واثقاً من نفسه كإمبراطورٍ حقيقيٍّ، فقد نال الرئاسة الصينية للمرة الثالثة، منذ أيامٍ. هكذا يزور الزعيم الصيني، شي جين بينغ، موسكو، بينما نظيره الروسي بوتين تلاحق بلاده العقوبات، وقد أصبح مجرماً بعرف المحكمة الجنائية الدولية. وبغض النظر عن ذلك، فإن بوتين، الذي كان قيصراً قبل غزو أوكرانيا، وحينما زار الصين في أوائل 2022، هو الآن أشبه بسجينٍ في الكرملين، وبالكاد يغادره، وحتى زياراته لشبه القرم وماريوبل، قبل أيامٍ، تبدو أقرب إلى مناكفة الغرب منها إلى زيارة أقاليم تابعة لدولته “المنهكة”.
اتفاقيات كثيرة، وشراكة وتعاون استراتيجيان وقّعَها بوتين وشي، واستثمارات بين البلدين قد تصل إلى مائتي مليار دولار. تنسجم زيارة شي لروسيا مع زيارات كثيرة للزعيم الصيني للعالم، وليس آخرها القمم التي عقدها في السعودية، وهناك بيان بكين الهام للغاية بخصوص التقارب بين السعودية وإيران، الذي يُشار إليه بمثابة اختراق استراتيجي لمنطقة تعتبرها أميركا تاريخياً ضمن المجال الحيوي لها. يتعامل الغرب مع الصين بحذرٍ وتحذير من تعميق شراكاتها مع روسيا، ولا سيما في الجانب العسكري، وطبعاً يجري الضغط عليها بأنّها تُصدِّر المعدات العسكرية إلى روسيا، وهو ما تنفيه، وتنفي التحالف العسكري كذلك. وعدا ذلك، ما يُضعِف الاتهامات الغربية للصين، رفض الأخيرة غزوَ روسيا لأوكرانيا وعدم اعترافها بضم القرم أو الأقاليم الأربعة، وتشدّدها بضرورة العودة إلى التفاوض مع أوكرانيا، وإيقاف الحرب، وضرورة الاعتراف بسيادة أوكرانيا.
بعيداً عن الموقف من غزو روسيا والرفض الغربي للتنسيق بين موسكو وبكين، تبدو العلاقات بين العاصمتين قويّة، ومتماسكة، وغير قابلة للتصدّع أو الحدّ منها، وتشكّل الضغوط الأميركية المستمرّة على الصين سبباً لاقترابها من روسيا، وربما يقع في خلفية المشهد أن الصين لا تريد عزل روسيا، ولا إضعافها بشكلٍ كبير؛ فإن ضَعُفت روسيا سيتمكّن الغرب من فرض العزلة على الصين لأسباب كثيرة، ولا سيما بخصوص تايوان.
عُقِدَت اتفاقيات اقتصادية كبيرة مع الصين، تُغني موسكو عن مليارات الدولارات كانت تجنيها من توريد النفط والغاز إلى أوروبا. وقال بوتين، بوضوح شديد، إن السوق الروسية مفتوحة للشركات الصينية، لتحلّ مكان الشركات الغربية التي انسحبت من روسيا. وهنا من الجدير ذكره أن أميركا وأوروبا تتشدّدان ضد الشركات الصينية التكنولوجية ومنتجاتها. يؤسّس التعاون الاستراتيجي بين الصين وروسيا، المحاصرتين أميركياً، لتحالف عسكري بينهما، مستقبلاً، وهما متّحدتان بضرورة عالمٍ جديد، متعدّد الأقطاب، وهذا هدف هندي، وبرازيلي، ولدول كثيرة. وهناك دول كثيرة أصبحت تدور في الفلك الروسي والصيني، وفي كل القارّات. تضمّنت زيارة الرئيس الصيني إعادة نقاش مبادرة السلام الصينية، وسيعاود شي الحديث مع الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، حولها بعد عودته إلى بكين، وسيكون قد ناقشها جيّداً مع بوتين، وتوصلا إلى أفكار معينة للتفاوض وفقها بين موسكو وكييف، فهل سيتحقّق السلام، أو إيقاف إطلاق النار، وسواه عبر بكين، ربما.
سارعت أميركا وبعض الدول الأوروبية إلى رفض المبادرة، من قبل ولحظة الزيارة، ولكننا لا نعلم بدقة على ماذا اتفق الرئيسان في موسكو بشأنها، ولم يرفض زيلينكسي المبادرة بشكلٍ كامل، وينتظر هاتف بكين. المشكلة الآن أنّ أميركا وقادة أوروبيين كثراً، يقولون إن بكين ليست محايدة في الصراع على أوكرانيا، وردَّ بوتين بأنّ بعض العواصم الأوروبية، وبالتحديد واشنطن، ليست محايدة، وهذا يقلّل من حظوظ المبادرة الصينية، وربما هذا التشدّد في ذلك من أجل وضع شروطٍ إضافية على بكين لتضغط على موسكو.
تأتي زيارة الرئيس الصيني، وأميركا وحلف الناتو يتشدّدان ضد الصين، وفي لحظة جمودٍ في ساحات المعارك في أوكرانيا، ولكن أيضاً، هناك ملاحقات جوية تحدث بين طائرات أميركية وروسية وبريطانية، وهذا مؤشّر خطير على تدهور العلاقات بين الغرب وروسيا. بخصوص الصين، تكثّف الولايات المتحدة نشاطاتها في مواجهتها، وقد رأينا زيارات رئيس وزراء اليابان لكوريا الجنوبية والهند، وزار كييف فيما كان شي في موسكو، ولا ننسى تفعيل الولايات المتحدة عدّة تحالفات عسكرية وسياسية في مواجهة الصين، كتحالف أوكوس وكواد، وتعزيز العلاقات مع دول آسيوية وازنة، مجاورة للصين، وهو ما تحذّر منه الصين، ولكنه يدفعها، في الوقت ذاته، نحو أوثق الصلات مع روسيا، وكذلك في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، نرى الغضب الأميركي من توقيع بيان بكّين، والذي يجد مخرجاً للعداوات بين إيران والسعودية، وكذلك لأغلبية دول المنطقة؛ فالسعودية ترغب في فرض نفسها لاعباً عربيّاً بامتياز، وبالتالي لن تنحصر العلاقات مع إيران في حل مشكلة اليمن، بل ستمتد إلى العراق ولبنان وسورية، وبقية المسائل؛ أي ستتنازل الأطراف التابعة في هذه الدول لإيران عن تعطيل انتخاب الرئيس اللبناني، وليس على مقاس حزب الله، وانصياع النظام السوري لقرار مجلس الأمن 2254، وإعادة العاصمة صنعاء إلى الشرعية اليمنية، وتوسيع هامش استقلال الحكومة العراقية عن السيطرة الإيرانية.
سيشكّل تحقق الانفراجات في هذه القضايا، وبدعمٍ صينيٍّ، ضربة قويّة للسياسة الأميركية في المنطقة، سياسة دفع دول المنطقة لتتقاتل مع بعضها، بينما السياسة الصينية تعتمد التطور الاقتصادي وإيقاف الحروب وإعادة فتح السفارات والتقارب السياسي. أهمية هذه السياسة قد تفشَل إن لم تجد حلاً للمسألة النووية في إيران بالتحديد، حيث كادت المنطقة أن تقع في الحرب قبل بيان بكين، وكذلك كيف ستتراجع إيران عن هيمنتها على الدول العربية بسهولة، ولا سيما أنّها شكّلت جيوشاً كاملة فيها، وهل عملية إحلال مليشياتها في تلك الجيوش ستكون الحل.
في كلّ الأحوال، رعاية الصين بيان بكين، أعادت النشاط الدبلوماسي إلى المنطقة، وهناك تقارب تركي مصري، وسعودي تركي، وإماراتي تركي، وتركي إسرائيلي. وهنا لا ننسى العلاقات القوية لقطر مع إيران أو تركيا، وتتطوّر علاقاتها مع مصر. اعتمدت الولايات المتحدة سياسة تقاتل الدول في ما بينها، مع رفضها التورّط المباشر، وقد لجمت إسرائيل عن القيام بحربٍ واسعةٍ ضد إيران، ولكن الصين تعتمد التقارب بين الدول، وإذا نجحت، بشكل أوليٍّ، في التقارب بين السعودية وإيران، فهل ستتمكّن من تحقيق السلام في أوكرانيا؟ زيلينسكي ينتظر هاتف شي، لكنّ بايدن والأمين العام لحلف الناتو يشكّكان في الصين، لكن إن أفسدوا المبادرة الصينية، وتشدّدت روسيا وأوكرانيا، فأيّ مستقبل ينتظر العالم، وقد بدأت المناوشات الجوية؟
المصدر: العربي الجديد