الثورة السورية وتحرير الدولة

راتب شعبو

إلى جانب الإحباط الذي يشملنا حين نتأمل الحال الذي صرنا إليه، نحن السوريين، بعد اثنتي عشرة سنة من انطلاق الثورة السورية، غالباً ما تسيطر على الذهن فكرة أنه لم يكن لنا أن ننجو من هذا المصير، في الشروط التي وجدنا أنفسنا فيها، أكانت شروطاً داخلية أم خارجية، وهي شروط قاهرة وخارجة عن إرادتنا. على هذا، كنّا محكومين لما هو فوق طاقتنا. لهذه الفكرة كثير مما يسندها في الواقع، لكنها تحيل السوريين الذين حاولوا استعادة دولتهم من يد طغمة حاكمة، إلى مجرد ضحايا وقعوا في شرّ أعمالهم. لكن كيف يمكن للسوريين أن يحرّروا دولتهم من يد السلطة الأسدية؟

خرجت أعداد كبيرة من الشباب في تظاهرات في معظم المناطق السورية، ضد السلطة الحاكمة التي ردّت على المتظاهرين بالنار والأكاذيب، ولم يكن في مقدورهم، بطبيعة الحال، مواجهة جهاز دولةٍ بكل قوته المادية والأمنية والإعلامية. والأهم أنه جهاز معبّأ سلفاً تعبئة مسمومة ضد كلّ من يخرُج على السلطة بوصفه عميلاً وخائناً أو مضلَّلاً وأداة. وفي كلّ الأحوال، لا يستحق سماعاً أو فهماً، فما بالك بالقبول أو بالمشاركة. وكأنّ مبدأ عمل السلطة الأسدية يأخذ التسلسل التالي: كلّ من يخرج على السلطة إنما يخرُج على الدولة، ومن يخرُج على الدولة يخرُج من الدولة.

لو افترضنا أنّ هؤلاء المتظاهرين فكّروا، أمام العنف المفرط الذي ووجهوا به، بالتوقّف عن التظاهر، لأنّهم أدركوا جدّية استعداد السلطة لتدمير البلد، لنفترض أنهم قبلوا العودة إلى بيوتهم مكتفين بأنهم عبّروا عن موقفهم وأوصلوا صوتهم، أو متذرّعين بالقول إنّ ما أقدمت عليه السلطة من تنازلات (زيادة الرواتب، تجنيس الكرد غير المجنّسين، إلغاء حالة الطوارئ والمادة الثامنة من الدستور…) كاف لوقف الاحتجاجات، ولنفترض أنّهم قبلوا أن يسكتوا عمن سقط منهم في التظاهرات بين قتيل وجريح على يد أجهزة “الدولة”، فهل كان في مقدورهم التراجع، أم كانوا سيقعون ضحايا انتقام رهيب من سلطة “تكفّر” من يخرج عليها، وتبيح ضده كلّ أشكال العقاب المتاحة بما فيها القتل، لكي يكون عبرةً لكلّ من يفكّر في الاحتجاج؟ ليس خافياً على السوريين أنّ مثل هذا المصير انتهى إليه، من قبل، إخوة لهم كان “ذنبهم” أنّهم كتبوا منشوراتٍ ينتقدون فيها السلطة، وربما لم يقرأها سوى بضعة آلاف، فكيف بمن خرج إلى الشارع يحتجّ ويوصل صوت احتجاجه إلى العالم عبر وسائل الاتصال الرقمية؟

لم يكن أمام المتظاهرين، والحال هذه، سوى الاستمرار وما يقتضي ذلك من الدخول في مساراتٍ متوالدة لم تكن في الحسبان. ولم يكن في حسبان الغالبية الغالبة من المتظاهرين أن يتحوّلوا إلى مقاتلين على النحو الذي صار، أو أن يضطرّوا إلى اللجوء خارج بلدهم. ولم يكن في حسبان غالبية المحتجّين أنّ السلطة الأسدية مستعدّة لزجّ الجيش في مواجهة الاحتجاجات، الفعل الذي من شأنه أن يغذّي المتطرّفين وذوي النزعة العنفية بين المحتجّين، كما يدرك الجميع. ولا شك أيضاً أنّ قلةً من السوريين كانت تصدّق أن الجيش كان مستعدّاً لاستخدام الأسلحة الثقيلة، بما فيها الطائرات والصواريخ بعيدة المدى، لقصف “البيئة الحاضنة”. وكان أن أفضى المسار الذي فرضته “الدولة” على المحتجّين، إلى ما نحن عليه اليوم بعد دزّينة من السنوات المرّة. ولسوف يتكرّر هذا المسار طالما بقيت الدولة السورية رهينة طغمة حاكمة، وطالما بقي العام (الدولة) مرهوناً أو مملوكاً للخاص (عائلة أو طغمة).

يستدعي الأمر التفكير في وسيلةٍ لاستعادة النسبيّة إلى صراعٍ ينحو، ما إن ينطلق، باتجاه التحوّل إلى صراع إبادةٍ سياسية أو، إذا اقتضى الحال، إبادة بشرية. هل يمكن إنقاذ الصراع السياسي من التحوّل إلى صراع إبادة؟ كيف يمكن الخروج من مجال سياسي مطلق لا يعترف بالصراع السياسي ولا يستوعبه إلى مجالٍ سياسيٍّ نسبي؟ في المجال المطلق، لا تعترف السلطة بوجود قوى سياسية خارجها. كلّ صراع سياسي في المجال المطلق يتّجه إلى أن يكون بدوره مطلقاً، أي صراعا من أجل التفرّد بالحكم على جثث الآخرين، فالصراع المطلق لا يناسبه سوى العنف، بوصفه صراع تفرّد. هذا ما يفسّر ميل الصراعات في بلداننا إلى العنف. هكذا، بدلاً من الديمقراطية السياسية تحلّ “ديمقراطية” القوة، أي الحكم لمن يمتلك القوة المادية القادرة على سحق الخصم (العدو). في ديمقراطية القوة هذه التي يفرضها المجال السياسي المطلق، تحلّ الحملات الأمنية والعسكرية محلّ الحملات الانتخابية، وتحصى الجثث بدلاً من الأصوات، وتظهر النتائج فوق ركام الدمار، و”تستقرّ” البلاد، إذا استقرّت، على ضيم ورغباتٍ دفينةٍ بالانتقام في جولاتٍ قادمة، يفصل بينها استقرارٌ مفخّخ، في حلقة جهنمية لا تنتهي.

لا تقود المواجهة الجبهية مع السلطات التي تستعمر الدولة وتجعلها ملكية خاصةً وأداةً إلى تأبيد سيطرتها، وتتوسّل كل أشكال التعبئة غير الوطنية لمنع تشكّل وعي عام وطني، إلا إلى الخراب. غالباً ما تكون هذه السلطات قادرةً ومستعدّة لارتكاب أبشع الجرائم دفاعاً عن ذاتها، وغالباً ما تكون نتائج هذا النوع من الصراع كارثيةً بالمعنيين، المادّي والسياسي. في تجارب الثورات العربية منذ 2011 ما يكفي للتدليل على هذه النتيجة. ما يقود إلى التفكير في العمل على مستويات أدنى لا تتضمّن “إسقاط السلطة”، بل تلامس الحاجات التي توحّد عموم الناس، الحاجات المادية والمعنوية، بالاستفادة من تقنيات التواصل التي تسهّل جمع المعلومات ونشرها، وابتكار أشكال الضغط والاحتجاج لاسترجاع حقوق، ولكسب مجالٍ أوسع وأوسع للحركة.

مضمون هذا النضال اليومي وطويل النفس ومتفاوت الشدة هو استعادة عمومية الدولة. ستواجه السلطات، لا ريب، كلّ محاولةٍ لتحجيم سيطرتها التامة، لكنّ فرصة نجاح هذه النضالات تبقى أوفر، ليس فقط لأنها لا تفرض على السلطة صراع كسْر عظم، بل أيضاً لأنه تصعُب شيطنتها لما لها من مقبوليةٍ عامة، ولأنّ نتائجها ملموسةٌ وقابلةٌ للقياس. كما أنها تساهم، مع الوقت، في تغيير الوعي العام، وتمهد لنجاح تحرير الدولة واستعادة عموميتها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى