جنرالات السودان وخيار ملكة تدمر

جمال محمد إبراهيم

(1)

لو جاز لي أن أستعين من الطير عينيه لأبصر، من سماءٍ بعيدة، أحوال إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال العقدين الأخيرين، وفيه بلدي السـودان، فإني لن أرى التفاصيل قدر رؤيتي الصورة في عمومياتها. عليه، فإن حــدّثتُ عن تحوّلاتٍ شهدها ذلـك الإقليم، وسمّاها بعض أكثر المحلّلين والإعلاميين تفاؤلاً، أنها مواســم ربيع سياسي في ذلك الإقليم، فسيتناول حديثي التعميم لا التفصيل. من أحسنوا الظن، بعد نظرهم للمشهد، حسبوا أنّ أنظمة تقليدية، ملوكية وعسكرية وشبه عسكرية، سادتْ طوال سنوات الحرب الباردة في ذلك الإقليم، شكّلت مواسـم شتاءات طويلة حان موعد تبدّلها، إذ تحوّلات التاريخ ودورانه يماثلان حراك المواسم والمناخات، من ربيع إلى صيف، ومن خريفٍ إلى شتاء. ما حدث في زمان العقد الثاني من الألفية الثالثة، وفي المكان الموسوم بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من تداعي أنظمةٍ وسقوط زعامات، هو من أمور التاريخ الحتمية التي تتساجل فيها التحوّلات بين سقوطٍ وأفول … أوليستْ الحروب سجالاً تربحها مرّة وتخسرها مرّة؟ لكن، وللحقيقة، فإنّ ذلك الأفول والسقوط يقعان أكثر ما يقـعان من فعـلٍ نُحــدثه بأيدينــا لا بأيدي عمرو، كمثل قــول ملــكة تدمر.

(2)

بعد سنوات الحرب العالمية الثانية، وضحتْ معالم نظام جديد تحت مظلة تحفظ الأمن والسّلم الدوليين بمسمّى هيئة الأمم المتحدة، فانقسم المجتمع الدولي بعدها إلى فســطاطين: فسطاط السطوة والغطرسة، وهم قلة، وفسطاط الفقر والاستضعاف، وهم الأكثرية الغالبة. نادتْ المبادئ التي قام عليها المجتمع الدولي بالمساواة، ليس بضمان السلم والأمن الدوليين فحسب، بل بتوفير الحياة الكريمة للإنسان وحقــوقـه في الحصول على العــدالة والحـــرية السياسية والاقتصادية والثقافية، وفق ما نصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بإجماع المجتمع الدولي في 1948. ولكن برغم تلك المواثيق والتعاهدات، لم يسلم المستضعفون في الأرض من مزيد استضعافٍ من طامعين في الموارد البكر الغنية في بلدان العالم الثالث، ما أحدث اختلالاتٍ في كل مناحي ومجالات التعاون الدولي بين سكان المعمورة. أبقى أهل الغطرسة الحبال السرّية، حـمّالة المطامع بينهم والبلدان المستضعفة، إذ ما أن نالت أغلب البلدان المستضعـفة اسـتقلالها، حتى دفعت مطامع أهل الغطرسة إلى مزيد استضعافٍ بلبوسٍ جـديد. تمـدَّد نفـوذ الأقوياء، فناوروا لإبقاء أنظمة سياسية هشّة، يسهل قيادها والسيطرة على مواردها وثرواتها. ستريك نظرة عين الطير كيف نهشت صقور الأقوياء عديدا من بلدان آسيا وأفريقيا، عبر ترغيب في أحيان، وترهيبٍ في أحايين أخرى. هكـذا تركوهم للانقــلابات العســكرية والاســتبداد الشمولي، ولا يبقى للشعوب المستضعفة إلا أن تتولّى سداد أثمان ذلك الاضطراب السياسي الممنهج.

(3)

هكذا بقيت معظم بلدان إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحت ميسم نُخبٍ ارتضتْ أن تبقي الحبل السرّي بينها والأقوياء أهل السطوة والغطرسة. مواسم الشتاءات الطويلة هي التي أبقـت شـعوب بلـدان ذلك الإقليم تحت قياداتٍ شـمولية أو أشبه بالشمولية: ممالـك طوائف وجمهوريات بلا جمهور وأنظمة عسكرية يقودها جنرالاتٌ لم يربحوا حربا واحدة، وشعوبهم مغيّبة، غير أن الحماية هي الجزرة التي يوفـرها الطامعون الكبار في موارد الصـغار وثرواتهم، كبار لا يأبهون كثيرا بأحوال شعوب تلك البلدان الغنية اقتصاديا، والمستضعفة سياسيا. ولكن حين دارت مواسم المناخات دورتها تبدّل حال الشتاء الطويل وهبت نسائم مواسم الربيع في الإقليم.

(4)

طُويتْ صفحة حسني مبارك في مصر، ولكن الدولة فيها لم تبرأ من شمولياتها الراسخة. وإن جئنا إلى الصفحة الدامية في جماهيرية القـذافي فهيَ إلى الساعة تتردّى في فـوضى انقساماتها، ولم تهبّ نسائم موسم ربيعها على أهليها. تنظر إلى تونس لتشهد كيف يجتهد قيس سعيّد لاستعادة براغماتية شـتاء البورقيبية التي أفناها بن علي، فيما كهول التونسيين الذين هرموا ما زالوا ينتظرون نسمة ربيـعٍٍ طال انتظـاره. أما في اليـمـن السّعيد، فقد تداعــى أهله إلى جحيم صراعاتٍ عقائديةٍ وطائفية، وحشر الأبعدين والأقربين أنوفهم في شؤونها. لا يختلف الحال في سورية التي لم يسمع حاكمها شيئاً عن أمر اسمه الربيع العربي.

أما لو جئنا إلى السودان، فقد هبّت نسائم ربيعه قبل أكثر من ثلاثة أعوام، ولكن فاجأ شباب السودان في انتفاضتهم الربيعية المشهودة في ديسمبر/ كانون الأول عام 2018، ولم يكن شـــتاءً هـذه المرّة بل موسم صيفٍ حارقٍ تولّى إرسال عصفه عليهم، فاجأهم جنرالاتٌ زعموا أنهم منحازون لانتفاضة الشـباب. لكنهم كانوا، في حقيقة أمرهم، جنرالات كذبة، إذ بانتْ لهم أنيابٌ غيـر خافية، نمتْ حـدّتها إبّان سنوات عمر البشير، مثلمـا بانـت نواياهم لاسـتعادة الفتنة الإسلاموية التي رعى بذرتها ذلك الطاغية السوداني الذي شـابه ظلمُه أهل بلده ما فعل بينوشيه بأهل تشيلي.

نوّهتُ في بداية مقالي أنّ التفاصيل لن تشغلني، فأنا أنظر مِن علٍ بعين طائرٍ محلق عن بعدٍ في أجواء إقليم طالت مواسم شتاءات بلدانه، إذ ما أن تطلّ مواسم ربيع بلـدانه، فيما رأيت، حتى تنقضّ عليها الكواسر الناهشة، ساعية إلى خنقها والقضاء عليها في مهـدها، غيـر أني، وقد أمعنت النظر ملياً، رأيتُ بعض تلك الكواسر، وهي من أهل البلاد، تستقوي، عن وعي أو من دونه، بأيادٍ، بعضها شـقيقة وأخرى أجنبية، لا تخفى مطامعها.

(5)

وفيما أمعن بصري، لم تفُـتْ عليَّ ملاحظة أمرين: أولهما كيف أن بعض أنظمة ممعنة في بنيتها الشمولية قد بادرت باعـتماد سلوكيات وخطط مستحدثة، وباستفادة قصوى من دروس الربيع من حولها، فجنحت إلى استنباط لقاحاتٍ تحمي هياكلها السياسية من توقع مواسـم ربيع تضطرب معه أحوالها. عكست، أخيرا، تجارب بلدانٍ، مثل الكويت وقطر والإمارات والسعودية، محاولات جادّة لاستحداث سلوكيات في بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تجنّبها ما في رحم المستقبل من توقعات. ما حدث في إيران إزاء انتفاضة النـساء على الحجاب، مثل بداية لربيع حقيقي، لكن لملالي إيران قدرا من المناورة والمرونة الداخلية، فأرجأوا قـدوم موسم ربيعهم إلى أجلٍ غير مسمّى. الملاحظة الثانية أنَّ من يعـوّل على الأيـدي الخارجية والأجنبية لن يفيـده ذلـك التعويل إلا لنفسٍ قصير. لـك أن تتذكّر كيف انسحبتْ القوات الأميركية في أغسطس/ آب من عام 2021 من أفغانستان، ثم رأينا بقايا النظام الأفغاني المنهار، في خزيهم، يعرّضون حيــواتهم للموت مهروليـن وراء الطائرات الأميركية المغادرة مطار كابل. يا لبؤس المشــهد، ها هـم يفضّلون تلك المغامرة المميـتة على البقاء تحــت ميــسم “طالـبان”. … الأميركي الأجنبي ما هـمّه الأمر.

(6)

يبقى خيار من استظلَّ بعباءة الأجنبي أن يُغيٍّب نفـسه عن المشـهد، بمثلما غيّـب النظام الأفغاني السّـابق نفسه لصـالح “طالبـان”. لقد نجحتْ أنظمة عديدة في إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الحيلولة دون وقــوع مواسم ربيع سياسي تزعزع إمساك قادتها بالســلطة في بلدانهم، وذلك قد تسنّى عبر استيعاب دروسٍ ممّا وقـع من تحوّلات في بعض بلدانٍ جئنا على ذكـرها أعلاه، غير أنَّ مثل تلك النجاحات، إن اقتصرتْ على القشرة الخارجية لا المتون، فإنّ أحوالها سـتركن بفاعلـيـها إلى بيـاتٍ شتوي لن يطول، وسرعان ما قد يطلّ بعـده موسم ربيــع سياسي يبدّل تلك الأحوال جمــلة وتفصيلا.

أما الحالة السودانية التي استعصتْ على الجنرالات المُمسكين بالسلطة بإصرار مَرَضي، مثلما استعصتْ على شباب الثورة قدرتهم على إسـقاط الجنــرالات، فإنّ تعـويل الجنرالات على الأجنبي قريباً أو غريباً، إن فهموا الدرس، لهو خيارٌ خاسِـر، ولا أرى، بعين الطير من سمائي، من خيـارٍ آخـر سِـوى خِيار الزّباء ملكـةِ تدمُر: بيدي لا بيد عمرو.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى