الأحزاب والحركات القومية
الحلقة الأولى: عرض للأحزاب القومية ـ 1 /3
أولا: حزب البعث العربي الاشتراكي
** البداية/ الجذور
في العام 1943 تشكلت حركة البعث العربي على أيدي مجموعة من الشباب القومي القادم من لواء الاسكندرونة إلى دمشق بعد سلخه عن سوريا وتسليمه للأتراك، وكان على رأس هذه المجموعة ” زكي الأرسوزي” المثقف القومي ذو الشعبية الواضحة في اللواء السليب. وحملت هذه المجموعة لواء الدعوة القومية لمواجهة الاستعمارين ” الفرنسي والتركي”.
وإلى جانب هذه المجموعة وجدت مجموعة أخرة التفت حول الاستاذين ” ميشيل عفلق وصلاح البيطار” المدرسين في ثانويات دمشق، أطلقت على نفسها أسم حركة” نصرة العراق” إبان ثورة رشيد عالي الكيلاني في بغداد، ثم تجولت فيما بعد إلى ” حركة الاحياء العربي”.
وبضغط من كوادر المجموعتين اتحدتا تحت اسم ” حركة البعث العربي”، ومن أبرز الأسماء التي ظهرت في تلك المرحلة: جلال السيد من دير الزور، ووهيب غانم من اللاذقية، وجمال الأتاسي من حمص، وفوزي عيون السود، وعبد الخالق نقشبندي، ونايف الطعاني، ومنصور الأطرش، وسامي الدروبي..، وابتعد الأستاذ زكي الأرسوزي عن العمل في الحركة منذ البداية نظرا لعدم ثقته بالأستاذين ميشيل عفلق وصلاح البيطار.
وحددت حركة البعث العربي هويتها منذ البداية بأنها حركة قومية عربية واشتراكية، وأنها قامت لمواجهة الاستعمار والرجعية والشيوعية، ورفعت شعارها” أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وأصدرت نشرات باسم “البعث العربي”، وكانت هذه النشرات قبل التوحيد تحمل اسم ” الإخاء العربي”، كما أصدرت مجموعة منشورات ضد الاستعمار تدعو للاستقلال الناجز، وتبنت مواقف وطنية حين كانت تؤكد على ضرورة استلام الجيش من سلطات الانتداب، ووضعه تحت سيطرة الحكومة الوطنية، كما ساهمت في التظاهرات الوطنية الطلابية التي خرجت منددة بقوات الاحتلال.
واتخذت الحركة مقرها الرئيسي في العاصمة دمشق، واستطاعت فيما بعد فتح مقرات أخرى في حلب، وحمص، ودير الزور، والساحل.
** مرحلة التأسيس العلني
في العام 1945 تقدمت الحركة بطلب الترخيص إلى وزارة الداخلية لإنشاء حزب سياسي باسم” حزب البعث العربي”، وتمت الموافقة على الطلب بعد تردد طويل. كما تمت الموافقة على منح الحزب حق إصدار جريدة باسم ” البعث”، وصدر العدد الأول منها في أوائل تموز/ يوليو 1946.
وبتاريخ 4 نيسان / أبريل عقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث الذي ضم 200 عضو مؤسس هم جميع أعضاء الحزب في ذلك التاريخ، وفي هذا المؤتمر أقر دستور الحزب، ونظامه الداخلي، والبيان التأسيسي بعد صراع خفي بين أطراف المجموعتين الرئيسيتين اللتين تشكل منهما الحزب، وانتخب ميشيل عفلق عميدا للحزب، وصلاح البيطار ووهيب غانم وجلال السيد أعضاء في اللجنة التنفيذية.
ولوحظ منذ بداية تشكيل الحزب بعده القومي إذ ضم مؤتمره التأسيسي أعضاء من لبنان ومن الأردن، كما نص نظامه الداخلي على أنه حزب قومي عربي، وأكد على وحدة الأمة العربية، ووحدة شخصيتها ورسالتها الخالدة، كما أكد على الاشتراكية وعلى الديموقراطية البرلمانية، وحدد أهدافه ضمن شعار” وحدة ـ حرية ـ اشتراكية”.
وافتتح الحزب مكتبه العلني في مدينة دمشق، وبدأ الاستعداد لخوض معركة الانتخابات البرلمانية، وخاضها فعلا لكنه لم يستطع الفوز بأي مقعد نظرا لحداثته في الحياة السياسية، وعدم تبلور رموزه السياسية، وضعف خبراته الانتخابية، واستمر الحزب في نضاله السياسي ضد الحكومة التي تسيطر عليها الأحزاب اليمينية، ودعا باستمرار إلى الوحدة العربية، ورأى في الوحدة مع العراق افضل خطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة، ونشط الحزب في الدعاية ضد الصهيونية، وضد تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ودعا أنصاره وأعضاءه للانخراط في جيش الإنقاذ الذي أنشأته جامعة الدول العربية للدفاع عن عروبة فلسطين، وقاتل بعض أعضائه فعلا على أرض فلسطين.
في العام 1949 قام قائد الجيش السوري الزعيم حسني الزعيم بانقلاب عسكري ضد الحكومة الدستورية، ولاقى هذا الانقلاب تأييدا فوريا من حزب البعث، وخرج أعضاء الحزب بمظاهرات تأييد للانقلاب، واعتبر الحزب الانقلاب حركة إصلاحية ضد الحكومة الرجعية، لكن حسني الزعيم بدلا من التعاون المطروح عليه من قبل الحزب، ومن قبل قوى سياسية أخرى، قرر إقامة حكم ديكتاتوري عسكري، وأقدم على تنفيذ خطوات وإجراءات رجعية، لا وطنية، حين وقع على اتفاقية لمد خطوط النفط مع شركة ” التابلاين” الأمريكية، هذه الاتفاقية التي ترددت الحكومة الدستورية في عقدها، خوفا من ردود فعل الجماهير ضدها، وأمر بسحب الجيش السوري من أجزاء الأراضي الفلسطينية التي كانت متواجدة فيها بعد حرب فلسطين مما ساعد على احتلالها من قبل الصهاينة، ورفض التعاون مع الأحزاب الوطنية، كما رفض إعادة الحياة الديموقراطية، وانقلب حسني الزعيم على حظب البعث وزج بقيادته في السجن وعلى راسهم عميد الحزب ميشيل عفلق، مترعا بعريضة احتجاج قدمها الحزب إليه يطالبه فيها بالإصلاح، لكن تم الافراج فيما بعد عن ميشيل عفلق بعد توجيهه رسالة اعتذار الى الزعيم حسني الزعيم ، وتضمنت الرسالة ندم عفلق على خطته بتوجيه عريضة الاحتجاج ضد سياسات الزعيم، وتهده بالتخلي عن العمل السياسي نهائيا.
ورغم ان تعهد عفلق بالتخلي عن العمل السياسي لم بنفذ ابدا، إلا أن صراعا حادا حدث بين كوادر الحزب حولها، لكن ميشيل عفلق استطاع الثبات في وجه منتقديه من أعضاء الطاقم القيادي بفضل التأييد المطلق الذي كان يحظى به من قبل مريديه الكثر في صفوف الحزب وقواعده.
في ذات العام وقع انقلاب مضاد للزعيم بقيادة العقيد سامي الحناوي، فأعدم حسني الزعيم، وتشكلت حكومة جديدة ضمت كافة الأحزاب السياسية العاملة في البلاد، واستلم عميد حزب البعث ميشيل عفلق وزارة المعارف في هذه الحكومة، وكانت المرة الأولى التي يشارك فيها الحزب بالوزارة، وخاض الحزب الانتخابات البرلمانية، وهي ثاني انتخابات يخوضها الحزب، لكنه فشل في الحصول على أكثر من مقعد واحد، هو مقعد جلال السيد عن مدينة دير الزور، وكان نجاحه بسبب علاقاته العشائرية لا بسبب هويته السياسية، أو صفته الحزبية.
وفي هذه المرحلة شهدت سوريا صراعا حادا بين أنصار الوحدة مع العراق، وبين أنصار الوحدة مع السعودية، ووقف حزب البعث مع الاتجاه الأول، الذي قادة حزب الشعب مع وجود بعض التباين في موقف الحزبين، حين أعلن البعث عن شروط محددة للوحدة مع العراق، منها:” الحفاظ على النظام الجمهوري في سوريا”، و” عدم انسحاب الاتفاقية الإنكليزية ـ العراقية على سوريا”، ولكن موقف الحزب سرعان ما تغير فيما بعد بفضل تأثيرات ميشيل عفلق الشخصية، والذي رأى في الارتباط مع العراق في ذلك الوقت ارتباطا بالقوى الاستعمارية التي تتحكم بالعراق.
من جهة أخرى انخرط الحزب في غمار المعارك النقابية والعمالية منها بشكل خاص، وخاض معارك مطلبية جماهيرية قاسية، وعندما قام أديب الشيشكلي بانقلابه عام 1952 واجهه بموقف معارض، حيث اعتبره خطوة لصالح الحلف السعودي المصري، كذلك استقبل ثورة 23 يوليو / تموز في مصر بسلبية، واعتبرها حركة ديكتاتورية عسكرية، وتخوف كثيرا من انفتاح هذه الثورة على نظام الشيشكلي في سوريا المعادي للحزب وتوجهاته.
في أواخر عام 1952 تمت الوحدة التنظيمية مع الحزب العربي الاشتراكي الذي يرأسه أكرم الحوراني، وكان قد امتاز بشعبية واسعة في أرياف محافظتي حماة وإدلب، وأطلق على الحزب الجديد تسمية ” حزب البعث العربي الاشتراكي”، كما أضيف أكرم الحوراني إلى مجلس قيادة الحزب.
واستطاع الحزب بعد الدمج التغلغل في صفوف القوات المسلحة، مستفيدا من العلاقات الواسعة للحوراني بضباط الجيش من أبناء بلدته، واستطاع تنظيم مجموعة من صغار الضباط، وأخذ الحزب بالمقابل بعمل على تشكيل تنظيمات مدنية / سرية، لمواجهة الظروف الطارئة، ولعب أنصار الحزب في الجيش دورا هاما في إسقاط أديب الشيشكلي عام 1954، وساهم الحزب في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي استلمت الحكم بعد سقوط الشيشكلي، حيث استلم وزارتين إحداهما وزارة الخارجية التي عهد بها إلى صلاح البيطار، أحد أعضاء مجلس قيادة الحزب، وفي هذه المرحلة حقق الحزب نجاحات غير متوقعة في الانتخابات البرلمانية حيث تمكن من الحصول على اثنين وعشرين مقعدا في البرلمان الجديد، وتمكن من إيصال أكرم الحوراني الى رئاسة مجلس النواب.
وساهم الحزب من موقعه الجديد بالتصدي لمشروع حلف بغداد، وعمل على منع جر سوريا إلى سياسة الأحلاف، ودفع لإقامة تعاون بين سوريا والمعسكر الاشتراكي، وعمل على اختراق جدار العزلة العالمية، ووقف الى جانب الثورة المصرية التي بدأت تبرز مواقفها القومية والوطنية بشكل واضح وحاسم، وكانت له مواقف حاسمة الى جانب تلك الثورة إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وخلال هذه المرحلة اشتد الصراع بين حزب البعث وجماعة الاخوان المسلمين، كما شهد المرحلة قيام عناصر من الحزب القومي السوري باغتيال العقيد “عدنان المالكي” نائب رئيس الأركان ذو التوجه القومي، والمتعاطف مع حزب البعث.
على الصعيد الحزبي، ومنذ دمج الحزبين وقيام ” حزب البعث العربي الاشتراكي صارت القيادة مؤلفة من ميشيل عفلق، وأكرم الحوراني، وصلاح البيطار، وفي المؤتمر الثاني للحزب الذي انعقد في حزيران / يونيو 1954 وحضره ممثلون عن الحزب من سوريا ولبنان والأردن والعراق، سمي ميشيل عفلق أمينا عاما للحزب بعد الغاء منصب العميد.
وفي كانون الثاني / يناير 1955 عقد المجلس القطري الأول للحزب في سوريا، وعقد المجلس القطري الثاني للحزب في سوريا في تموز / يوليو 1957، وكان من أبرز نتائج المجلس الجديد انتخاب قيادة قطرية معظمها من العناصر الشابة في الحزب، وأهم هؤلاء: عبد الكريم زهور، جمال الأتاسي، منصور الأطرش، أدهم مصطفى، فوزي عيون السود.
** مرحلة الوحدة
ساهم حزب البعث بدور كبير في الدعوة إلى الوحدة مع مصر، وكان له دور ملموس في الاعداد لها، ووافقت قيادة الحزب على حل فرع الحزب في سوريا وهو الشرط الذي وضعه جمال عبد الناصر لقبول الوحدة، ـ شرط حل الأحزاب السياسية في سوريا ليتوافق الوضع مع مصر التي حلت فيها الأحزاب ـ وشارك القادة البعثيون في الأجهزة التنفيذية لدولة الوحدة، حيث تسلم أكرم الحوراني منصب نائب رئيس الجمهورية، كما عين عدد من البعثيين في مناصب وزارية، لكن وبعد عام واحد على قيام دولة الوحدة دب الخلاف بين جمال عبد الناصر والقادة البعثيين بسبب رغبة ألأخيرين بأخذ دور أكبر في قيادة مؤسسات الوحدة وتنظيمها السياسي، وشكواهم من “تسلط المصريين”، ومن “القيادة الفردية لجمال عبد الناصر”، ومن الصلاحيات الواسعة الممنوحة لأجهزة الأمن في سوريا بقيادة عبد الحميد السراج، وتقدم الوزراء البعثيون باستقالة جماعية من مناصبهم، قبلها عبد الناصر فورا، إذ اعتبر موقفهم هذا ” انسحابا من الوحدة نفسها”، بينما رأى البعثيون أنهم خدعوا في عبد الناصر، وأخذوا يتحدثون عن تسلط المصريين على السوريين! وعن تحكم الأجهزة البوليسية، وحاولت بعض كوادر الحزب إعادة بناء التنظيم المحلول، لكن هذه المحاولات تعرضت لملاحقة نشطة من قبل الأجهزة الأمنية، ومن جهة أخرى رفضت بعض كوادر الحزب سياسة العداء لدولة الوحدة التي أخذت تنتهجها قيادتهم، وأعلنت عن ولاء واضح لدولة الوحدة ولقيادة عبد الناصر.
أما داخل الجيش فقد كان الوضع مختلفا تماما، حيث حافظ عدد من الضباط من ذوي الرتب الصغيرة على ولائهم للحزب، وحافظوا على صلات محدودة فيما بينهم بعيدا عن الجهاز المدني، ولم تلق أزمة الحزب آثارها على الفرع السوري فحسب، بل امتدت لتشمل كافة الفروع، حيث انفصلت مجموعة تؤلف ثلث عدد أعضاء المؤتمر القومي عن الحزب، وأعلنت تأييدها لعبد الناصر، ولدولة الوحدة، وعلى راسها عبد الله الريماوي أمين سر الأردن، وفؤاد الركابي أمين سر العراق.
** مرحلة الانفصال وإعادة بناء الحزب
وعندما وقعت جريمة الانفصال في 28 أيلول / سبتمبر 1961، وقع بعض قادة الجزب بأشنع أخطائهم، حين وقع كل من أكرم الحوراني، وصلاح البيطار ، وخليل كلاس، ورياض المالكي، على وثيقة تؤيد وتبارك الانفصال إلى جانب مجموعة السياسيين اليمينيين والتقليديين، ولكن بعضا من قادة الأحزاب الآخرين رأوا في إجراء زملائهم تسرعا غير مبرر، ودعوا إلى لقاء يتم فيه تدارس الوضع برية، وفعلا عقد في شهر أيار / مايو 1962 مؤتمر قومي للحزب تدارس في مدينة حمص السورية، وتقرر فيه إعادة بناء الحزب في سوريا، وشكلت لجنة مؤقتة بقيادة الأمين العام ميشيل عفلق، تضم في عضويتها مندوبين من العراق، كما تم طرح تقييم جديد لموقف الحزب من قضية الوحدة والانفصال، وتبنى الحزب شعارا تجديد الوحدة على أسس جديدة وطرح مشروعا لوحدة اتحادية ” لا يتم فيها تسلط الإقليم الأكبر على الإقليم الأصغر”، وعارض المؤتمر حركة الانفصال وأدانها.
اعترضت عملية إعادة بناء الحزب في سوريا أزمتان:
الأولى: قرار أكرم الحوراني بإعادة تشكيل الحزب العربي الاشتراكي، ورفعه راية العداء الصريح لدولة الوحدة ولنظام عبد الناصر.
الثانية: تشكيل بعض كوادر الحزب منظمة ناصرية باسم حركة الوحدويين الاشتراكيين، وتوجيه هذه المنظمة اتهامات عنيفة لقادة حزب البعث لما اعتبرته تخليا من هذه القيادات عن تأييد دولة الوحدة، وخروجا عن مبادئ الحزب الأصلية.
لكن الحزب استطاع تجاوز أزمتيه، وإعادة بناء بعض الهياكل التنظيمية بفضل نشاط اللاجئين السياسيين العراقيين من أعضاء الحزب وعلى رأسهم علي صالح السعدي، كما عادت جريدة الحزب ” البعث” للصدور، ولاقت صدى جيدا لدى الجماهير نظرا لمعاداتها الانفصال، كما ساهم الحزب في النضالات الشعبية ضد حكم الانفصال إلى أن تم تحطيم الانفصال الحكم الرجعي يوم الثامن من آذار / مارس 1963، على أيدي الطلائع البعثية والناصرية في القوات المسلحة.
** مرحلة الحكم
استطاع التنظيم العسكري لحزب البعث ـ كما أشرنا سابقا ـ أن يحافظ على تماسكه، ولعب صلاح جديد، وسليم حاطوم، وحمد عبيد، وفهد الشاعر، وحافظ الأسد، ومحمد عمران، وغيرهم من صغار الضباط دورا هاما في بناء هذا التنظيم بعيدا عن إشراف قيادات الحزب المدنية، واستطاع هذا التنظيم العسكري بالتعاون مع كافة الكتل الناصرية، ومع العناصر الوطنية في الجيش الإطاحة بحكم الانفصال بسهولة، ودون إراقة قطرة دم، وتم تشكيل حكومة وطنية من القوى الوحدوية كان لحزب البعث دور هام ومميز فيها، إذ سلمت رئاستها لأحد قادته وهو السيد صلاح البيطار، وكان اختياره مقصودا لإعادة الاعتبار له، بعد إعلانه عن ندمه على خطئه في توقيع وثيقة تأييد الانفصال.
ولم تمض أيام قليلة على حركة الثامن من آذار / مارس 1963 حتى ظهر التصادم واضحا بين الحركة، وبين الجماهير الشعبية التي خرجت في تظاهرات عارمة تنادي بإعادة الوحدة فورا، وبتسليم الحكم لجمال عبد الناصر.
رأى قادة الحزب في إعادة الوحدة بشكل فوري تجاهلا للدروس المستفادة من تجربة الوحدة السابقة، واحتدم بسبب ذلك الصراع بين أنصار عبد الناصر في الجيش والشارع، وبين القيادة البعثية، التي وجدت سندا لها في حركة الثامن من شباط / فبراير 1963 في العراق، وهي الحركة التي قادت حزب البعث لاستلام السلطة هناك بعد الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم.
واستطاع التنظيم البعثي العسكري ـ بفضل دقة تنظيمه وسرية أعضائه، واندساس بعضهم في صفوف التنظيمات العسكرية الناصرية، إحكام قبضته على الجيش وتفكيك التنظيمات الناصرية، وإبعاد معظم العناصر المؤثرة عنه.
في هذه المرحلة فشلت محاولة تجديد الوحدة رغم أن الأقطار الثلاثة: مصر والعراق وسوريا، وصلت في مباحثاتهما إلى مرحلة توقيع ميثاق الوحدة السياسية في 17 إبريل 1963، وقد ظهرت عدم جدية البعث في التوجه الوحدوي عبر عدة مظاهر، وكان أهمها على المستوى الداخلي العمل الدؤوب لهم للانفراد بالسلطة، وضرب الناصريين، وإقدامهم على تسريح أعدادا كبيرة من ضباط الجيش المنتمين لهذا التيار.
وحدث الصدام الدموي بين البعثيين والناصريين يوم 18 تموز / يوليو 1963 عقب فشل محاولة الناصريين الاستيلاء على السلطة، وهي المحاولة التي نفذها العقيد “جاسم علوان”، حيث أعدم عدد كبير من قادة هذه المحاولة، وقتل عدد كبير جدا من منفذيها، وانفرد البعث بالسلطة، بعد أن أعلن الناصريون انسحابهم من الوزارة، وتعاطف معهم حينها ثلاثة من الوزراء البعثيين هم: د. جمال الأتاسي، وعبد الكريم زهور، وسامي الدروبي.
ورغم أن سمة المرحلة كانت الصدام مع الناصريين، إلا أن المرحلة شهدت صراعا داخليا في صفوف الحزب، مثًل أطراف الصراع رئيس الدولة الفريق أمين الحافظ وإلى جانبه كل من رئيس الوزراء صلاح البيطار، وميشيل عفلق أمين الحزب وقائده المؤسس من جهة، والقيادات الوسطى وعلى رأسها مجموعة الفرع العسكري من جهة أخرى، وتركز الخلاف بين المجموعتين على السياسة الاقتصادية، وأسلوب الحكم، والموقف من مقررات المؤتمر القومي السادس الذي عقد سنة 1963، والذي طرحت فيه مفاهيم يسارية أكثر تطرفا، والذي استطاعت بعده العناصر اليسارية الشابة مدعومة من الفرع العسكري من إحكام قبضتها على القيادة القطرية، وباشتداد الخلاف بين الطرفين اتخذت القيادة القومية قرارا بحل القيادة القطرية، وتشكيل مكتب سياسي لقيادة الحكم والحزب في سوريا، واعتبرت القيادة القطرية هذا الاجراء غير شرعي، وتم استقطاب العناصر والكوادر الحزبية ضده، وقام الفرع العسكري وأنصار القيادة القطرية بانقلاب عسكري يوم 23 شباط / فبراير 1966 أطاح بالقيادة القومية، وبالمكتب السياسي، وبأنصارهما، وأصدر الانقلابيون بيانا نددوا فيه بما أسموه ب”التصرفات اللاشرعية واليمينية لقادة الحزب”.
كان لحركة 23 شباط / فبراير تأثير كبير على مسيرة الحزب حين تكرست بعدها ظاهرة وجود تنظيمين يحملان اسم “حزب البعث العربي الاشتراكي”، الأول تقوده القيادة القومية القديمة، التي حافظت على ولاء بعض أنصارها في سوريا، ووقفت معها معظم فروع الحزب ومنظماته في الوطن العربي، والثاني مجموعة 23 شباط / فبراير، ومعها معظم قواعد الحزب في سوريا، إضافة للتشكيلات التي أحدثتها في الوطن العربي، والتي أخذت شكلا موازيا لتنظيمات الحزب الأصلية.
وخطا الحزب بعد حركة شباط / فبراير خطوات أكثر جذرية في قضايا التطبيق الاشتراكي، وترسيخ دور الحزب في مؤسسات الدولة وأجهزتها، ورفع شعار “الحزب القائد”، ورفض الاعتراف بأي وجود شرعي لباقي الأحزاب والتنظيمات السياسية، وتبني سياسة تبعيث “الجيش والأمن والتعليم والقضاء”، ورفض سياسة “التضامن العربي”، واقتصرت علاقاته العربية الجيدة على الجزائر واليمن الجنوبي ( بعد استقلالها)، وفي هذه المرحلة كان للعسكريين دورا بارزا في قيادة البلد، فقد كانت سياسة البلاد، وكافة القرارات الرئيسية تتخذ في المكتب العسكري، وكان على رأس هؤلاء العسكريين العقيد صلاح جديد، واللواء حافظ الأسد، بينما لم تتعد صلاحيات السلطات المدنية الحدود الشكلية. ومثل هذه السلطة المدنية الرسمية: الدكتور نور الدين الاتاسي بمنصب أمين عام الحزب ورئيس الدولة، ويوسف زعين بمنصب رئيس الوزراء، وإبراهيم ماخوس بمنصب وزير الخارجية.
وشهدت تلك المرحلة تذبذبا في العلاقة مع عبد الناصر، ومع أنصاره في سوريا، تراوحت بين العداء العلني في بداية المرحلة، لتنقلب الى توقيع اتفاقية عسكرية مشتركة وتنسيق عسكري كامل في أجواء حرب حزيران / يونيو، لتعود للصدام مع الناصريين، وتزج بهم في السجون بعد أشهر قليلة من هذه الحرب، ولتعود مرة أخرى للتنسيق والتعاون بعد محادثات الرباط 1969، وتصاعد هذا التنسيق حتى وصل إلى أعتاب إقامة مشروع وحدوي جديد يضم مصر وسوريا وليبيا والسودان، كما حدث انفراج نسبي مع الناصريين في سوريا بعد الإفراج عنهم ومحاولة التنسيق معهم في الانتخابات النقابية في بعض المحافظات، لتنقلب بعد ذلك الى صدام عنيف في الأيام الأخيرة من حياة عبد الناصر عقب قبوله مبادرة روجرز الشهيرة.
وعلى مستوى الصراعات داخل الحزب بدأت معالم التصادم تبرز بوضوح بين المؤسستين الحزبية والعسكرية، وكانت أهم القضايا التي طرحت كمبررات للنزاع الموقف من التضامن العربي، ومن دور العسكر في إدارة السلطةـ وكان العقيد صلاح جديد قد تخلى عن موقعه العسكري وتوجه للعمل الحزبي، بصفته الرجل الأقوى في السلطة الجديدةـ، وكذلك حول صلاحيات الأفراد والقادة العسكريين أنفسهم ضمن المؤسسة العسكرية ذاتها، إضافة لمسائل الانفتاح السياسي والعسكري. وكانت أخطر القضايا على الاطلاق هي رفض وزير الدفاع حافظ الأسد تنفيذ تعليمات القيادة القطرية المتعلقة بإدخال قوات عسكرية إلى الأردن للقتال الى جانب الفلسطينيين ضد النظام الملكي الحاكم، ورفضه تنفيذ القرارات المتعلقة بالتنقلات العسكرية في صفوف ضباط الجيش، واتهم الأسد رفاقه أعضاء القيادة القطرية بخروجهم على سياسة الحزب ومقررات مؤتمراته القطرية.
وشهدت الفترة الممتدة من عام 1969 حتى الأشهر الأخيرة من عام 1970 أبعادا خطيرة للصراع بين الأجنحة المختلفة تمثلت بتشكيل أجنحة وتكتلات داخل الحزب والجيش، وقررت القيادة القطرية بعدها عقد مؤتمر قطري استثنائي لبحث الأزمة في الحزب، وتقدمت القيادة باقتراح طرد وزير الدفاع وأنصاره من مسؤولياتهم الحزبية والعسكرية، لكن وزير الدفاع استطاع تنفيذ عملية عسكرية انقلابية، وألقي القبض على معظم أعضاء المؤتمر، وأطيح بالقيادة القطرية، وعرفت هذه الحركة الانقلابية باسم ” الحركة التصحيحية”. وعملت هذه الحركة على إعادة تنظيم الحزب على أسس جديدة، بينما عمل أنصار القادة المعتقلين على إعادة تنظيم صفوفهم في تنظيم مواز عرف فيما بعد باسم حزب البعث الديموقراطي العربي الاشتراكي.
** حزب البعث بعد الحركة التصحيحية 16 / 11 / 1970
بعد الحركة التصحيحية حدثت تطورات مهمة في سياسة الحزب والدولة:
ففي مجال الحزب: تبنى الحزب مفهوم ” قائد المسيرة”، حيث أبرز حافظ الأسد كقائد رسمي للدولة والحزب والجيش، واعتبرت قيادة الأسد أنموذجا للقيادة التاريخية المؤهلة لقيادة الحزب والمجتمع، وتأمين وحدته، واعتبرت القيادة التاريخية ظاهرة طبيعية ـ غير استثنائية ـ وهي ضرورية في دول العالم المتخلف.
وفي المجال الداخلي: دعا الحزب إلى إقامة جبهة وطنية تقدمية بقيادته، وفعلا تم تشكيل هذه الجبهة التي ضمت الاتحاد الاشتراكي، والحزب الشيوعي السوري، وحركة الوحدويين الاشتراكيين، وحركة الاشتراكيين العرب (جناح عبد العزيز عثمان، وعبد الغني قنوت). كما أعلن عن إعادة تنظيم هياكل الدولة ومؤسساتها، فصدر دستور دائم للبلاد، وقانون للإدارة المحلية، وانتخب مجلس الشعب، ومجالس للإدارة المحلية في المحافظات والمناطق.
وعلى المستوى الاقتصادي: شهدت البلاد موجة من الانفتاح الاقتصادي ببعدية الانتاجي والاستهلاكي، وأحدثت العديد من الإجراءات لتشجيع القطاع الخاص مع الإبقاء على القطاع العام.
وعلى المستوى العربي: دعت الحركة التصحيحية إلى سيادة مفهوم “التضامن العربي”، والانفتاح على جميع الدول العربية، مهما كانت طبيعة الأنظمة فيها، وطرحت العديد من المشاريع الوحدوية، فانضمت إلى اتحاد الجمهوريات العربية إلى جانب مصر وليبيا، كما عقدت اتفاقيات وحدوية مع كل من السودان ومنظمة التحرير الفلسطينية، والأردن، والعراق.
ومهما كانت النتائج المتحققة من هذه السياسات إلا أنه من الواضح أنه بات هناك تغييرات كبيرة في سياسة الحزب بعد الحركة التصحيحية، وأدت هذه السياسات بمجملها إلى أن يظهر الحزب بشكل جديد، وعلى صورة غير الصورة المطروحة سابقا.
ولا تزال مقررات الحركة التصحيحية التي اعتمدت منذ بداية حكم حافظ الأسد معلنة رغم تراجع دور المؤسسات الحزبية في السيطرة على شؤون الدولة لصالح الأجهزة الأمنية والعسكرية، ورغم تمزق القوى السياسية المتحالفة مع الحزب ضمن الجبهة التقدمية، وانسلاخ عدد كبير من أجنحتها، وتشكيلها لتنظيمات معارضة، وإفراز أحزاب أخرى، وكذلك رغم عمليات الصراع الدامي مع التشكيلات المسلحة لجماعة الاخوان المسلمين، ووصول البلاد الى حافة الحرب الأهلية ، وتعميق الاستقطاب الطائفي، وفشل جميع المشاريع الوحدوية، والعودة الى الانغلاق على المستوى العربي، والدخول في سياسة العداء والمحاور، وأخيرا العودة لأجواء الصراع على السلطة مع بروز اشتداد الأزمة الصحية لرئيس الجمهورية، قائد مسيرة الحزب والثورة.
** محطات رئيسية في فكر الحزب
يستطيع الباحث في فكر الحزب أن يلحظ دون عناء ثلاث محطات رئيسية تمثل مراحل متميزة على الجبهة الفكرية، تتوافق مع دور الحزب في السلطة، والتغيرات الجارية على هذا الدور:
** المحطة الأولى: وهي الممتدة منذ ولادة الحزب وحتى قبضه على السلطة، وهي مرحلة اختتمت بانعقاد المؤتمر القومي السادس للحزب في دمشق 5 ـ 23 تشرين أول/ أكتوبر 1963.
وأهم ما يميز هذه المرحلة أن فكر الحزب فيها كان فكرا مثاليا، ذاتيا، تبشيرا، اعتمد بشكل أساس على أحاديث مؤسسه السيد ميشيل عفلق، ويستند في جذوره إلى فلسفة وكتابات الأستاذ زكي الأرسوزي، ونحن نعطي هذا التوصيف لفكر الحزب في هذه المرحلة فإننا لا نعتمد فقط على توصيفنا نحن له، وإنما نستند إلى توصيف الحزب نفسه لهذه المرحلة على الجانب الفكري.
ففي كراس نشره مكتب النشر لحزب البعث وطبع في دار الطليعة اللبنانية عام 1973 تحت عنوان” من تراث الفكر البعثي، أحاديث في القومية والتقدم”، جاء ما نصه:
“إن توجه دعوة البعث في مرحلتها الأولى إلى المدرسين والطلاب والمثقفين عموما يفسر لحد ما هذا التشديد على الأمور المعنوية، وهذا التشديد على تغيير نفسية الفرد العربي، ولقد استعان المفكرون البعثيون بمفاهيم شتى وبمدارس فكرية متعددة لتثبيت هذا الأساس الذي اعتقدوا أنه يمكنهم من خلق الخيل الجديد المنفصل عن الواقع الفاسد، والذي يتسلح في انفصاله هذا بالمثالية والأخلاق والايمان والفكرة المطلقة، والخير المطلق، والمحبة والحق، والتفاؤل والثقة بالنفس…. ونلاحظ أيضا كثرة تردد كلمة روح نضالية (روح الشعب، روح جديدة، الحياة الروحية العميقة/ الأساس الروحي …. الخ)، وهذه من شأنها تفجير الدوافع النضالية التي لا يمكن للعمل السياسي الجديد أن يقوم بدونها…. لذلك نجد النظرة المثالية طاغية (وإن كانت سميت حينذاك مثالية واقعية)، وتأخذ طابعا تبشيريا… وقد تبدو تلك المفاهيم قاصرة ـ بمنظور اليوم ـ مغرقة بالمثالية، فضلا عن أنها قاصرة عن تحريك الطبقات الشعبية ….. الخ”.
إن هذه المرحلة التي يدعوها الكراس ” بالمرحلة الأولى” تمثل الأساس في كل البنيان الفكري للحزب، وتفسر جوانب التطور والتغيير في فكره في المراحل التالية، لذلك لا يجوز أن نمر عليها مرورا سريعا، بل لابد من وقفة تعطي هذه المرحلة حقها، وغذ نقتصر هنا على هذه الإشارة فلأننا في القسم المخصص لتحليل مسار الحزب قد أعطينا هذه المرحلة حقها.
** المحطة الثانية: تبدأ رسميا مع المؤتمر القومي السادس للحزب، وإن كنا نجد إرهاصاتها قبل ذلك في كتابات بعض الحزبيين.
ففي هذا المؤتمر تم إقرار أول وثيقة فكرية تعبر عن أيديولوجية الحزب الجديدة، وهي الوثيقة التي دعيت “المنطلقات النظرية”، وبإقرار هذه الوثيقة يكون الحزب قد خرج عمليا ونظريا من إطار أحاديث ومحاضرات أمينه العام.
وجاءت الوثيقة بعد استيلاء الحزب على السلطة في سوريا بأشهر قليلة، وبعد الصدام العنيف مع جمال عبد الناصر الذي اتهم الحزب بأنه لا يملك أي نظرية فكرية، وأن ما يحمله مجرد شعارات خالية من المضمون.
ودار جدل عنيف في الحزب بين أنصار الوثيقة وخصومها، ومنع تعميمها خلال الفترة الفاصلة بين هذا المؤتمر والمؤتمر التاسع المنعقد بعيد حركة 23 شباط 1966، ومن المعلوم أن هذه الوثيقة قد صيغت بجهود ماركسيين انضموا إلى حزب البعث، أو بعثيين اتخذوا من الماركسية منهجا لهم.
وإذا كان من ملاحظة رئيسية على هذه الوثيقة فإننا نقول: إنها تكشف عن مدى حالة الانفصال عن الواقع، والمثالية الفكرية التي كانت توجه الحزب، وإنها تفتقد إلى نظرة نقدية جادة لمسار الحزب، لذلك حوت كثيرا منة التلفيق بين الرغبة في اتخاذ المنهج الماركسي أساسا في التحليل، وبين مثالية السنوات السابقة كلها، كما تكشف ‘ن رغبة جامحة في سد ثغرات تلك المثالية، وقد صيغت العديد من فقرات هذه الوثيقة على منوال ميثاق العمل الوطني للجمهورية العربية المتحدة.
ولعل أفضل ما يكشف عن طبيعة هذه الوثيقة أن نستعرض فقرات منها، فقد جاء في مقدمة الوثيقة:
“إن الحزب كان قد تبنى الاشتراكية الإنسانية، ورفض الاشتراكية الديموقراطية الإصلاحية، وأكد أن الاشتراكية تقوم على مراعاة الخصائص القومية، وأكد على تبنيه النظرية العلمية مع تقديره أنه لا توجد أي نظرية تستطيع الادعاء بأنها كل العلم، وأنه من الممكن أن تكتشف قوانين اجتماعية جديدة ، وتنطلق من أساس علمي، إلا أنها لا تستطيع أن تكون قد استوعبت العلم كله، وأكد بالمقابل على رفضه للاستسلامية العلمية، وقال بأن القومية في آسيا وأفريقيا أداة تحرر من الاستعمار، ومن كل استغلال داخلي ، وأن هناك ربطا عضويا بين القومية العربية والاشتراكية. وأكد على أن الصراع الطبقي لم يتبلور في الوطن العربي نتيجة انقسام حاد في المجتمع بين قلة من الرأسماليين، وطبقة العمال، وإنما ظهر نتيجة عجز الطبقات الاقطاعية والبرجوازية عن قيادة وحماية ثروة البلاد من الغزو الاستعماري، وعن عجزها في تحقيق التنمية، ومن هنا توسعت الطبقة المستغلة لتشمل دعاة التجزئة، والذين يسايرون الاستعمار أيضا”.
كما حدد الأداة التي يتم بواسطتها إحداث التغيير الانقلابي ” الثوري”، الذي دعا اليه، وهذه الأداة هي الحزب الثوري الذي يتحقق مستقبل الأمة العربية فيه.
وقطع بأن أيديولوجية الحزب هي: أيديولوجية قومية اشتراكية علمية ثورية، أما أهداف النضال العربي، أو ثالوث الحزب ” الوحدة والحرية والاشتراكية”، فقد أعادت الوثيقة الحديث عنها بروحية هذه المقدمة، حيث قالت في الوحدة العربية:
“إن الوحدة ليست مجرد تجميع ولصق لأجزاء الوطن العربية، بل هي التحام فصهر لهذه الأجزاء، لذل فإن الوحدة ثورة بكل أبعادها، ومعانيها، ومستوياتها، وهي ثورة لأنها قضاء على مصالح إقليمية وطبقية، وباعتبار أن الوحدة ثورة فيجب أن يكون لها أدواتها الموضوعية، وهي الحركات الثورية الشعبية الطلائعية.
ليست الوحدة العربية نظرية بحاجة الى إثبات، بل هي واقع يحرك أعماق الجماهير العربية من الخليج الى المحيط، وأكد التطور الواقعي للنضال العربي الطابع الاشتراكي والشعبي والثوري لمعركة الوحدة، هذه المعركة التي اصطدمت بالاستعمار وبالإقطاع وبالبرجوازية الوطنية، مما أصبحت معه حركة القومية العربية هي قضية جماهير العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة والمثقفين الثوريين.
والوحدة أصبحت محركة للنضال العربي:
ـ إذ أن النضال الوحدوي أصبح مضطرا لإزالة العراقيل الإقليمية، وباعتبار أن الطبقات المستغلة أصبحت عدوة للوحدة لتباين مصالحها معها، مما أصبح صنع الاشتراكية مترافقا مع صنع الوحدة ذاتها.
ـ الوحدة طريق مواجهة الاستعمار بشكليه القديم والحديث، وهي أيضا المجال الرحب لانطلاق الاقتصاد العربي بشكل سريع، وبما توفره من أسواق، ولما يضمه الوطن العربي من تكامل ثروات.
ـ الاشتراكية هي المضمون الواقعي للوحدة، إذ أن بناء الاشتراكية يحتاج إلى قاعدة مادية لا يمكن أن تتحقق في ظل التجزئة.
ـ والوحدة العربية بالإضافة الى كونها تجسيدا للقومية العربية، تتفق وسير التطور الموضوعي لعالمنا المعاصر، هي ضرورة أساسية لمجابهة الأخطار الجديدة، وهي الأساس الطبيعي لتطوير العلم والتكنيك العربي، واللحاق بالتقدم العالمي العاصف في هذا المضمار.
وعن مشروع الوحدة العربية تتحدث المنطلقات مقررة أن الوحدة العربية يجب أن تكون وحدة كاملة في المراحل المتقدمة للنضال العربي، وترفض اعتبار الكونفدرالية هي الشكل النهائي للوحدة، وتنادي بتطبيق اللامركزية ولكن على أسس تختلف عن التقسيمات القطرية الحالية حتى لا تصبح اللامركزية مجرد تكريس للقطرية، وفي المقابل تعتبر أن المشروع النهائي للوحدة يجب أن يمر عبر مراحل تستوعب الظروف الحالية التي يمر بها الوطن العربي، وأن المرحلية في تحقيق الوحدة العربية تصبح خطرا فقط عندما تصبح الخطوة المرحلية خطوة نهائية، وأن افضل اشكال الوحدة وأرسخها هي التي تأتي حصيلة نضال ثوري منظم، تقوده قوى ثورية موحدة، ولكن هناك على أرض الواقع قوى ثورية وحدوية مختلفة يجب العمل على صهرها، وتوحيدها على أسس ديموقراطية، لا على اسا الفرض والالحاق.
وبشأن الحرية تقول الوثيقة:
“إن الحرية كانت تعني لحزب البعث التحرر الكامل السياسي والاقتصادي من شتى اشكال السيطرة الاستعمارية، فحزب البعث كان يؤكد دوما ضرورة تلازم الحرية والعدل الاجتماعي”.
ومن جهة أخرى أدان الحزب ديكتاتورية الفرد، كما أدان ديكتاتورية البيروقراطية، ودعت المنطلقات إلى إقامة سلطة تمثل مصالح الجماهير الشعبية التي هي وحدها القادرة على وقف التسلل الاستعماري الجديد ن وتصفية مصالحه.
إن الحرية ـ كما تقول المنطلقات ـ ليست مفهوما مجردا مطلقان، وإنما هي حرية ملموسة ذات مضمون اجتماعي محدد، تمنح لطبقة وتمنع عن أخرى، وفشل البرلمانية ـ في الوطن العربي ـ ليس ناجما عن تطبيقها السيء من قبل جماعات سيئة فقط، بل أملاها الواقع الموضوعي الملموس، ومعطيات تطور النضال الاجتماعي والسياسي في الوطن العربي، والبلدان المتخلفة عموما، كما أن فشل الديكتاتورية الفردية في تعبئة الجماهير تعبئة ثورية كاملة لا يعتبر دليلا على نجاح البرلمانية.
إن الظروف الراهنة حيث ـ يجري الانتقال من المجتمع شبه “الاقطاعي ـ الرأسمالي” توجب نقل السلطة من تلك الطبقات الى الطبقات الكادحة، ولهذا يجب تخطي البرلمانية باعتبارها أحد أشكال سيطرة تلك الطبقات على الجماهير الشعبية، وتخطي البرلمانية لا يعني الانتقال إلى أشكال الحكم الديكتاتورية فردية أو بيروقراطية أو عسكرية، بل يعني الانتقال إلى ديموقراطية أوسع أفقا وأشمل، وهي الديموقراطية الشعبية.
إن مفهوم الديموقراطية الشعبية ينطوي على توفير ديموقراطية واسعة للجماهير من جهة، وعلى ضرورة عزل القوى الطبقية والسياسية المعادية للثورة الاشتراكية.
وترى المنطلقان أن مقتضيات المعركة مع الرجعية لا تقتضي قمع كل محاولاتها التخريبية وردعها فحسب، بل الاستئصال من الجذور، ولذا فإن الجماهير لابد أن تضع مسألة الصراع الطبقي ضد الطبقات الرجعية بشكل حاسم على قاعدة ” إما أن نعيش نحن، وإما أن تعيش الرجعية”.
إن الديموقراطية الشعبية لن تأتي عبر أسلوب تمثيلي للجماهير الشعبية بدون إطار سياسي ثوري، وبدون طلائع منظمة، أي بدون حزب ثوري يؤمن الطابع المركزي والديموقراطي للسلطة الديموقراطية الشعبية.
وتبنت المنطلقات مفهوم” الحزب القائد”، الحزب الذي يستوعب طليعة الجماهير ويبلور مطامحها، ويؤمن ثورية الممارسة الديموقراطية وشعبيتها.
والحزب القائد أصبح أمرا تميله الضرورة المرحلية لوجود سلطة مركزية ثابتة تقود عملية البناء الاشتراكي.
إن حزبا رئيسيا يقود جبهة من القوى السياسية تمارس السلطة الثورية لايؤدي بالضرورة الى الابتعاد عن الديموقراطية، كما أن ربط الديموقراطية على نحو مجرد ومطلق بمبدأ تعدد الأحزاب يمثل المنطلق البرجوازي في فهم الديموقراطية، والذي يؤكد كم هذه القضية، قضية وجود أحزاب وجبهة وطنية يقودها حزب قائد يجب أن تفهم دوما على اسا الظروف التاريخية الملموسة للصراع الاجتماعي والسياسي.
إن ممارسة العملية الديموقراطية الشعبية تقتضي نبذ مبدأ إبعاد الجيش عن السياسة، كما تقتضي إلغاء الأمية، وتحرير المرأة.
وتؤكد المنطلقات على أن الحرية هي تحرر من الاستعمار وهي سياسة الحياد الإيجابي، وهي الديموقراطية الشعبية حيث سلطة المجالي الشعبية والنقابات الموجهة من الحزب القائد، طليعة الجماهير الشعبية.
وكما في مسألتي الوحدة والحرية فإن المنطلقات أحدثت في الاشتراكية قفزة نوعية حيث تم التخلي عن مفهوم “الاشتراكية العربية”، واستعيض عنه بمفهوم “الطريق العربي للاشتراكية”. إذ أكدت المنطلقات أن الاشتراكية تهدف إلى إقامة نظام اجتماعي جديد يخلق ظروفا موضوعية: اقتصادية، واجتماعية، وفكرية، وسياسية جديدة، تعتق الانسان من جميع أنواع الاستغلال والتسلط والجمود…. وتوفر إلغاء كروف الاستغلال المادي، وتعميق الديموقراطية للاشتراكية وتربية المواطن تربية اشتراكيو وعلمية.
والتحويل الاشتراكي للمجتمع يعني” تحويل ملكية وسائل الإنتاج الخاصة على ملكية عامة للشعب باسره، وإلغاء اقتصاد الربح، وخلق اقتصاد يرتكز على الحاجات، وفي البلدان المتخلفة يعني إلغاء الاستغلال والقضاء على التخلف، وبذلك يكون التأميم خطوة ثورية نحو الاشتراكية.
وتحدثت المنطلقات عن رأسمالية الدولة وطالبت بالقضاء على ظواهرها السلبية بواسطة الجماهير المنظمة، كما ناقشت دور البرجوازية الصغيرة، وضرورة استيعابها ضمن عملية التحويل الاشتراكي، ورفضت شعار الأمر لمن يحرثها، وأكدت على أن المزارع الجماعية هي في النهاية الإطار الاشتراكي في الريف، ودعت إلى ثورة زراعية لا مجرد إصلاح زراعي، وأكدت على ضرورة التخطيط في البناء الاشتراكي.
بشكل عام فإن المنطلقات أتت بالجديد، وحققت قفزة نوعية في كافة أبعاد “الفكر العقائدي” للحزب، وذلك بتبني وفلسفة مجموعة من الشعارات: الديموقراطية الشعبية، الحزب القائد، رفض البرلمانية، اعتناق الاشتراكية العلمية والطريق العربي للاشتراكية، الثورة الزراعية، إلغاء الملكية الخاصة كهدف، تعميق الصراع الطبقي… الخ.
** المحطة الثالثة: وهي التي تمتد منذ استلام الفريق حافظ الأسد السلطة في سوريا عقب الحركة التصحيحية التي قادها عام 1970 وحتى اليوم، وتتمثل هذه المحطة في مجموعة من المفاهيم التي بدأت تنظم حركة الحزب، ونشاطه، في مختلف المجالات، وبشكل سريع نستطيع أن نرصد أهمها:
في الديموقراطية: حيث تم تطوير مفاهيم العمل الجماعي، لتتركز حول دور القائد التاريخي باعتباره يمثل مخزون الإرادة الشعبية، والمجسد لتطلعات الجماهير، والمعبر عن مجموع الأمة، وعن جماعية الإرادة الشعبية.
والقائد التاريخي ضرورة لوحدة هذه الإرادة في الدول المتخلفة، وهو يمثل وحدة الأمة، وفي ظل القائد الفرد، والحزب القائد، يمكن العودة إلى البرلمانية، والمجالس الشعبية، بعد أن تغير مفهومها، ولم تعد تعبر عن المفهوم الغربي ـ التقليدي.
في الوحدة: أكد المؤتمر القومي الحادي عشر على أن معارضة الحزب لوحدة سوريا الكبرى كانت من الأخطاء الكبرى، فلو تحققت الوحدة السورية لشكلت مدخلا مهما للوحدة العربية، وإن وحدة سوريا الكبرى تصبح مطلبا وحدويا وقوميا عربيا.
في الاشتراكية: تمت الدعوة الى الانفتاح الاقتصادي، ومنح القطاع الخاص الوطني والعربي والأجنبي امتيازات وضمانات مهمة، ولكن مع استمرار سيادة القطاع العام باعتباره القطاع القائد للاقتصاد الوطني.
إن هذه المفاهيم لم تأت على شكل تعديلات على نصوص المنطلقات النظرية، وإنما اعتبرت مجرد قرارات متممة وشارحة لها، رغم أن التدقيق فيها يشير بوضوح إلى أنها أحدثت تغييرات جوهرية في مفاهيم وأفكار الحزب.
إن المراحل الفكرية الثلاث التي مر بها الحزب تكشف إلى أي مدى يعاني الحزب من أزمة في نطاق القضية الفكرية، وتؤكد مصداقية الحديث عن الخواء الفكري في حزب البعث، سواء قبل استلام السلطة، أو بعدها، وسواء تحت هذه القيادة أو تلك.
وإذا كنا نترك مجال نقد مسيرة الحزب وفكره إلى الفصل الخاص بذلك، فإننا نرى ضرورة الإشارة هنا إلى أن مختلف التطورات الفكرية عجزت عجزا فاحشا عن تحقيق أي من الهدفين اللذين يسعى إليهما أي حزب:
ـ فقد عجزت عن جعل الحزب هو المسيطر على مسيرته، والمحدد لها، عن طريق مؤسساته، ومواقع القرار فيه، سواء تجسدت هذه في المؤتمرات، أم في قيادته المنتخبة، وثبت من خلال العمر المديد للحزب ـ رغم تعدد مراحله ـ أن مركز القرار الفعلي للحزب ليس في مؤسساته وهيئاته، وإنما في مراكز القوة المادية والسيطرة فيه، أي في القوات المسلحة، ولعل فلسفة الحركات التصحيحية التي حدثت في تاريخه مبنية كلها على قاعدة الضرب بيد من حديد على من يريد أن ينزع مركز القرار من هذا القطاع.
ـ وعجزت أيضا عن بناء مكانة لائقة بحزب قومي بين الجماهير العربية، وببين جماهير الأقاليم التي حكمها، وقد عكست فلسفة الحزب النظرية هذا العجز حينما فرضت بحكم قانون القوة، مفهوم الحزب القائد، والقائد التاريخي، وحينما اصطدمت باستمرار مع الحركة الشعبية، وحينما دعمت مسيرته في السلطة سلطة “الإقليمية الجديدة” في الوطن العربية، وولدت مزيدا من أحزاب ” البعث العربي الاشتراكي”، والتي سنقف عليها لاحقا.
ثانيا: حزب البعث العربي الاشتراكي ـ جناح القيادة القومية
عندما قامت القيادة القطرية لحزب البعث في سوريا بانقلابها على القيادة القومية وأنصارها في 23 شباط / فبراير 1966، انتقل العديد من أعضاء القيادة القومية وأنصارهم إلى لبنان، ثم انتقلوا إلى العراق بعد سيطرة فرع العراق على السلطة في بغداد في 17 تموز / يوليو 1968.
وأخذت هذه القيادات والعناصر تمارس نشاطها السري في سوريا عبر الحدود، ونظمت تشكيلات تابعة لها ضمن صفوف الحزب الحاكم في سوريا، إلا أنها كانت تواجه بعنف شديد، وعمليات تفكيك متلاحقة.
وفي عام 1968 انضم تشكيل حزب البعث ـ جناح القيادة القومية إلى قوى المعارضة الأخرى، وشكلت الجبهة الوطنية التي ضمت تنظيمات البعث القومي، والاتحاد الاشتراكي، والاشتراكيين العرب، والقوميين العرب، ولكن هذه الجبهة لم تستطع التأثير بالأحداث السياسية.
وعندما قامت الحركة التصحيحية عام 1970 أنضم العديد من أنصار وكوادر هذا الجناح إلى الحركة الجديدة في ظل أجواء الانفتاح المطروحة، لكن سرعان ما عادت تشكيلات القيادة القومية لتعمل بصورة منفصلة وسرية، وتركز معظم نشاطها داخل صفوف الحزب الحاكم مستفيدة من أجواء الصراع الطائفي داخل الحزب وخارجه، واعتبرت نفسها ممثلة لقطاعات مهمة من البعثيين” السنيين”، لكن هذا الاعتبار لم يكن سوى اعتبار عاطفي بالنسبة لأعضاء الحزب.
ولاقى نشاط هذا الجناح هجمة مضادة نشطة من قبل السلطات السورية مرة أخرى اعتبارا من عام 1977.
وتحولت نشاطات هذا الجناح إلى “العمل الإرهابي” فمول ونفذ العديد من العمليات “الإرهابية”، وأنشأ معسكرات تدريب في العراق لتأهيل منفذي هذه العمليات، وفي مواجهة هذه التحولان سن النظام السوري قانون الأمن الحزبي الذي وضع أحكاما قاسية على ازدواجية الولاء ضمن الحزب، وتسريب وثائق الحزب السرية، وكافة أسراره الأخرى، وفعلا نفذت أحكام إعدام بعدد كبير من عناصر هذا الجناح المدنية والعسكرية.
وكان هذا الجناح قد تعرض لانقسامات عديدة أهمها: انفصال صلاح البيطار عن الحزب، وتشكيله لتنظيم خاص، وقد اغتيل البيطار في 21/7 / 1980 في باريس، وابتعاد أمين الحافظ في مرحلة لاحقة، كما عادت بعض القيادات على سوريا لتعلن ولاءها للحركة الجديدة (من أهم هذه العناصر الوليد طالب عضو القيادة القومية).
وفي العام 1982 انضم هذا الجناح إلى” التحالف الوطني لتحرير سوريا”، وهو اسم الجبهة المعارضة التي ضمته إلى جانب الأخوان المسلمين، وجماعة أكرم الحوراني، والجماعات الإسلامية.
يعتبر هذا الجناح امتدادا للقيادة القومية لحزب البعث الذي يسيطر عليه الفرع العراقي، وهو يفتقد للجذور الشعبية ما عدا بعض التعاطف من قواعد سنية في صفوف البعث الحاكم في سوريا، ويرتكز في قوته على الدعم المادي القومي الآتي من النظام العراقي، ويعتقد أنه يستطيع تجنيد بعض العناصر في الجيش السوري لصالحه.
ثالثا: حزب البعث الديموقراطي العربي الاشتراكي
عندما قامت الحركة التصحيحية عام 1970 في سوريا، وهي الانقلاب الذي قاده حافظ الأسد ضد رفاقه أعضاء القيادة القطرية التي كانت تحكم سوريا قبل ذلك التاريخ، رفض العديد من الكوادر الحزبية النشطة الاعتراف بالأمر الواقع، والالتزام بالنظام الجديد الذي اعتبرته مؤامرة إمبريالية ضد الخط ” الوطني التقدمي “، وإن هذه الحركة جزء من المخطط الصهيوني لتمرير مرحلة التسوية الاستسلامية، وحاولت مقاومتها، إلا أنها اصطدمت بالشارع الشعبي الذي التف حول الحركة الجديدة بتأثير الوعود الإيجابية التي طرحتها للقوى السياسية الأخرى، وبتحريض من جانب الناصريين بشكل خاص الذين أملوا كثيرا من هذه الحركة.
ورغم أن عددا كبيرا من تلك الكوادر عاد ليلتحق فيما بعد بالحركة التصحيحية، إلا أن عددا آخر بقي محافظا على ولائه للقيادة القطرية السابقة، والتي أضحى معظم عناصرها داخل المعتقلات، وعلى رأسهم الثلاثي: صلاح جديد، ونور الدين الأتاسي، ويوسف زعين.
واستطاع إبراهيم ماخوس( عضو القيادة القطرية ووزير الخارجية ) الذي كان خارج البلاد حين وقوع الحركة التصحيحية، ان ينشط لإعادة تنظيم أنصار القيادة السابقة داخل سوريا وخارجها، وشكل قيادات موازية في عدد من الأقاليم العربية.
إلا أن هذا التنظيم تعرض لضربات متلاحقة في سوريا بسبب تداخله مع تركيبة الحزب الحاكم، وضياع الحدود الدقيقة بينهما، فلا الجناحين يقوم على ذات القاعدة الحزبية والطائفية، كما تعرضت فروعه في الخارج إلى الاضمحلال بسبب ضعف الإمكانات المادية في مواجهة الجناحين الآخرين المدعومين من سوريا والعراق.
ويتركز نشاط هذا الجناح بشكل رئيسي في منطقة الساحل السوري” جبل العلويين”، وله نشاطات محدودة داخل المؤسسة العسكرية، وبشكل عام التف حول هذا الجناح معظم الذين يعتبرون أنفسهم يسار حزب البعث.
وأعلن هذا الجناح عن تحولات عميقة في مؤتمره الحادي عشر المنعقد في أواخر السبعينات، غذ تبنى النظرية الماركسية اللينينية، كما قام بعملية نقد ذاتي ركز فيها على ضرورة الديموقراطية والانفتاح على الجماهير، وأجرى تغييرا على اسم الحزب بإضافة “الديموقراطية” إليه بعد كلمة البعث، ودعا إلى إقامة جبهة ديموقراطية تقدمية تقود النضال في سوريا لإسقاط النظام الحالي وإقامة نظام ديموقراطي تقدمي. وأكد على موقفه الرافض لكل مشاريع التسوية الدائرة في المنطقة، لكن الحزب تعرض لبلبلة شديدة في صفوفه عندما تفجر الصراع الطائفي خلال الأزمة بين السلطة والأخوان المسلمين حيث تردد في تحديد موقفه من النظام في بداية الصراع، وكان يحمل الاخوان المسلمين كامل المسؤولية عن هذا الوجه الطائفي من الصراع.
وتعرض الحزب لحملات تصفيه متتالية بعد أن كشفت العديد من خلاياه العسكرية. وتأثيره الحالي في صفوف الجماهير يكاد لا يذكر، وإن كان يعتقد أنه لايزال يملك بعض القوة في القطاع العسكري.