الحلقة الخامسة: قراءة في المسار العام للتيار الناصري في سوريا /3
فكر الاتحاد الاشتراكي العربي
إلى جانب الظرف العام، وطبيعة وعمل وتركيب القيادة، فإن الوضع الفكري في الاتحاد الاشتراكي ساهم مساهمة غير خافية فيما آلت إليه أوضاع التنظيم، وجاء الأثر السلبي لوضعه الفكري كنتيجة طبيعية لبنية وضعه القيادي، ذلك أن الاتحاد الاشتراكي الملتزم بالناصرية التزم ـ وكان طبيعيا أن يلتزم ـ برؤية أمينه العام لها.
ولأن رؤية جمال الأتاسي للناصرية رؤية دقيقة وحساسة إلى درجة كبيرة، فإن العناصر الفاعلة في التنظيم بدت غير متوازنة في تجسيد هذه الرؤية، وضعيفة في التمثل الخلاق لها، فكانت إما متخلفة عنها قاصرة عن استيعابها، وإما متجاوزة لها ومفتقدة لتوازنها وذلك حين راحت تضخم بعض مكونات هذه النظرة على حساب بعضها الآخر، وإذ بقيت وجهتا النظر تدور في فلك رأي الأمين العام ونظرته، فإنه أصبح هو باستمرار عنصر الضبط والأمان لكلا التوجهين، وتجسدت حوله وحدة وتماسك التنظيم.
إن الوقوف على فكر الاتحاد الاشتراكي يستدعي النظر في نوعين من الوثائق:
ـ ما صدر باسم الاتحاد الاشتراكي العربي من نشر، سواء تمثل هذا بتقارير مؤتمراته، أم بنشره الداخلي ومواده التثقيفية.
ـ ما صدر عن الدكتور جمال الأتاسي من أبحاث وكتابات نشرت باسمه، وإذ لا يحمل هذا النوع صفة “الوثيقة التنظيمية” فإنه لا يقل أهمية عنها، والوقوف عندها ضرورة لمعرفة خلفية وآفاق فكر الاتحاد، ولضبط هذا أيضا وفهمه الفهم الصحيح.
ـ في النوع الأول سوف نقف على وثيقتين تنظيميتين، تقرير المؤتمر الرابع للاتحاد، وتقرير مؤتمر السابع، واختيارنا لهذين التقريرين ينبع من أهميتهما المميزة في حياة التنظيم.
فالأول جاء بعد أن أبعد الاتحاد القوى التي دعاها بالمتخلفة والرجعية، تلك التي كانت تتصارع بالعقلية والنهج مع الأمين العام، وقد أدى حسم علاقتها بالتنظيم لأن يصبح الاتحاد الاشتراكي ـ على الأقل فكريا ـ تعبيرا صادقا عن رؤية أمينه العام، ولقد جاء هذا التقرير عقب نكسة حزيران فحوى في طياته رؤية تنظيمية وفكرية وسياسية وتاريخية، لها وصف الشمول والحسم، وتاريخ هذا التقرير أواخر عام 1967.
والثاني هو نتاج آخر مؤتمر للتنظيم، الذي عقد في العام 1985، ويحتوي بالإضافة إلى تأكيد المواقف الفكرية والسياسية خبرة الأعوام التي مرت على الاتحاد منذ قراره بالانسحاب من الجبهة الوطنية التقدمية، والانقسامات التي أصابت جسمه، والتحالفات والجبهات التي حاول إقامتها، والضغط العنيف الذي تعرض له من قبل السلطة الحاكمة ـ شأنه في ذلك شأن الوطن كله ـ والذي وصل أوجه في مرحلة صدام السلطة الدموي مع الاخوان المسلمين.
في النوع الثاني من الوثائق يأتي بحث الأمين العام الذي نشر بكتيب تحت عنوان “جمال عبد الناصر والتجربة الثورية: إطلاله على فكره الاستراتيجي والتاريخي ” ليعطي صورة واضحة ومتكاملة حول رؤية الرجل للناصرية.
أولا: تقارير المؤتمرات
منذ صدر فإن تقرير المؤتمر الرابع يحتل مكانة بارزة في الحياة الفكرية للتنظيم، ولا ترجع هذه المكانة للموقع الذي صدرت عنه، وإنما لأن قيادة الاتحاد الاشتراكي أرادت بهذا التقرير أن تبسط كل افكارها ومفاهيمها ورؤاها الأساسية، وقد فعلت، وتأكدت هذه المكانة للتقرير ونحن ننظر إلى المؤتمرات اللاحقة حيث استندت كل تقاريرها إلى التقرير الرابع فيما قرره وحسمه، وعلى الأخص في الجانب الفكري.
والحق أن الظرف والضرورة هي ما دفع قيادة الاتحاد لأن تعطي هذا التقرير كل جهدها، وعصارة تفكيرها، فقد جاء هذا المؤتمر ليحسم وجود ” العقلية اليمينية والمحافظة” التي كانت تتوزع أطراف الاتحاد ومؤسساته، والتي سبب وجودها وموقفها في التنظيم انقسام عام 1967، وحتى يكون الحسم مرة واحدة، فإنه من الضروري أن يتضمن التقرير كافة القضايا الفكرية والسياسية والحزبية والمنهجية، وقد قام التقرير بهذه المهمة.
وإذا كان الوقوف على التقرير كله ضروريا لمعرفة الجوانب والزوايا المختلفة ل “عقل الاتحاد”، فإننا سنكتفي من كل ذلك بما يختص بالجانب الفكري ـ العقدي أينما وجدناه.
1 ـ يبدأ التقرير بتحديد طبيعة الاتحاد الاشتراكي وبنيته فيقول:” إن الاتحاد الاشتراكي العربي في الإقليم السوري، حزب سياسي بكل ما في كلمة الحزب السياسي من معنى، إنه حزب ثوري حسب المفهوم العلمي للحزب، أو أنه مصمم على أن يكون ذلك الحزب ذا الأهداف الواضحة، والاستراتيجية البينة، والذي يجسد بحق إرادة الجماهير الكادحة، ويمثل طلائعها الواعية المنظمة التي تقود نضالها”.
هذا التأكيد يجيء تلبية لعوامل الصراع داخل جسم الاتحاد الاشتراكي ردحا طويلا من الزمن، وتعبيرا عن انتقال وتحول تنظيمي من مفهوم تحالف عريض إلى مفهوم حزب طليعي، وهو المفهوم الكفيل بقطع الخيوط والصلات مع “العقليات اليمنية” التي جاء المؤتمر ليحسم وجودها في التنظيم، فكأنه بهذا المفهوم يعلن ولادة تنظيم جديد. ولقد جاء تقرير المؤتمر السابع بعد ثمانية عشر عاما ليؤكد هذا المعنى الذي جسده المؤتمر الرابع، فضَمًن تقريره السابع هذا التقييم تماما، حيث يقول:” في الأيام الأولى من عام 1968 عقد الاتحاد الاشتراكي مؤتمره الرابع الذي كان بحق مؤتمر تأسيس جديد ، وتوحيد ودمج، وكان بداية نهج في السياسة والتفكير والعمل ظل مستمرا يتقدم منذ ذلك الحين حتى اليوم … لقد حددنا منذ المؤتمر الرابع منطلقات أساسية في التوجه الفكري والسياسي أصبحت ثوابت نعتمدها دائما في الاختبارات السياسية التي نختارها، والمواقف التي نتخذها، والعلاقات والتحالفات التي نقيمها، كما أصبح لنا نظام أساسي نعتمده في تنظيمنا الداخلي، وممارستنا الحزبية…”.
ومعنى الحزب الثوري ـ حسب المفهوم العلمي لكلمة حزب ـ يتطلب تحديد الطبيعة الطبقية لهذا الحزب، وموقعه ومكانته من الطبقات التي يمثلها. ويتولى التقرير تحديد هذه الطبيعة والمكانة حين يصف الاتحاد الاشتراكي بأنه حزب طليعي يقود تحالف قوى الشعب العامل، ويفرض هذا التحديد أن يضم تنظيم طلائع العمال والفلاحين بخاصة، والطلبة والمثقفين الثوريين الذين ربطوا مصيرهم بمصير الطبقات الكادحة كما يؤكد التقرير، وبمثل هذه الطبيعة ينتفي وجود أصحاب “أفكار اليمين والوسط والمستغلين والمتذبذبين في أفكارهم وفي وولاءاتهم” داخل الحزب.
لكن التقرير يدرك أن العناصر الرئيسية في الجسم الرئيسي فيه، وفي قيادات المنظمات التقدمية والثورية في الوطن العربي إنما ينتمون فعلا إلى قوة البرجوازية الصغيرة، وأمراض البرجوازية الصغيرة معروفة ” فكرها المتذبذب، ومواقفها المتذبذبة، والاندفاع إلى أقصى اليسار، أو الارتداد إلى العصبيات البدائية من طائفية وإقليمية، والارتداد إلى الروابط الشخصية، والفئوية الضيقة التي تحمل كل معاني الانتهازية والوصول السريع”، ولأجل هذه الطبيعة يفرق بين أولئك الذين التزموا بأهداف الجماهير الكادحة، وأصبحوا المعبرين عن إيديولوجية الطبقات الكادحة، وبين أولئك اللاهثين وراء فكرهم المتذبذب، وطبائعهم الانتهازية.
2 ـ وفي تحديد الرؤية الفكرية للتنظيم، يؤكد التقرير على الالتزام بالاشتراكية العلمية، وعلى ضرورة أن تعكس بنية الحزب الحقيقة الاجتماعية والطبقية هذا الالتزام:” نحن نقول بالاشتراكية العلمية، فلا بد أن تكون البنية الاجتماعية والطبقية لمنظمتنا على هذا الأساس…”، ويقارب التقرير هنا المفهوم الماركسي للاشتراكية العلمية مقاربة شديدة، لذلك ، ومن أجل توضيح التمايز بين فكر الاتحاد، والماركسية أو منهجها، يتعرض التقرير لوضع الحركات التقدمية العربية، فيلحظ أن ” الكثير من الحركات التقدمية في الوطن العربي ـ أخذت ـ بنوع من المنهج الماركسي في التفكير، إنهم في تفكيرهم ، وفي معالجتهم لواقعنا ومشاكلنا، ينطلقون أولا من الإطار العالمي، أو ما يسميه بعضهم ـ أرضية الصراع العالمي ـ لكي لا يروا في قضايانا وصراعاتنا إلا انعكاسا للصراع العالمي، أما نحن فإننا ننطلق من منطلق قومي، ونلتقي بالعالم من خلال هذا الإطار”.
ويبدو أن الاختلاف عن الماركسيين في المنطلق ـ حيث هم ينطلقون أمميا، والاتحاد قوميا ـ هو الاختلاف الأساسي والأهم إلى درجة أن التقرير لا يذكر أي خلاف آخر مع الفكر الماركسي، وهو في هذا إما أنه يعتبر الخلافات الأخرى ثانوية، أو متضمنة بالضرورة في نقطة الخلاف هذه، فهي نتيجة لها أو معنى من معانيها، ويبدو الاحتمال الثاني هو الأوفر حظا، فقد حدد التقرير عقيدة الاتحاد ب “القومية العربية”، وجعل هذه العقيدة مقابلة ومواجهة للعقيدة الماركسية ـ اللينينية. وهي تنظم النزعة التاريخية للأمة العربية نحو التوحد، وتتمثل روح العصر، وإرادة الجماهير.
هذه المقابلة والمواجهة بين العقيديتين ليست قائمة على أرضية الصراع والتضاد، وإنما على أرضية التعادل والتميز، لذلك يؤكد التقرير”نحن لسنا ضد الماركسية، ولا نرفض الفكر الماركسي، أو نجافيه، بل نأخذ منه ونعتبره من المصادر الأساسية للفكر الثوري الإنساني، لكننا نختلف عنه في أن منطلقنا قومي النزعة والإطار، ومنطلق الفكر الماركسي منطلق أممي، ومن هنا كان الخلاف الأساسي بيننا وبين الحركات الأساسية التي تأخذ بالماركسية عقيدة لها.. “، ويتأكد هذا الموقف الإيجابي من الماركسية حينما يذهب التقرير لتوضيح مرتكزات النظرة الاجتماعية للتنظيم فيؤكد أننا “نأخذ بالاشتراكية العلمية، ونعطي للعوامل الاقتصادية، والصراع الطبقي، دورهما في المجتمع، ونؤمن بأن تحرر الانسان العربي لا يكون تحررا كليا ما لم يزل من المجتمع العربي الاستغلال الاقتصادي، وما لم تصبح ملكية وسائل الإنتاج ملكية جماعية، وما لم تصعد الطبقات الكادحة لتكون هي السائدة، وهي الموجهة للدولة، ونومن بحتمية الحل الاشتراكي كشيء نابع من الحركة التاريخية لتقدم المجتمعات وتحررها، ومن تفتح وعي الطبقات الكادحة ، وتقدم نضالها”.
3 ـ ويعيد التقرير صياغة النظرة المتوازنة للقضية الوحدوية، فإذا كان أعداء الوحدة هم الانفصاليون، فإن أعداء الاشتراكية هم أيضا الانفصاليون، ذلك أن “الموقف الانفصالي هو بالأساس موقف طبقي، موقف الطبقات الرجعية، موقف الاقطاع وراس المال، موقف الذين ضربت الوحدة مصالحهم عندما بدأت تنهج طريق التحول الاشتراكي، والموقف الانفصالي هو أيضا موقف لا وطني، موقف المتواطئ مع أعداء الأمة العربية، أعداء تحررها ووحدتها، موقف المرتبط بعمالته أو مصالحه مع الاستعمار”.
مثل هذا التحديد يجعل النظرة إلى قضية الوحدة، وقضية الاشتراكية، وإلى القضية الوطنية عموما، تنطلق من منطلق واحد، وتتسع لتشمل أهداف النضال العربي، فلم يعد الموقف من حكم الانفصال الرجعي معيارا كافيا للموقف الوحدوي إذا لم يكن ملتزما بوضوح وحسم بالقضية الاشتراكية، ولم تعد مخاصمة الحكم البعثي بذات دلالة وحدوية إلا إذا انطلقت هذه المخاصمة من مواقع تقدمية اشتراكية، ويلخص التقرير هذه النظرة بشعار عام:” لا وحدة بدون اشتراكية، ولا وحدة بدون حرية، وبدون إرادة حرة للجماهير، وبدون أن تلقى هذه الإرادة الحرة تعبيرها في تنظيم سياسي موحد”.
4 ـ وإذ يلتزم التقرير بشعار الوحدة الوطنية، لا يرى السبيل إلى تحقيقه إلا بإسقاط الحكم القائم، وحكم الحزب الواحد، حتى لوكان هذا الحزب الواحد هو الاتحاد الاشتراكي نفسه، وإنما السبيل إلى ذلك يتحقق من خلال العمل الجاد لبناء جبهة وطنية تواجه ظروف العدوان على الأمة العربية، وتقوم بمستلزمات التحرير، وتتجسد من خلالها كامل الإرادة الوطنية.
إن مواجهة السلطة، والصراع معها، لا يجوز أن ترتكز على أرضية إزاحة القوى المسيطرة عليها، وإنما إنهاء حكم الحزب الواحد، وجعل السلطة لهذا الحزب ولغيره من الأحزاب والقوى الوطنية التقدمية، وليس الغرض من تحمل بقية القوى مسؤولية الحكم جنبا الى جنب مع البعث الحاكم هو الموقع ذاته، وإنما متطلبات الظرف الوطني، وأهمية الاجماع الوطني لمواجهة المرحلة ولإخراج القوى الوطنية التقديمية في سوريا من مأزق التناحر والصراع الذي فتت قواها طوال الفترة السابقة، وسمح بالإضافة إلى كل العوامل الأخرى أن يكون دور سوريا في مواجهة عدوان حزيران دورا هشا، يثير الكثير من التساؤلات والشكوك “إن الإطار الذي نريد أن نعمل فيه، وأن نناضل، هو إطار الجبهة الوطنية، لهذا فقد طرحنا شعار العمل الجبهوي، ونحن نسير على هذا الطريق، إن هذا العمل سيصطدم ولا شك بالسلطة، ولكنه لا يرفع شعار إسقاط الحكم، أو إسقاط البعث، وإنما شعار تغيير القيادة السياسية لتكون قيادة الجبهة الوطنية، لا قيادة حزب من الأحزاب….. وإذا كان العمل الجبهوي الواسع الإطار ضرورة ملحة تقتضيها ظروف الخطر التي نعيشها، فإنه سيظل الإطار العام للانفتاح على القوى التقدمية الأخرى، التي نختلف عنها في قليل أو كثير، وسيكون إطار التفاعل الإيجابي، والنضال المشترك مجالا لتفاعل الأفكار، ليلتقي في النهاية أصحاب الاتجاه الواحد في العمل الثوري الواحد “.
5 ـ من الواضح تماما أن تقرير المؤتمر الرابع يسلط الضوء لا على احتياجات حزب الاتحاد في ولادته الجديدة، وإنما أيضا على كافة النقاط التي كانت مجال صراع في جسم الاتحاد مع ” العقليات اليمنية”، في الفكر، والاستراتيجية، والبنية التنظيمية. وإذا كانت مراجعة هذا التقرير تكشف عن نواقص كثيرة كان يجب ان يغطيها وهو يدفع بولادة حزب طليعي ثوري، فإن ما جاء عليه كان في إطار التحدي الساخن الذي عاشه التنظيم في ذلك الحين، ولم يتجاوز هذا الإطار.
وعلى نفس المنوال يأتي تقرير المؤتمر السابع، استجابة للتحدي الأكبر، تحدي السلطة الديكتاتورية القائمة والإرهاب الشامل، والسلطة المتألهة، لذلك يبدأ التقرير بقوله:” بسم الله، ولا مطلق وأزلي إلا إياه، وما عدا ذلك فنسبي، وتاريخي، نحن منه حركة وعي إنساني متقدم، ونحن فيه حركة جدل، باسم العروبة ، والعروبة تاريخ وثقافة وإليها ننتسب، ووطن قومي نناضل في سبيل تلاحم مقوماته، ووحدة كيانه، وشعب نستلهم إرادته الوطنية عزيزة حرة، ونستمد من حاجاته الحيوية مطالبنا، ومن تطلعاته أهدافنا، ومما ترسخ في وعيه ووجدانه من معايير أخلاقية وقيم، منظوراتنا الإنسانية، فنعلم أن البشر سواسية، وأن قيمة الانسان بعمله وعطائه، ونعمل حسب المبدأ الديموقراطي الأول : السيادة كل السيادة للشعب، ونعلم أنه معين ثورة لا تنضب، وأنه يبقى أمامنا المعلم والقائد”.
هذه الفاتحة التي يبدأ بها التقرير تنظم كافة جوانبه، ويتأكد معناها في أجزاء التقرير المتعددة. إن تأكيد الإيمان بالله الواحد الأحد أيمانا مفردا، إنما تعني في الجانب الاخر رفض الوحدانية والاستبداد، والخضوع لأي زعيم، أو حزب، أو طائفة ، أو طبقة. ويعيد التقرير هذه المعاني ويسندها إلى صلب الناصرية حينما يقول: “والناصرية تؤمن بالله، ولا تقر بالوحدانية، والأبدية، والخلود إلا له، فلا وحدانية لقائد، أو زعيم، ولا لإمام أو فرد، ولا وحدانية لحزب، ولا سيادة لطائفة، أو أسرة أو عشيرة أو فئة، بل ولا لطبقة من الطبقات الاجتماعية، فالسيادة للشعب كله، بكل قواه العاملة والمنتجة، والقيادة له، ولمن يختاره بالديموقراطية تعبيرا عنه، ونضيف إلى هذا الأخذ بمبدأ التعددية، والعمل الجماعي، والقيادة الجماعية في كل مواقع العمل والإدارة والتنظيم.”.
6 ـ يؤكد التقرير السابع على كافة المنطلقات التي أتت في التقرير الرابع، ويعطي الجانب التاريخي مكانا بارزا فيه استخلاصا لنتائج التجربة وتبريرا للمرحلة الطويلة ـ أكثر من عشر سنوات ـ التي عاشها التنظيم دون مؤتمرات، وإجابة على التساؤلات العديدة التي طرحتها قواعد التنظيم حول خطه السياسي، ومنطقه في مواجهة الأحداث.
إن الجانب الأيديولوجي الذي يؤكده التقرير هو الالتزام بالناصرية، ويعرض جهده الذي كان في بلورة مفاهيم الناصرية من منظور أيديولوجي واضح ومحدد، فيقول: “على الصعيد النظري، يمكن القول إننا تقدمنا خطوة لا بأس بها على طريق توضيح منظورنا الأيديولوجي كناصريين، من حيث انتماؤنا إلى تيار الثورة القومية العربية، وثورة تقدم على طريق الاشتراكية، ولقد وجدنا في الناصرية وممارسة عبد الناصر، الالتزام المبدئي، والموقف العملي في مواجهة ظروف حياتنا القومية، والمسائل التي نطرحها، كما تحمل منهجا استراتيجيا متكاملا، وقابلية للتطور والتجديد، ونستطيع القول إننا قدمنا اسهاما لا باس به ، إلى جانب عدد من المفكرين القوميين التقدميين في إغناء هذا الفكر والمنظور الناصريين، وبعد قيام حركة الردة في مصر، وفي أرجاء عديدة من الوطن العربي، ووقفنا في وجه التزوير والتضليل، وأخذنا بمنهج نقد جدلي في مواجهة الواقع ومتغيراته”.
أما الجوانب السياسية والتنظيمية ـ في المؤتمر السابع ـ فإنها حافظت ـ كما المنوال العقيدي ـ على خط بناء الوحدة الوطنية، والوقوف في وجه التسلط الفردي، وحكم الحزب، والفرد، والطائفة، والعشيرة الواحدة.
ويحتوي التقرير على الكثير من جوانب الاغتناء بتجربة الحزب في هذا الإطار، وإذ يعمل الحزب في اتجاه الحوار الديموقراطي، والدعوة الجبهوية، فإنه يبدي حماسا وقطعا في وحدانية تمثيله للناصريين في سوريا، ويقف في وجه كل الدعوات التي تقول بضرورة بذل أي جهد في إطار القوى الناصرية في سوريا، ويعلن بحزم إيمانه أنه: “الحزب الناصري الحقيقي والمتقدم في هذا القطر، ونحن نقول: من أراد قوة للعمل الناصري ولأهدافه، فليأت إلينا، وليدعم جهدنا، ولا نقول أكثر من ذلك”.
من الواضح أن التقرير الرابع، والسابع، إذ قاما بتوضيح مَعقِد الالتزام الناصري للتنظيم فكانت الناصرية، فإنهما لم يستطيعا أن يرسما مفهوما دقيقا لهذه “الناصرية”، مفهوما قادرا على أن يبني حوله وحدة فكرية ضرورية للحزب الطليعي، كذلك لم يستطيعا أن يبينا الحدود الفاصلة بين هذه “الناصرية “، وبين الأيديولوجيات والتيارات الفكرية الأخرى، بحيث توضح وتكشف مجالات التطور والتحرك الفكري لأعضائه وحدود ذلك، لقد بقيت كلها مفتوحة، ومشرعة أمام الجميع: جميع الأعضاء، ويبدو أنها لم تكن محددة بدقة إلا في ذهن الأمين العام نفسه، لذلك جاءت كتاباته أكثر وضوحا ودقة في الجانب الايديولوجي من تقارير المؤتمرات، ومن هذه الزاوية أيضا تأتي أهمية الوقوف على هذه الكتابات، وقد اخترنا أن نقف على أجلى هذه الكتابات وضوحا وهو بحثه المنشور بعنوان :” جمال عبد الناصر والتجربة الثورية”.
ثانيا: فكر الأمين العام
في بحثه المشار إليه أعطى الدكتور جمال الأتاسي فهما مميزا للناصرية، ونظر إليها نظرة المنتمي، لذلك فإن المطلع على هذا البحث يشعر بالصلة الحميمة بين الكاتب والناصرية، وهي صلة فيها إلى جانب الالتزام نظرة إبداعية وواعية إلى حد كبير، رغم أنه لحساسية الوضع الذي يعيشه وتعيشه الجماهير العربية في كل أقاليمها لم يستطع أن يعالج قضية الديموقراطية في الناصرية بما تستأهلها، وجاء على فكرة الحزب عند عبد الناصر بنفس الطريقة، إلا أن البحث كله يشير كما قلنا الى نظرة ملتزمة ومبدعة وواعية، وتزداد أهمية هذه النظرة حينما نلحظ طبيعة الشخص وطبيعة المرحلة:
ـ ففي طبيعة الشخص فإنه لا يحتل موقع الأمين العام للاتحاد الاشتراكي في سوريا فحسب، وإنما أيضا هو نقطة الارتكاز في التنظيم، فبوجوده يحافظ التنظيم على مشروعية محددة، ويحافظ على تماسكه، وليس خطأ القول إنه يجسد أيضا تاريخ هذا التنظيم.
ـ وفي طبيعة المرحلة حيث يأتي البحث في مرحلة ندر فيها وجود قيادات تنتمي إلى جيل جمال عبد المناصر وإلى ثورته، إلا وأصاب نظرتها الوهن، سواء بداعي التأثر بما حدث من تراجع للخط القومي الثوري، وما برز من تيارات وقوى، أو بداعي شيوع نظريات التجاوز والاستعلاء على ما مثلته الناصرية.
هذا البحث ـ الكتيب الذي جاء بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط الثورة من السلطة في مصر، وبعد كل ما أصاب الحياة العربية من ترد وتقهقر، يحتفظ بنفس الحيوية، والحرارة، والاندفاع التي كان المؤلف يعيشها زمن جمال عبد الناصر، وإبان المد الجماهيري العريض للاتحاد الاشتراكي في سوريا.
وأهم ما في الكتيب إضافة إلى وضوح روحية الالتزام، دقة تحديده لزاوية النظر الى الناصرية، وهي زاوية نقدية تفصح عن رؤيته المميزة للناصرية، وتكشف عن مواطن الخلل عند أولئك الذي تصدوا لها دون أن يدركوا كنهها تمام الادراك، ودون أن يقاربوها المقاربة الصحيحة.
يقول الدكتور الأتاسي: “إن فكر جمال عبد الناصر يستعصي على التصنيفات الأيديولوجية التقليدية، وهو لا يدرك إلا في إطار جدليته الخاصة، ومسار تشكله من البداية إلى النهاية. إنه فكر الثورة وهي تتشكل متنقلة من مرحلة إلى مرحلة، ومتدرجة من إنجاز إلى انجاز، وهو فكر الثورة وهي تتجاوز نفسها باستمرار إلى الأمام، وإذا كان هناك من تصنيف ينطبق عليها فهو ما يسميه بعض المفكرين الماركسيين” الثورة المستمرة”، فهي الثورة الوطنية الديموقراطية المصرية المتوجهة باتجاه الاشتراكية عمقا ومضمونا….. وفكرها إذا ما بدأ من الفكر الوطني الليبرالي يضاف إليه تأثره على نحو ما ببيئته الثقافية الخاصة، وما تأصل فيها من قيم دينية وأخلاقية، فلقد تقدم منفتحا على الفكر القومي متمثلا له، دافعا بآماله نحو التقدم والمستقبل، لا السلفية والماضي، وتقدم منفتحا على الفكر التحرري الإنساني والاشتراكي بوجه خاص، وتقدم فكر عبد الناصر كان مرتبطا بتقدم تجربته وممارسته، ولكنه محكوم بواقع عبد الناصر السياسي، ومسؤولياته منذ بداية تجربته، ولذا فإنه في كل مرحلة، وفي كل نقلة إلى الأمام، لم يكن يعطي أبعاده القصوى نظرته الشمولية، وكأن تلك المسؤوليات كانت قيدا عليه، وتطالبه بالوقوف عند حد معين من الالتزام الأيديولوجي”.
من هذه الزاوية التي حددها لنفسه في رؤية الناصرية، وهي زاوية مفتوحة الاتجاه، تدعو إلى التطور المستمر، لكن على نفس منهج عبد الناصر، كان له موقف نقد صريح لأولئك الذين تعاملوا مع الناصرية فراحوا ينتقدونها من خلال موقف معين، أو فكرة معينة، أو خلال خط من خطوط مسارها، أو أولئك الذين التزموا بها فأرادوا بالتزامهم أن يوقفوها عند حد معين، عند فكرة أو إجراء بذاته، حفاظا على “مصالحهم، ووضعهم السياسي والطبقي المحافظ”.
إنه في نقده يمسك بالقضية الأساسية في الناصرية التي أثارت جدلا شديدا بين دارسيها، قضية التجربة والتعلم منها، ومكانة هذه المسألة بالذات في الفكر الثوري، ويقدم لها فهما خاصا يكشف من خلاله جوانب الخلل في نظرة الآخرين وفهمهم لهذه المسألة:
“إن مبدأ التعلم من التجربة الذي كان يؤكده عبد الناصر، واستخلاص النتائج من الخطـأ والصواب في سبيل إنضاج حركته الثورية، والتقدم بفكره وتخطيطه للمستقبل، …. إن هذا المبدأ، وقد وقف الكثيرون عنده بالتعليق على مسار فكر عبد الناصر السياسي ليصفوه بالبراغماتية أو التجريبية، لا يجوز الوقوف به عند هذا الخط من التجربة في الوصف، وليس من تجربة إلا وراءها حوافر وأفكار، وممارسة عبد الناصر لا نستطيع أن نفهمها ، ونفهم عمقها، وأبعادها إلا عندما نفهم الخلفية الأخلاقية والفكرية التي كان ينطلق منها عبد الناصر، فالتعلم من تجربة الخطأ الصواب لم تأت في سياق عفوي، أو منطلق تكتيكي صرف، بل كانت تحكمه معايير ومقاييس أساسية انطلق منها عبد الناصر، وهي التي كانت تحدد قيمة الخطأ وقيمة الصواب في مسار الممارسة، وأي ناقد منصف إذا ما حاول الإطلالة على مسار تجربة عبد الناصر في مراحلها كلها، فإنه لا يجد فيها إلا ما رسمته على أرض الواقع من جدلية الممارسة، الممارسة الثورية التي تملك حس التاريخ، ومراحل تطوره، والتي تنطلق من معايير أساسية، وتتوجه إلى أهداف تندرج في سياقها التاريخي، وكأنها الحتمية التي يرسمها منطق التطور وحرارة الحياة … إن الذين نقدوا عبد الناصر وعارضوه، أو الذين انتصروا له وأخذوا به، كثيرا ما أصدروا أحكامهم على منحاه الأيديولوجي العام بالوقوف عند نقطة معينة أو مرحلة محددة من مراحل نضجه، أو هم أخذوا به في جانب من جوانبه دون الإحاطة به في كليته، وفي مسار نضجه، أو هم وضعوا فيه منظورهم الخاص، وقناعاتهم المسبقة”.
من خلال هذه الزاوية، وهذه الرؤية للناصرية، فإن الناصريين عنده يقفون تجاهها عند أحد سبيلين:
ـ فهم إما إتباعيون لا يقدمون لقضية الناصرية غير القصور والجمود، يلغون بعملهم هذا ميزتها الأساسية بكونها حركة نضج وتقدم، وفكر يقوم على التأليف والتركيب والابتكار والإبداع، ويقصرون عن الثغرات التي كان وجود عبد الناصر وحضوره القوي كفيل بسدها.
ـ أو هم إبداعيون يرون التأليف الجدلي الذي ميز فكر جمال عبد الناصر فيتابعون على طريقه، تحقيقا للأهداف التي كشف عنها عبد الناصر، تحقيقا للتلاقي الوطني، وتنفيذا للمشروع الثوري، بعد أن قدم لنا عبد الناصر القاسم المشترك بين كل قوى التحرر الوطني والتقدم والاشتراكية والوحدة، وكشف أمامنا القاعدة الاجتماعية والشعبية لتحقيق ذلك.
بين هذه النظرة التي يبسطها الدكتور الأتاسي في كتيبه، وتلك التي جسدتها مؤتمرات التنظيم علاقة وثيقة، لا تنبع من كونهما صادرتين عن الرجل ذاته وحسب، وإنما في كونهما ينتميان إلى بناء فكري واحد قائم على قاعدتين:
ـ ضرورة وأهمية تحقيق كتلة” اجتماعية ـ سياسية”، موحدة وقادرة على تحقيق أهداف النضال العربي تلك التي عبر عنها، وكشفها جمال عبد الناصر في فكره ووثائق الثورة التي قادها.
ـ ضرورة “التأليف الجدلي”* للتيارات الفكرية الرئيسية التي تتشكل حولها الحياة العربية، وهو ما أشار إلى أن عبد الناصر كان يجسده ويعبر عنه.
وبين هذا الموقف الفكري، وخط التنظيم السياسي، وتجاربه علاقة وثيقة:
ـ دعوة إلى الوحدة الوطنية، والعمل الجبهوي، ودخول تجارب هذا العمل من منطلق ضرورة التلاحم الوطني.
ـ دعوة إلى الديموقراطية للجميع بدون قيد، ورؤيتها كسبيل وحيد للتفاعل بين مجموع قوى الأمة.
ـ طرح أشكال للتوحد بين كل هذه التيارات، كلما بانت في الأفق فرصة ما، باعتبار أن اقتناص ” فرصة تاريخية” يمثل قوة دفع لها، ولحمايتها، ولجعلها تعطي ثمارها كاملة في حركة المجتمع.
عند مستوى معين من التجريد تبدو هذه الخطوط السياسية قيمة، تستأهل أن يدور حولها حوار جدي ومكثف، وأن تُغني فكر الاتحاد الاشتراكي، وخطه السياسي، ومكانته بين الجماهير، وبين القوى السياسية على ساحة الإقليم. لكن بمجرد أن ننظر إلى هذه الخطوط على ضوء سياسة الاتحاد وتجاربه، وعلى ضوء تحليل بنيته، يتضح لنا أن الإفادة منها تكاد تكون معدومة، وعلى عكس المفترض فقد كان لها تأثيرا سلبيا عليه، ويبدو أن طريقة التفاعل والتجسيد لهذه الخطوط هي التي أدت إلى تلك الآثار:
** فقيادة الاتحاد لم تبادر إلى الدعوة للحوار حول هذه الخطوط على مستوى التنظيم قبل أن تحولها إلى سياسات ملزمة، وإنما عملت على فرضها وإزالة العقبات التي تحول دون إنفاذها، وكان الثمن غاليا جدا، يتبدى بعضُه فيما وصلت إليه فاعلية التنظيم من هامشية، ولعل بعض أسباب ذلك يعود الى افتقاد التفاعل الخلاق ضمن مستويات التنظيم، ذلك التفاعل القادر وحده على تجميع كافة معطيات هذه الخطوط السياسية، وعلى تدقيق النظرة إليها، واكتشاف مستلزماتها وأدواتها.
** وممارسة الاتحاد في تجربة الجبهة الأولى والثانية، وفي المحاورات والعلاقات الممهدة للجبهة الثالثة لم تعط هذه الخطوط أي فاعلية دافعة، بل على العكس من ذلك
تبدو هذه الخطوط السياسية ـ الفكرية في تجريدها أكثر جاذبية منها ونحن ننظر إليها في نشاط التنظيم.
لقد اضعفت ممارسات الاتحاد هذه الأفكار إلى درجة كبيرة، وحولتها ـ بفضل تعطيل آليات الحوار داخله ـ إلى نقاط ضعف في جسمه، وإلى أداة تفتيت لطاقاته، ولقواه المناضلة.
إن السياسة ـ التي هي دائما أدنى من الفكر ـ ذات تأثير فعال على الفكرة ذاتها، وعلى فعاليتها وقوتها، وعلى صحتها أيضا، ما دامت صحة أي فكرة قضية نسبية، وقد قضت سياسة الاتحاد على مكامن القوة في أفكاره.
** وفكر الاتحاد في التوصيف الأخير هو فكر الدعوة إلى تتجاوز الناصرية من داخلها، أي استمرار حالة الاندفاع والتطور بها ومعها، وهذه الفكرة لا خطأ فيها، بل هي التجسيد للموقف الصحيح، إنما الخطأ في زمان طرحها، ومكان طرحها، ويبدو أن هذين المحورين: الزمان، والمكان، لم تكن مكانتهما واضحة في هذا التنظيم، ولا عند مواقع التوجيه والقيادة فيه.
فالنظرة إلى الاتباع والابداع، والدعوة إلى البدء في الثورة الثقافية ـ وهي دعوة الرجل في بحثه، جعل عنوانها “الديموقراطية أولا “، هي من أصول النظرة المنهجية الثورية للوضع العربي الراهن، وللتيارات الفكرية والسياسية فيه، لكن صلة ذلك بتقدم الوضع العربي أو تراجعه، وصلة ذلك بالجهاز الذي يحمل هذه النظرة، وبالكوادر التي يقع على عاتقها تنفيذ وترجمه هذه المهمة، أو القيام بدور القيادة لتنفيذها أو التحريض عليها، وصلته أخيرا بوضعية التيارات الأخرى المؤثرة سلبا أو إيجابا في الحياة السياسية، والتي تشكل مكونا موضوعيا في هذه النظرة، هذه الصلة تكاد تكون مقطوعة أو منعدمة.
لقد كان عبد الناصر باستمرار في حالة تجاوز لنفسه، ولطروحاته، ولكن ـ تماما كما يؤكد الدكتور الأتاسي ـ كان يجري ذلك من خلال ممارسة متقدمة في الواقع الحيوي المعاش، السياسة لديه أداة لإظهار فاعلية الأفكار، ولتطويرها، ولتجاوزها أيضا عمقا وشمولا، والأفكار لديه محددات لضبط الخطوات السياسية، ولجعلها في اتجاه الهدف المحدد تماما.
بعد جمال عبد الناصر صارت دعوة التجاوز هذه تأتي ـ بصوت مرتفع ـ من خارج التيار الناصري، وموجهة فقط إلى هذا التيار، تطالبه بتجاوز طروحاته، في حين تبقى هي متمسكة بمواقعها وأفكارها.
في فترة كهذه فإن مهمة طلائع هذا التيار أن تتمسك تمسكا شديدا بمفاهيمه، والعمل الدؤوب والجماعي لاكتشاف أو لإعادة اكتشاف عناصر القوة والضعف فيه، من أجل التمكين للأولى، وتجاوز الثانية.
في فترة كهذه المطلوب قوة الاجتماع حول الفكرة، حول المنهج، حول الاتجاه، من أجل استعادة الزخم الجماهيري.
إن حركة هادئة على مستوى الفكر والسياسة، تتيح الارتباط بالجماهير والتحرك ضمنها، خير وأجدى من حركة سريعة وصائبة، لكنها تفتقد القدرة على الاحتفاظ بذلك الارتباط، وتفتقد القدرة على تقوية نفسها بنتائج عملها السياسي.
إن كل دعوة إلى التجاوز دون النظر الى الظرف ” المكان، والزمان، والأداة”، ودون امتلاك قوة الاجماع، وضرورات الجماعية، تصب في النهاية في سبيلين اثنين:
** فهي تعطي دفعا للقوى المضادة، وبالتالي تزيد من مفردات مفاهيمها، وتوسع من مساحة القوى المهتمة بتلك المفردات، أي أنها تحقق انتقالا بالقوى والأفكار إلى مساحة التحالف المعادي لها تاريخيا.
