عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي نشوة مشاعر انتصار الولايات المتحدة ومنظّري الحرب الباردة وحلقات المستشارين البارزين للرؤساء، خصوصاً زبيغنيو بريجنسكي الذي يحكى أنه كان يفتخر أينما حلّ بأنه رجل هزيمة السوفييت والمعسكر الشرقي، بدأ العمل على تنفيذ خطط “مشروع القرن الحادي والعشرين للهيمنة الأميركية” من المحافظين الجدد، أنصار حزب الليكود الإسرائيلي الذين اعتبروا احتلال العراق ورسم خرائط للشرق الأوسط الجديد لتمكين الكيان الصهيوني في المنطقة أول أهداف المشروع، وقول نائب وزير الدفاع الأميركي، في حينه، بول وولفوفيتز: “اتركوا أفغانستان وأسرعوا بضرب العراق، لا فرق إن ثبت وجود أسلحة دمار شامل أم لم يثبت” وقوله لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو: “غزونا العراق من أجلكم”.
وفي تغطيات إعلامية لمرور عشرين عاماً على الغزو الهمجي اللامشروع وأكاذيبه، قال وزير الخارجية الفرنسي السابق، دومينيك دو فيلبان، عن معرفة الدولة الفرنسية كذبة أسلحة الدمار الشامل، أنه أخبر وزير الخارجية الأميركي، كولن باول، بذلك في مكتبه. وتحدّث عن عدم مصداقية الولايات المتحدة ورفض دول الجنوب عن الوقوف معها ضد روسيا في الحرب في أوكرانيا، بسبب الأكاذيب التي روّجتها إدارة بوش لغزو العراق، الإدارة التي فشلت في الحصول على موافقة مجلس الأمن لشنّ الحرب على العراق الذي انتهت بغزوه، لكنها استمرّت بطاقمها من المحافظين الجدد بالكذب على العالم، إذ عندما هزم الجيش الأميركي أمام المقاومة العراقية، واستقال وزير الدفاع، رامسفيلد، بضغط جنرالات الجيش الذين فاجأتهم ضربات العراقيين، اخترعت إدارة بوش كذبة جلب الديمقراطية للعراق وإسقاط نظام الرئيس صدّام حسين التي تعكزت عليها الولايات المتحدة والعملية السياسية التي فصّلتها للعراقيين بمقاساتها ولخدمة مصالحها.
يمكن القول إن عقدين فترة كفيلة بإرساء نظام ديمقراطي حقيقي ليصدّق الشعب العراقي وعود الإدارة الأميركية ورئيسها، لكن الواقع أن العراقيين لم يلمسوا أي نوعٍ من الديمقراطية التي وعدهم بها الرئيس بوش، لأن كل الحكومات التي تشكلت منذ الغزو لم يتم انتخابها، بل جرى تعيينها على أسس طائفية وعرقية، بتوافق أميركي مع إيران ومرجعيتها في النجف، وأصبحت العملية السياسية تسير وفق “المتعارف عليه”، ووفق التوافقات ومفاوضات إيران مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي، وليس عملاً بالدستور الذي جاء به الاحتلال، رغم كلّ الألغام الموجودة فيه عمداً. ومن نتائج الديمقراطية التي فصّلت للعراق التعدّدية الإعلامية المخيفة التي أصبحت أدواتٍ للتحريض الطائفي والحقد والعنصرية والفتنة، والتي تسرح وتمرح في بثّ سمومها بينما طاولت الكواتم والاغتيالات أكثر من 400 صحافي وإعلامي عراقي منذ الغزو بشهادة تقارير منظمة “مراسلون بلا حدود” ولجان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
أما الوعد الثاني للرئيس الأميركي فهو تحقيق الرفاهية للعراقيين، وتوفير كلّ الخدمات الأساسية التي يحتاجها الشعب العراقي الذي عانى من الحصار والعقوبات والحروب. وبدلاً من تنفيذ هذا الوعد، عبر لجنة إعادة بناء العراق التي شكّلها الحاكم المدني، بول بريمر، ورصدت لها ميزانية 18 مليار دولار، فإنّ أموال هذه اللجنة قد سرق منها 6,6 مليارات، وهي أكبر عملية سرقة في الولايات المتحدة، وفقاً للمحامي ستيوارت بوين الذي عينه بوش للتدقيق بصرف هذا المبلغ. وأصبح توفير الخدمات من الأمور المستحيلة وبعيدة المنال، فلم يعد العراقي “يحلم” حتى باستعادة الكهرباء ولا الحصول على الماء ولا مراجعة المستشفيات بشكل اعتيادي ولا تعليم أولاده بشكل صحيح في مدارس حكومية، ولا أن يحصل على عمل يعيش منه، في القطاعين العام والخاص. بل يسير تدمير المجتمع وتحويل الدولة إلى مليشيات، جنبا الى جنب، بخطىً حثيثة، بالتوافق والتنسيق الأميركي الإيراني، لأنّ الاحتلالين لا يرغبان بنهوض الدولة العراقية من جديد، بل يجدان في دولة المليشيات طلبهما الأمثل الذي يحقّق مصالحهما في نهب البلاد وخيراته وعوائده، فقد بدا واضحاً للعراقيين أنّ الولايات المتحدة تفضّل وجود مليشيات تابعة للأحزاب تسيطر على النفط وبيعه وذهاب الأموال إلى بنك جي بي مورغان الذي يزوّد البنك المركزي العراقي بالدولار، بدل وجود دولة وطنية لها سيادة تديره بالخبرات والطاقات العراقية. في حين أن 96% من العاملين في القطاع النفطي اليوم من الأجانب، بينما كان قبل الغزو يعمل كليا بطاقم عراقي. أما صندوق إعمار العراق الذي أنشأه الحاكم الأميركي بعد الاحتلال، بول بريمر، فقد تحدّث قبل أسابيع في قناة التغيير العراقية المستشار الاقتصادي في السفارة الأميركية في بغداد، إن الشركات الأميركية لا يمكن أن تستثمر إلا في أجواء الاستقرار والأمن التام (أي ليس في بلد تحكمه المليشيات ولن تكون هناك إعادة بناء).
قدّمت الولايات المتحدة مساعدات في مجال مكافحة التردّي المناخي (تدريب بضعة أشخاص) إضافة إلى دورات تدريبية للشباب، تقوم بها السفارة، كما تنشر صفحتها في “فيسبوك”، في الوقت نفسه. وتحت أنظار هذه السفارة، تستمر إيران في عملية رسم خريطة ديمغرافية جديدة لمدن العراق وقراه، عبر التطهير الطائفي والتهجير القسري وتجريف المدن والقرى، مثل محافظة ديالى ومدينة سامراء والدجيل والعوجة وجرف الصخر وحزام بغداد وغيرها، لجعلها مناطق مغلقة حصراً للنفوذ الإيراني. كما تستمر في إدارة برلمان المنطقة الخضراء والعملية السياسية بطريقةٍ لا تسمح إلا بهيمنة أحزابها الإسلامية على المشهد السياسي. ومحاربة أحزابها للمستقلين الذين صعدوا في الانتخابات وفق قانون الانتخابات الجديد، واستعجال تعديله أخيراً قبل اتخاذ أي إجراء عاجل بخصوص الأوضاع المتردّية في البلد وإعادته إلى ما كان عليه، لمنع وصول أي أصوات مستقلة أو أصوات حزبية جديدة وشابة في المستقبل تحاول الإصلاح وليس لها ولاء للحرس الإيراني ولولاية الفقيه.
عقم العملية السياسية الأميركية وفشلها ونبذ الشعب العراقي لها والخوف من “انتفاضة تشرين” جديدة تطيحها، وتنتزع أموال العراق من بنوك الاحتلال الأميركي، هو الذي أجبر الولايات المتحدة على إعادة النظر في طريقة عمل السفارة الأميركية. إذ لأول مرة تبدو السفيرة الأميركية كحاكم مدني جديد للعراق، تدير الحكومة والبنك المركزي والبرلمان، وتقدّم نصائحها وإرشاداتها لهذا المسؤول أو ذاك بشكل علني أمام الشاشات التلفزيونية.
هذا هو عراق النظام العالمي الجديد الذي أرادت الولايات المتحدة أن تهيمن به على العالم وتنشر ما تسمّيه كذباً قيمها في الديمقراطية والحرية، لتسود في أرجاء المعمورة، إنّه الكذبة الكبرى التي جرى تسويقها للعالم ومنها فرنسا التي يرفض شعبها منذ سنوات هذا النظام الذي يخصخص مؤسسات الدولة العامة والصناعة والخدمات الأساسية العامة ويبيعها، أو يتنازل عنها لصالح شركات أميركية كبرى. لقد ظهرت “السترات الصفراء” احتجاجاً على النظام العالمي الجديد الذي اجتاح فرنسا منذ أكثر من عقدين، ووصلت إلى قصر الإليزيه قبل سنوات. وعادت تظاهرات الفرنسيين بقوة أكبر، ترفض تعديل قانون التقاعد الذي يريد الرئيس ماكرون فرضه شخصياً بالقوة في تعارض صارخ مع الديمقراطية التي بنيت على أسسها الجمهورية الفرنسية. وعلى غير المعتاد، خرجت أصوات أكثر من خمسين ألف عسكري متقاعد ومائة ألف مدني في حملة توقيعاتٍ تدعو الشعب الفرنسي إلى الوحدة، والخروج بتظاهرة وطنية واحدة، ليقول كلمته موحّداً لإنقاذ فرنسا من مثل هذه القوانين.
بسترات صفراء وبراية علم العراق، رافعين شعار “نريد وطن”، خرج شباب العراق في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، يساندهم في ثورتهم غالبية الشعب العراقي الذي ما زال، بكل شرائحه، يراقب تصرّفات سكان المنطقة الخضراء الذين جاء بهم النظام العالمي الجديد، لينقضّ عليهم لحظة غضبه، ويكنسهم من أرض العراق ليستعيد سيادته وليتحرّر من قيود الاحتلالين الأميركي والإيراني.
المصدر: العربي الجديد