الطريق إلى حوارة‏

جيفري سانت كلير *    ترجمة: علاء الدين أبو زينة‏

‏”لو استطاعوا لقتلونا جميعا. لكنهم يريدون اقتلاعنا. أقول إن جوابنا هو ضربهم وإعادة ترسيخ جذورنا. لقد اتخذنا مؤخرا سلسلة من القرارات التي ليست بسيطة في مواجهة الواقع الدولي: تعميق جذورنا، وتعميق مستوطناتنا وتوسيع وطننا. هذه هي المعركة التي نجد أنفسنا فيها”.‏

‏- بنيامين نتنياهو، بعد أربعة أيام من اقتحام مستوطنين إسرائيليين وإحراقهم قرية حوارة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة.‏

* * *

جاؤوا عند الغسق مرتدين الآقنعة. كانوا يحملون بنادق آلية ومسدسات وسكاكين وهراوات. كانوا يلوحون بالسلاسل ويُنزلون من سياراتهم علب البنزين. انحدروا من تلال السامريين عازمين على الانتقام؛ 400 من المستوطنين الإسرائيليين الهائجين المعربدين. جاءوا بنيّة جعل أهالي قرية حوارة يدفعون ثمن موت مستوطنَين إسرائيليين قُتلا في ذلك الصباح على الطريق المؤدية إلى مستوطنة هار براخا؛ مستوطنة أقيمت على أراض تم الاستيلاء عليها من الفلسطينيين في العام 1983. جاءوا وهم يهتفون: “الموت للعرب”. جاءوا لكي يحرقوا حوارة.

كان الجيش الإسرائيلي يعرف أنهم قادمون. كان الشاباك يعرف أنهم قادمون. وكان بنيامين نتنياهو يعلم أنهم قادمون. ولم يتحرك أي من هؤلاء لوقف الغارة التي كان من المقرر أن تُشن، والفوضى والدمار اللذين كان أعضاء حكومة نتنياهو الائتلافية قد دعوا إلى إيقاعهما بالفلسطينيين. قبل ساعات من المداهمة، طالب المستوطن دافيدي بن تسيون بـ”محو حوارة اليوم” وعدم إظهار “الرحمة” لأهاليها.

لم يقتصر الأمر على أن الجيش الإسرائيلي لم يفعل أي شيء لمنع المذبحة فحسب، بل انضم ما لا يقل عن 12 جنديًا إلى حشد الغوغاء بينما يتجمعون في ضوء المساء، وظلوا معهم في عمق الليلة العنيفة، مع إطلاق النار والضرب والحرق والنهب. وبدلاً من حمايتهم من المهاجمين، يقول القرويون أن جنود الجيش الإسرائيلي “أطلقوا الغاز المسيل للدموع على السكان الذين كانوا يحاولون الدفاع عن أنفسهم”. وقد عولج قرابة 100 فلسطيني من استنشاق الأدخنة السامة التي غطت مجتمعهم في تلك الليلة المروعة.

أُضرمت النيران في عشرات المنازل والمتاجر الفلسطينية. وتم تحطيم وإشعال النيران في مئات الشاحنات والسيارات والعربات والدراجات. وتم تخريب ونهب الحقول وقطع أشجار الزيتون وقتل الماشية.

أصيب قرابة 400 فلسطيني. وبأعجوبة، لقي شخص واحد مصرعه -سامح الأقطش البالغ من العمر 37 عاما، الذي كان قد عاد لتوه إلى منزله من مساعدة ضحايا الزلزال في تركيا، فقط ليُقتل بالرصاص على يد مستوطن هائج. وبعد نهب حوارة، هاجم حشد المستوطنين قرى أخرى مجاورة، زعترة وبورين، وأطلقوا النار على فلسطينيين آخرين وضربوا آخر بقضيب حديدي.

لم تصدر أي اعتذارات. قال نتنياهو على مضض فقط أن المستوطنين لا ينبغي أن ينتقموا بأيديهم، مشيرًا إلى أن الجيش الإسرائيلي سوف يتولى ذلك نيابة عنهم. وكان بتسلئيل سموتريتش، أحد كبار وزرائه ومستشاريه، أكثر وضوحا حين قال: “أعتقد أن قرية حوارة يجب أن تُمحى. أعتقد أن دولة إسرائيل يجب أن تفعل ذلك”.

ولم يُظهر المستوطنون المغيرون أنفسهم أي ندم، وإنما الأسف فقط على أن المزيد من الفلسطينيين لم يموتوا ولم يتم تحويل المزيد من المباني إلى رماد. ووصف أحدهم الغارة بأنها “تجربة مؤثرة للغاية”. وعندما قيل لدانييلا فايس، الناشطة الاستيطانية منذ فترة طويلة بمقتل الأقطش، قالت ببرود: “إذا قُتل، فقد قُتل”.

تم القبض على ثمانية فقط من المشاغبين. وتم الإفراج عنهم جميعاً. هذا هو منطق الفصل العنصري. المستوطنون يفلتون من العقاب، بينما الفلسطينيون -حتى الأطفال منهم- يُعتقلون من دون أي تهمة ويُحتجزون لفترات طويلة بلا محاكمة.

هناك الآن 144 مستوطنة إسرائيلية و100 “بؤرة استيطانية” إسرائيلية أخرى في الضفة الغربية، كلها اعتبرتها محكمة العدل الدولية غير قانونية. ويسكن في هذه المستوطنات غير القانونية الآن أكثر من نصف مليون يهودي إسرائيلي على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، و250 ألفًا آخرين في القدس الشرقية. في الماضي، قامت إسرائيل دوريًا بإظهار بعض الإيماءات الأدائية لكبح التوسع في المستوطنات، ولكن تم التخلي عن هذه الادعاءات في ظل حكومة اليمين الجديدة التي يريد قادتها، مثل وزير الأمن إيتامار بن غفير، “إغراق المنطقة” بتوسيع سريع للمستوطنات لإبعاد الفلسطينيين عن الحدود الإسرائيلية. وهذا كله جزء من خطة حكومة نتنياهو الجديدة للتعامل مع “الأزمة الديمغرافية” في إسرائيل: أولاً، تجريد الفلسطينيين من حقوقهم داخل إسرائيل نفسها، ثم تجريدهم من أراضيهم في الضفة الغربية.

كما تشجع هذه الاستراتيجية الخبيثة المستوطنين المسلحين -وعصاباتهم شبه العسكرية- على البدء في القيام بالكثير من الأعمال القذرة التي كان يقوم بها الجيش الإسرائيلي ذات مرة، مثل هدم المنازل، حتى لا يتم تصوير قوات الأمن الإسرائيلية الرسمية وهي تقوم أمام الكاميرات بدهس الناس بالجرافات كما فعلت مع راشيل كوري. الآن سوف تُلمح هذه القوات فقط على هوامش حشود المستوطنين الهائجين وهي ترش الغاز المسيل للدموع بينما يفر القرويون الفلسطينيون من منازلهم المحترقة.

يشرع بعض الإسرائيليين في رؤية حكومتهم في المرآة لأول مرة، حيث يتلاشى أمام أعينهم الوهم بأنها ديمقراطية -أو أنها كانت كذلك في أي وقت من الأوقات -حتى أن أحد المعلقين السياسيين الإسرائيليين المحافظين، ناحوم برنياع، ندد بينما يكتب في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بالغارة على حوارة، واصفًا إياها بأنها “‏‏ليلة الكريستال في حوارة‏‏”، في إشارة إلى مذبحة العام 1938 ضد اليهود في ألمانيا التي نظمها الحزب النازي بناء على طلب من حكومة هتلر.‏

و‏يقول بعض الليبراليين الإسرائيليين إنهم لم يروا شيئًا مثل هذا من قبل. لكن مثل هذه التصريحات تكشف عن نوع من مناعة القطيع عندما يتعلق الأمر بتاريخهم الخاص.‏

بدأ الطريق إلى حوارة في العام 1982 في مخيمي ‏‏صبرا وشاتيلا‏ للاجئين الفلسطينيين في لبنان‏، حيث أشرفت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي بقيادة أرييل شارون على ذبح ما يصل إلى 3.500 فلسطيني في المخيمين، وهو القتل الذي ارتكبته إلى حد كبير القوات شبه العسكرية اللبنانية انتقامًا لاغتيال اللبناني بشير الجميل قبل يومين. وهكذا، ما لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية -أو لا تريد- أن تفعله بنفسها، تجد آخرين ليفعلوه من أجلها.‏

ولكن، قبل بضعة أيام فقط من العربدة المهتاجة في حوارة، كان الجيش الإسرائيلي نفسه يسفك الدماء على بعد أميال قليلة في مدينة نابلس بالضفة الغربية. تحت غطاء القنابل اليدوية والغاز المسيل للدموع ونيران الأسلحة الآلية، داهم جيش الدفاع الإسرائيلي ما يشتبه في أنه منزل آمن، بحثًا عن ثلاثة مشتبه في انتمائهم إلى جماعة “عرين الأسود” الفلسطينية المسلحة. وسرعان ما تحولت الغارة إلى مذبحة للمدنيين. وقتل ما لا يقل عن 11 فلسطينيًا، من بينهم رجل يبلغ من العمر 72 عامًا كان يحمل أكياس خبز من السوق، ورجلاً يبلغ من العمر 66 عامًا توفي جراء استنشاق الغاز المسيل للدموع، ورجلاً يبلغ من العمر 62 عاماً وصبيًا يبلغ من العمر 16 عامًا، كلاهما أصيب بالرصاص. وأصيب أكثر من 500 مدني فلسطيني بجروح، 80 منهم بأعيرة نارية. وجاءت مذبحة نابلس، وهي الغارة الأكثر دموية في الضفة الغربية منذ العام 2005، بعد أسابيع قليلة فقط من غارة مماثلة في جنين أسفرت عن مقتل 10 فلسطينيين. وفي هذا العام، قتلت قوات الدفاع الإسرائيلية ‏‏بالفعل 65 فلسطينيًا‏‏، من بينهم 13 طفلاً.‏

لا تتردد حكومة الولايات المتحدة أبدًا في إخبار الدول الأخرى بما يجب عليها فعله -باستثناء تلك التي تقوم أميركا بتسليحها ودعمها بسخاء، مثل إسرائيل وأشباهها في المنطقة. مع هذه الدول، تصبح الولايات المتحدة، فجأة، عاجزة. كانت وزارة الخارجية الأميركية لتضع أي دولة أخرى تنخرط في نوع الفظائع التي شهدناها في إسرائيل في الأسابيع الأخيرة تحت العقوبات على الفور. لكن الولايات المتحدة لا تستطيع حتى إيقاف صنبور المساعدات، ناهيك عن فرض أي عقوبات قد تغير سلوك الحكومة الإسرائيلية المتطرف. والاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه هو أن الولايات المتحدة تدعم العربدة الإسرائيلية في الضفة الغربية والمصادرة المستمرة للأراضي الفلسطينية لتصبح في أيدي المستوطنين الإسرائيليين الإرهابيين المرعبين.‏

‏*جيفري سانت كلير‏‏ Jeffrey St. Clair: هو رئيس تحرير مجلة “كاونتربنش”. أحدث كتاب له هو “عربدة لصوص: النيوليبرالية ومكامن سخطها”‏ An Orgy of Thieves: Neoliberalism and Its Discontents، (بالاشتراك مع ألكسندر كوبيرن). ‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Road to Huwara

المصدر: الغد الأردنية/(كاونتربنش)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى