسلطة بعد 18 تموز 1963، وغابت الاحتمالات الوحدوية في أفق منظور، وعقد مؤتمر قومي لحزب البعث انتخب منيف الرزاز ـ الذي ترك عيادته في عمان ـ أمينا عاما لحزب البعث، وما لبث الرزاز أن صعًد بالاشتراك مع أمين الحافظ الحملة على عبد الناصر، وبشكل يذكر بحملة الحوراني في عهد الانفصال، وبخاصة في خطابه يوم 28 ايلول 1964.

بعد أن أطيح بالرزاز والحافظ في 23 شباط 1966، أعلنت السلطة الجديدة التي يقودها صلاح جديد أنها ستعمل لتقارب ما (!) مع القاهرة، وكرست في نفس الوقت شعار تحرير فلسطين كشعار مطروح في أمر اليوم، وأطلقت شعارا جديدا:” الجيش لحماية الثورة، وحرب التحرير الشعبية لتحرير فلسطين”، و ” التحرير طريق الوحدة”…. ما هي خلفيات هذه الشعارات ودوافعها؟

ثمة عوامل عديدة… من المحتمل أن تكون رغبات قواعد الحزب في تحرير فلسطين عاجلا قد لعبت دورا ما، ولكن مما لا شك فيه أن الرباعي (صلاح جديد، يوسف زعين، نور الدين الأتاسي، إبراهيم ماخوس)، قد رأى في هذه الشعارات أحد أسلحته في الصراع ضد عبد الناصر. لقد تصور هذا الرباعي أن هذا الطرح الجديد للمسألة الفلسطينية، مضافا إليه تشديد اللهجة اليسارية، سيدفن نهائيا مسألة الوحدة السورية المصرية، وسيلف الجماهير الناصرية والفلسطينية ويعزلها بالتالي عن عبد الناصر”. لقد كان مسلك البعث، وشعاراته في هذه المسألة جد طبيعي، وما هو مخالف لطبيعة الأمور أن نتوقع غير ذلك لسبب جوهري ووحيد وهو أن التصادم مع القواعد / السنن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ياسين الحافظ المرجع السابق ص 14 ـ 15.

الموضوعية في العمل الوحدوي سوف يؤدي إلى استرخاص كل الشعارات، وكل الأفكار، وكل القيم.

إن المسألة هنا ليست عبد الناصر، وليست مصر، وإنما إمكانية التوافق أو التصادم مع قوانين العمل الوحدوي، وقد حاول البعث أن يتجاوز هذه القوانين بالاستعاضة عنها في بناء حزب قومي، وفاته أن إمكانية بناء حزب قومي تستند أصلا إلى رؤية هذه القوانين وإلى تمثلها.

لقد انقسم وتهاوى حزب البعث حين اصطدم مع جمال عبد الناصر، ومع مصر، وبعده وقع الأمر نفسه لحركة القوميين العرب.

إن الحزب القومي أداة للأفكار والمفاهيم والقيم، ووسيلة وطريقة لتثبيتها عيانا، لذلك فإنه يصاغ على جنس تلك الأفكار، وعلى جنس تلك الأيديولوجيا، ولا يمكن حشوه بأية أفكار ثم نتوقع منه أن يستمر ويعطي أكلا كما نشتهي، إن هذه نظرة إلى الحزب خاطئة كلية، ولا يمكن أن تعطي غير ما أعطت: انقسامات، وتشرذما، وصراعات مستمرة.

إذا كانت مصر هي ” الإقليم ـ القاعدة” في العملية الوحدوية، فإن بناء أي تنظيم قومي يجب أن يعكس وجود مصر على هذا النحو، وبهذه المكانة تماما، وإلا فإن النتيجة معروفة، ومحددة، وهي ما نراه في حزب البعث.

إن الرسالة الخالدة، والأمة المستقرة عبر التاريخ كله، والروح التي تجسد الأمة، وتجعلها عصية على التعريف … كلها مفاهيم إذ تفيد في مراحل الطفولة الأولى، وفي عملية التبشير، فإنها سرعان ما تهتز في معارك الحياة، وصراعاتها إن لم تؤسس على فهم القواعد الموضوعية لتكون وبنيان الأمة، ولطريق توحدها، فالقضية هنا ليست كيف تكون دولة الوحدة القادمة، وإنما علام وكيف تؤسس، وما الطريق إلى ذلك، وقد كان الحزب فقيرا إلى درجة كبيرة في هذا الجانب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى