يحتاج العالم العربي الى مقاربة مختلفة للهزات الاقتصادية المتتالية، على أن تشمل مشاركة أوسع في القرار السياسي، وتحضير المواطنين لاقتصاد لا ريع فيه.
تعرضت المنطقة العربية في العقد الماضي لثلاث هزات كبيرة أثرت بشكل مباشر على الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي بشقيه المُصدّر للنفط والمُستورد له. جاءت الهزة الأولى على شكل ثورات أو احتجاجات شعبية في أماكن متعددة من العالم العربي، لتُسقط نظرية قدرة القبضة الأمنية وحدها على إدامة السلم الأهلي دون أن ترافقها محاكاة الاحتياجات المعيشية للناس وردم هوة الثقة بين المواطن ودولته. بعد الهزة الأولى، وقعت هزة ثانية عام ٢٠١٤، تمثلت في انخفاض اسعار النفط ما دون المائة دولار للبرميل، ووصولها الى معدلات تتراوح بين خمسين وستين دولاراً قبل جائحة الكورونا، ما أثر بشكل مباشر على النظام الريعي في الدول العربية. فكانت النتيجة المباشرة في ظل هذا الانهيار تخلخل مفهوم دولة الرفاه التي تُقدم خدمات أساسية للمواطن كالصحة والتعليم و دعم المواد الأساسية، اضافة الى استيعاب القطاع العام لأعداد كبيرة من القوى العاملة و قيادته العملية الانتاجية. وقد أدى الاعتماد المبالغ فيه للدول المصدرة للنفط على هذه المادة إلى اضعاف الإنتاجية، وإلى معدلات نمو أقل بكثير مما هو مطلوب لاستيعاب الاعداد الكبيرة التي تحاول دخول سوق العمل سنوياً في منطقة فتية. كما أدت المساعدات الخليجية للدول المستوردة للنفط في منطقتنا الى أنظمة اقتصادية تكثر فيها الواسطة والمحسوبية وتقل فيها الانتاجية والكفاءة.
في ظل هذه الخلفية السياسية والاقتصادية الصعبة أصلاً، جاءت أزمة الكورونا لتضيف أعباء اضافية لن يكون من السهل معالجتها وتجاوز آثارها، وخصوصاً في حال أصرت دول المنطقة على إبقاء أساليب الادارة الماضية للتعامل مع الازمة الحالية. لقد فقدت دول المنطقة أداتين في غاية الاهمية لإدامة السلم الاهلي في الماضي، وهما عصا القبضة الامنية التي يبدو أن الثورات العربية في العقد الماضي نجحت في اضعافها إن لم تكسرها تماماً، وجزرة الموارد المالية التي أتاحتها اسعار النفط سابقاً. حينها، استُخدمت الثروات العربية في الكثير من دول المنطقة لاحتواء هذه الثورات.
نحن في وضع اليوم لا نُحسد عليه. ستؤدي أزمة الكورونا، إضافة إلى انهيار اسعار النفط الى ما دون العشرين دولاراً للبرميل، ليس فقط لشح الموارد المالية المتاحة لمحاولة احتواء الازمة، بل أيضاً الى تناقص الاحتياطيات الموجودة لدى بعض الدول الخليجية بشكل مخيف. ويُقدر صندوق النقد الدولي الانكماش الاقتصادي لدول المنطقة بمقدار ٣،١٪ للعام ٢٠٢٠، و هي نسبة كارثية وبخاصة في ما يتعلق بالبطالة التي بلغت معدلاتها في المنطقة قبل جائحة الكورونا حوالي ضعف المعدل العالمي.
لو سلمنا بنظرية فقدان دول المنطقة لأداتي العصا والجزرة في تعاملها مع هذه الأزمات المتلاحقة، فما هو السبيل لاحتواء أزمة الكورونا و معالجة آثارها، عدا الأدوات المالية والأمنية المنحسرة في المرحلة المقبلة؟ بل ما هو السبيل لمعالجة كل الازمات اللاحقة التي لن تنتهي عند جائحة كورونا إن كان العالم العربي يرغب بالتأسيس لمرحلة جديدة يحافظ فيها على الاستقرار و يؤسس للازدهار؟
لقد سادت ثقافات سياسية و اقتصادية و اجتماعية عديدة كان لها الأثر الكبير في إدارة الموارد في المنطقة في المرحلة الماضية وقد استُنفدت تماماً وأصبحت بحاجة الى تغيير جذري في العقلية السائدة سابقاً لادامة السلم الاهلي وتحقيق الاستقرار والازدهار. وأبرز ما يجب تغييره في هذه الثقافات الزائلة هو الآتي:
أولاً: أصبح واضحاً أن ثقافة الاعتماد على الريع، والتي أدت في كثير من الأحيان إلى دولة الرفاه أو تفشي الواسطة والمحسوبية، ما يقتل الانتاجية والنمو، بحاجة إلى تغيير جذري. لم تعد الموارد المالية متاحة لإدامة هذا النموذج القاصر، وأصبحت هناك حاجة ماسة لإستبداله بنموذج الاعتماد على الذات، وتوسيع مصادر الدخل وإعلاء قيم الانتاجية والكفاءة التي عانت كثيراً من النماذج الريعية القائمة. بعبارة أخرى، لم يبق في عالم ما بعد الكورونا مكان لاقتصاديات غير كفوءة وقليلة الانتاجية.
ثانياً: إن الاعتماد على الذات مبدأ سياسي كما هو مبدأ اقتصادي. فلا يمكن الطلب من المواطن المزيد من التضحيات الاقتصادية دون تمكينه سياسياً ودون تعظيم ثقافة التشاركية في صنع القرار. بغير ذلك، لن يتحقق السلم الأهلي بل ستتفاقم الاحتجاجات. بمعنى آخر، هناك حاجة ماسة لتغيير الثقافة السائدة في المنطقة التي كانت تعتقد أن المؤسسات التشريعية والقضائية القوية عبء على السلطة التنفيذية وعلى البلاد. تُثبت الأزمات المتلاحقة التي تضرب المنطقة، أنه من دون تقوية هذه المؤسسات وردم الهوة بينها وبين المواطن، لن تستطيع السلطة التنفيذية معالجة لا جائحة كورونا ولا غيرها من الأزمات دون مؤازرة باقي مؤسسات الدولة لها في تحمل المسؤولية وفي ضمان ايصال صوت المواطن بالدرجة المناسبة، وإلا فإن السلم الاهلي مُعرض لهزات حقيقية مع تردي الأوضاع الاقتصادية.
ثالثاً: سادت العالم العربي ثقافة مفادها أن القطاع العام هو المشغل الرئيس للعمالة ما أضعف الانتاجية والنمو إلى أبعد الحدود. يحتاج العالم العربي لعكس هذه السياسة بحيث تكون الدولة مسؤولة عن تقديم نوعية جيدة من الخدمات الصحية والتعليم والنقل لمواطنيها، وتهيئة المناخ المناسب التشريعي والتربوي لتشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص لاستيعاب العمالة فيها بما يعظم الانتاجية ويرفع نسب النمو، بينما يحافظ على قطاع عام رشيق يستطيع فيه توفير الموارد المالية المطلوبة لأداء واجبه الحقيقي في تقديم الخدمات الاساسية وترك القطاع الخاص لقيادة النمو وفق ضوابط تمنع الاحتكار والاستغلال.
رابعاً: حان الوقت لإعادة نظر جذرية في النظم التربوية الحالية، والتي صُممت في الدرجة الأولى لتلقين النشء “حقائق” معينة دون غيرها، ودون تشجيع التفكير الناقد والمساءلة والبحث والتمحيص والتعبير، اعتقاداً أن هذا الاسلوب سيُنتج أجيالاً مسالمة مهادنة لا تُمحّص و لا تسأل. وبدلاً من ذلك، أنتجت هذه الثقافة أجيالاً غير مهيأة للعمل إلا حين يستوعبها القطاع العام قسراً، وحين كبر هذا القطاع حد عدم قدرته استيعاب المزيد من هذه الافواج، نزل الناس الى الشارع. لم يتحقق السلم الاهلي ولم تُعالج مشكلة البطالة.
لقد حان الوقت للتخلص من عقدة عدم المساس بالأنظمة التربوية وتصوير الأمر وكأنه هجوم على التقاليد و الثوابت. حقيقة الأمر أن علينا مسؤولية تعليم الأجيال الجديدة مهارات تُمكنها من العيش، بل والابداع والابتكار، كما التأقلم مع عالم متغير باستمرار، فذلك أصبح ضرورة وجودية لمجتمعات مزدهرة ومنفتحة وتعددية.
يقودنا كل ذلك الى الثقافة الأهم التي بحاجة لتغيير جذري. لقد سادت في المنطقة ثقافة أمنية مفادها أن كلفة الاصلاح أعلى من كلفة عدمه، ولذلك يرتبط السلم الاهلي ارتباطاً مباشراً بالإصرار على الوقوف ضد الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأن في ذلك ضمانة لاستقرار البلاد. بعد هذه الأزمات الثلاثة واستنفاد الدول العربية أدواتها الامنية والمالية القديمة، هناك حاجة ماسة لثقافة جديدة تدرك أن كلفة الاصلاح أقل بكثير من كلفة التقوقع وراء أدوات أصبح رصاصها فارغاً. عماد هذه الثقافة أن السلم الاهلي والاستقرار والازدهار باتوا مرتبطين ارتباطاً مباشراً بأدوات جديدة عنوانها التشاركية وتقوية المؤسسات والاعتماد على الذات وتغيير دور الدولة في المجتمع وتطوير الأنظمة التربوية وتعظيم قيم الكفاءة والانتاجية.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط