قيم وأفكار

د- عبد الناصر سكرية

تعاقبت على أهلنا وبلادنا في الأسابيع الأخيرة أعياد الفصح الشرقي والفصح الغربي ثم عيد الفطر أي عيد رمضان . وفي حين أن مثل هذه الأعياد لم تكن لتمر إلا والناس تحتفل بها وتفرح لها تتزاور وتلتقي وتتبادل أشكال المودة والتعبير الإجتماعي عما ترسخ في مجتمعاتنا من قيم إنسانية وأخلاقية ذات إمتداد تراثي عميق.. إلا أنها أتت وكأنها تحمل للناس الكثير من الكآبة أو تحضهم عليها بينما هم غارقون في أنماط سلوكية لا تتناسب مع قيم مجتمعاتنا العربية وليست نابعة منها ..كان من الواضح أن الأوضاع الإقتصادية المتردية في بلاد مثل لبنان وسورية والعراق على سببل المثال وليس الحصر ، تلعب دورا حاسما في تقرير تلك الأنماط السلوكية غير الأصيلة..فالغلاء الفاحش والتضخم المالي والتدهور الاقتصادي والبطالة والتضخم وضآلة الموارد لدى القسم الأكبر من الناس نسبة إلى متطلبات المعيشة ،  تتدخل جميعها بشكل مباشر في تحديد وتقنين كل أشكال الفرح في الأعياد وكل أنواع الإحتفال بها بما في ذلك ما يدخل في ميثاق التضامن الإجتماعي والتآلف والتوادد والتراحم بين أبناء المجتمع وهي قيم أصيلة متأصلة في بلادنا وبين أهلنا وناسنا.. والأسوأ من كل هذا ما بات معروفا وواضحا للجميع تقريبا ، وهو ذلك التسلل القسري النافذ في عقول ونفوس الكثيرين لا سيما الشباب ، لقيم الفردية والأنانية والجشع المادي والعقلية الإستهلاكية والسلبية واللامبالاة والإستهتار بالقيم الإجتماعية – الأخلاقية والجمعية ؛ والتي تجد لها مسوغات عقائدية وتبريرات سلوكية حياتية في ذلك النموذج الفردي النفعي الأناني والذاتي الذي يعبر عن قيم العولمة المادية الرأسمالية ..وتزداد تلك الخطورة مع انتشار الهواتف الذكية وإعتمادها على ما يسمى وسائل التواصل الإجتماعي وإستخدامها إياها على أوسع نطاق بحيث أصبحت مكملا أساسيا ملازما للإنسان المعاصر..إن المفاهيم والقيم السلوكية التي تعلمها هذه الوسائل وأجهزة دعايتها وتسويقها وإعلامها ؛ إنما تخدم قيم المادية النفعية الذاتية وتسوق للفكر الذي يقبع خلفها والمتمثل في الفردية المطلقة وإهدار قيمة المجتمع كجماعة متماثلة أو ذات خصائص مشتركة..إن فكر العولمة الرأسمالية يحرض على تلك الفردية النفعية الإستهلاكية كشرط واجب لتمكينه من السيطرة على البشر – الأفراد مستفيدا من تفكك روابطهم وإضمحلال دوافعهم الإجتماعية ونوازعهم الفطرية إلى التكتل في جماعات تدافع عن وجودها ومصالحها..

نظرا لهذه الأسباب جميعا فإن إحتفاليات الأعياد كظاهرة إنسانية- إجتماعية  ، تتراجع بشكل مضطرد متراكم ..وفي كل سنة تمر تفقد الأعياد بريقها وسماتها الإجتماعية لتطفو على سطحها ظواهر السلبية واللامبالاة والإنعزالية..هذان عاملان أديا مجتمعين إلى تراجع قيمة التضامن الإجتماعي في بلادنا وهي قيمة اساسية لا بد منها للجم الكثير من مظاهر التردي الإجتماعي والتشرد والبطالة والمرض والفساد والضعف..الغلاء والتردي الاقتصادي وضآلة المداخيل من جهة ، والإحتياجات المادية الإستهلاكية المتزايدة بإضطراد  والتي يفرضها نظام العولمة ؛ يضاف إليها ذلك التدهور الأخلاقي المتمثل بالإختفاء الأناني وراء فكر السلبية واللامبالاة والفردية النفعية الطاغية وما يحمله كل هذا من جشع مادي وتهافت وراء المال بأية وسيلة ممكنة..

يعتقد الكثيرون أن هناك نوع من التحالف أو ربما التكامل بين تلك العوامل ومن يقف وراءها ويشجعها أو يتسبب بها طائعا أو مكرها أو مستعرضا ، وبين قوى النفوذ المحلي والأجنبي التي تشجع بل تحرض عليها دون انقطاع أو كلل أو تتسبب بها لجهة إغراق الناس في الهم الحياتي المعيشي…فليست مصادفة إجتماعها معا في ظروف متشابهة متقاربة شكلا وأداء ومضمونا..وكأنها تتناغم لتؤدي دورا متكاملا من حيث إنهاك المجتمع والإنسان معا بحيث لا يستطيع رفض او مواجهة ذلك الغزو الفكري الثقافي الذي يحمله وينشره ويبشر به الإعلام بأنواعه المتعددة مؤديا إلى ضعف مناعته وترابطه ، وبالتالي سقوطه في براثن المستفيدين والمسوقين ؛ ضحية أنماطهم السلوكية ومفاهيمهم الفكرية والسلوكية النفعية المادية..

ولعل هذا ما يشكل تهديدا صريحا ومباشرا للبنيان الإجتماعي وللتوازن الانساني للفرد ذاته..ليس هذا بالتحدي البسيط أو الهين لكنه تحد وجودي على بنية مجتمعاتنا أولا وعلى كل المجتمعات البشرية التي تعيش ظروفا مشابهة..وحينما يغيب مشروع عربي للاستنهاض وحماية البنيان الاجتماعي الاخلاقي تصبح مجتمعاتنا في وضع حرج يهدد توازنها وثباتها وتماسكها وقدرتها على تجاوز أية أزمات معيشية أو تحديات حياتية من أي نوع ..

إن تراجع حالة الإحتفالية بالأعياد الى درجة متقدمة ، ليست إلا عرضا لمرض أوسع وأكثر إنتشارا يتحدى منظومة القيم الأخلاقية وما تفرضه من تضامن اجتماعي وتكامل إنساني وما يحمله من خلل في الأمان النفسي للانسان والمجتمع… وهنا خطر وجودي على ضمير المجتمع ذي الصلة المباشرة الوثيقة بالهوية والإرث الحضاري والتوجهات المستقبلية للأمة كلها..

إن إنهيار القيم الأخلاقية أو استبدالها بنمط سلوكي يقوم على الفردية والنفعية والسلبية لن يخدم نهضة أمتنا أو بلادنا ، لا بل إنه يشكل عائقا وجوديا أمام نهضتها وتقدمها وسببا مباشرا للتفكك والفساد ..فإلى متى ستبقى مثل هذه الظواهر الإنحلالية سواء كانت تحمل مبرراتها الذاتية معها بالغلاء والضيق المعيشي ؛ أو كانت لمبررات عقائدية تنظيرية عملانية بغلبة الفكر الرأسمالي النفعي المادي الإستهلاكي ؟! على نخب الثقافة والفكر والإعلام والدين تقع مسؤولية كبيرة وعميقة لوقف التدهور أو المزيد من التدهور في ظل تراخي أصحاب السلطان أو عجزهم عن رؤية الحق والحقيقة أو ضعفهم أمام الغزو أوعدم قدرتهم على مواجهته..

تحديات باتت وجودية وتطال الهوية مما يستدعي وعيا أعمق وإلتزاما أقوى وأشد دفاعا عن الهوية الأخلاقية – الإنسانية ولو بعيدا عن أية توجهات سياسية قد تثير حفيظة البعض.

المصدر: كل العرب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يضع هذا المقال اليد على الجرح النازف في المجتمعات العربية ، المتسبب من الفساد ومغادرة المرتكزات الثقافية الأخلاقية والتكافل الإجتماعي.
    يبقىٰ علينا تحديد أي الأسباب الأكثر ترجيحاً التي أوصلت مجتمعاتنا لما هي عليه :
    عوامل التخلف الذاتي التي تضعف المناعة بمقاومة أوبئة العصر الذي يقوده الفساد والإستحواز على الموارد بالإستغلال ، الفساد المغطى بالليبرالية الجديدة ، أم هو نتيجة زخم العدوان على مشروعات التحرر للبناء وللتقدم ..

    ذهب فكري ايضا إلى أن قلت لنفسي : يا ترى لو كان الدكتور عبدالناصر سكرية يعيش بعيدا عن لبنان وعن المآسي المعيشية فيه هل كان سيكتب هذا المقال ؟

    سلمت يداك وذهنك أخي عبدالناصر .

زر الذهاب إلى الأعلى