** وهي توقع قوى الثورة في حالة من التشتت والضياع والتصادم حول طبيعة هذه الدعوة، وعناصرها، وحدودها، ولا مفر من هذا السبيل، ما دامت هذه القوى في الخانة السلبية من حركة المجتمع، وفي مواقع المطاردة والملاحقة والقهر من القوى المعادية.
وواضح أن السبيلين وجهان لعملة واحدة، لا يمكن أن ينتج عنهما غير ضعف لقوى الثورة، وتخلخل لأدواتها، وسياساتها، ورؤيتها ـ ما دامت تنطلق بعيدا عن شروطها الذاتية والموضوعية ـ وهذه كانت حالة الاتحاد الاشتراكي، وهو الدرس الأول، البسيط والواضح الذي يمكن استخلاصه من تجربته إذا نظرنا إليها من زاوية الممارسة السياسية والفكر السياسي، وأيضا نرى الدرس نفسه، والنتيجة ذاتها، إذا رصدنا الحالة الفكرية السائدة في هذا التنظيم. ففي كل ما هو معروف عن فكر الأمين العام ، ليس هناك ما يشير إلى تبنيه المنهج الماركسي، وقد يلجأ البعض إلى تحميل جزء من أفكاره على هذا المحمل، وذلك حين يؤكد الرجل على المنهج العلمي، وعلى الرؤية الجدلية للتاريخ، وعلى الاشتراكية العلمية، وعلى الصراع الطبقي ودوره، لكن يبقى هذا مجرد تحميل ناتج إما عن رؤية لا تتسع لكل أفكار الرجل، وإما عن موقف مسبق. وهو واضح في نظرته إلى الناصرية إلى درجة دعتنا أن نسميها بالنظرة “الدقيقة والحساسة”، ولم نطلق هذا الوصف استخداما متعسفا للألفاظ، وإنما تيقنا بأنه توصيف صحيح لحالة قائمة.
إن إدراك هذه النظرة” الدقيقة والحساسة”، يستدعي معرفة دواعي إصراره الدائم على اختيار الالفاظ بدقة حين يقوم بتوصيف الناصرية، وحين يحدد قواعد التفكير فيها، وعملية “التأليف الجدلي” التي يعتبرها ميزة من أهم ميزات الناصرية، ليس من اليسير إدراك كنهها، والنسج على منوالها، ونستطيع أن نفترض أن عدم وعي قيادات، وكوادر الاتحاد لهذه الدقة والحساسية في فهم الأمين العام للناصرية هي التي تفسر حالة القلق الفكري الذي يعيشه التنظيم، والذي تبدى في بروز اتجاهين عامين فيه:
** اتجاه لا يأخذ بالمنهج الماركسي بوضوح وحسم، ولكنه لا يدرك الحدود والفواصل بين الناصرية والماركسية، وتقتصر رؤيته على بعض منها، وبشكل مبتور ومنعزل، فالناصرية قومية والماركسية أممية، أو الناصرية مع الحل السلمي للصراع الطبقي والماركسية مع الحل الدموي وتأجيج هذا الصراع، دون الخوض في جذور هذا الاختلاف، جذوره المنهجية. ويجتمع بقرب هذا الاتجاه أفراد وتكتلات لم ترق بعد إلى مستوى الاتجاه العام تأخذ المنحى الماركسي، وترى في تلك المفاهيم والمصطلحات سندا لها ولتحركها.
ولقد رحب هذا الاتجاه بالحوارات المستمرة التي قادها التنظيم مع الماركسيين القوميين، سواء أولئك الذين تخلفوا من حركة القوميين العرب، وحزب البعث، أو أولئك الذين شكلوا الاتجاه القومي في الحزب الشيوعي السوري عقب أزمته وانقسامه في بداية السبعينات، وكان وراء هذا الترحيب إحساس بإمكانية أن يشكلوا معا الجسم الرئيسي لاتجاه التوحيد الوطني لاحقا، وأيضا كان وراء هذا الترحيب رغبة في التعويض عما أصاب الاتحاد من ضعف وتساقط لأفراد ومجموعات كانت تدعم الطرح الماركسي داخل الاتحاد.
** واتجاه يخشى هذا الوضع، ويتحفظ عليه، ويرى الفوارق أوسع من أن يسدها تطور فكرة، أو تغير مفهوم عند هذا الاتجاه أو ذاك. ويتمسك هذا الاتجاه بالألفاظ والتعبيرات التي يطلقها الأمين العام على الناصرية، ويشدد عليها دون أن يكون في استطاعته الدخول في أعماقها، وفهم جدليتها الخاصة، لذلك هو يقف في موقع أدنى في فهمه للناصرية.
إن هذا الوضع الفكري في التنظيم إذ يعوق حركته، ويضعف حيويته، فإنه يجعل القول بالوحدة الفكرية، وبالصلابة العقيدية قولا فيه شك كبير.
باختصار نستطيع أن نجمل حساسية الوضع الداخلي لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سوريا بثلاث نقاط تمثل في تفاعلها الإشكالية المطروحة أمام هذا التنظيم:
1 ـ افتقاد الروح الديموقراطية الخلاقة في بنيانه مما فتح الباب للعديد من الانقسامات.
2 ـ فشل التجارب السياسية التي بادر إليها أو شارك فيها، أي فشل عقله التكتيكي.
3 ـ حرج الوضع الفكري فيه، وضعف تجسيد كوادر التنظيم لفكر قيادته.
ونستطيع أن نعتبر السنوات التي تلت العام 1974 هي السنوات التي تكشفت فيها كل خمائر “العوامل السلبية” في التنظيم، وساهمت مع الظرف الاجتماعي والسياسي الذي عاشه الإقليم السوري في الدفع به إلى موقع الهامشية في الحياة السياسية وفي التأثير الجماهيري.