تمرّ ذكرى الثورة السورية كل عام في مدار جديد وبداية دوران جديد، ليس على سبيل المصادفة أن يكون مع بدايات تفتّح الربيع، وكل ما يتعلق بهذا التفتّح من أساطير التجدّد وإعادة الخلق والانبعاث التي ظهرت على مسرح التاريخ… ففي آذار تبدأ دورة جديدة، وإنْ كانت مختلفة تمامًا عن تلك السابقة، وإن كانت في سياق أكثر تردّيًا واختلافًا عمّا كان يتأسّس على الشعور بحرارة أجساد الأطفال الذين أطلقوها من دون أي إدراك منهم بذلك، من دون أي وعيٍ منهم بخطورة ما سيُقدِمون عليه، حينما يكتبون على أحد جدران درعا “جاييك الدور يا دكتور”. وحتمًا، من دون أن يشهدوا على واحدة من أكثر الثورات راديكالية في مرحلة الربيع العربي، وذلك ليس في سبيل المقارنة مع غيرها، ولا في سبيل التخفيف من خطورة وحدّة آلام (وخطورة) المواجهات التي قامت الشعوب العربية الأخرى بها. إنما نتكلم عن المفاعيل السياسية والاجتماعية، ووضوح نتيجة الانقسام الطبقي الحادّ الذي ظهر بشكله العلني في الداخل السوري، وعلى مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية.
والدكتور الذي أتاه الدور، لم يجد هو ونظامه وضبّاطه ما يواجهون أولئك الأطفال به إلا الاعتقال، والتعذيب، والقتل، والتنكيل بهم وبأهلهم وبكل أحلامهم وألعابهم. إنه رئيس نظام قام، وكان والده قد سبقه في ذلك، وكل أقربائه قاموا به أيضًا، على هذا السلوك، بشكلٍ مستمرّ ومتكرّر منذ بداياته، حينما قضوا على كل من كانوا يشكّلون عائقًا أمام الطموحات الشخصية لآل الأسد، وكل السلالة اللاحقة.
تكثّفت في هذا الشهر من عام 2011 كل شروط الثورة، وكل مفاعيلها، على خلاف “ثورات” كثيرة رافقتها، خصوصًا في مرحلة الربيع العربي. إذ سرعان ما كشف النظام السوري عن وجهه الحقيقي، في سلوكٍ يختلف تمامًا عن سلوك النظام في مصر على سبيل المثال، فهناك استطاع النظام، وقاعدته العسكرية المتمثلة في الجيش، التضحية بواجهة النظام والإبقاء على قواعده سالمة، فامتصّ بدهائه كل تلك الموجة من خلال إقدامه على هذه الخطوة التي حمت قواعد الدولة العميقة، والتي سمحت له باستعادة المبادرة بعد الانتخابات الرئاسية عام 2012، التي تلتها عام 2013 مظاهراتٌ شعبيةٌ عارمة ضد الرئيس، استغلتها القوى المسلحة بالانقلاب على كل ما أنجزته “الثورة”، ما عبّد الطريق أمام إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من خلال إبقاء العسكر على مفاصل الدولة، وإعادتها إلى حظيرة القوّة ذاتها التي كانت تهيمن في العقود السابقة.
وهذه نقطة غير تفصيلية وغير عرضية في التحليل، بل هي أساس أية قراءة. ذلك لأن الأسد بقي منتصبًا على أنقاض الدولة والنظام، بقي على هياكل عظمية ومن أجل هياكل عظمية، أي أنه بقي كقشرة شبه سليمة على جسدٍ يضربه العفن والاهتراء. وبقي، فوق هذه وتلك، على الإنعاش المستمرّ لقوى إقليمية وعصابات داخلية وخارجية ودولية، عملت، وبشكل مستمر، على إبقائه صامدًا بقوّتها هي، لا بقوته هو، بقدرتها هي لا بقدرته هو، وبسلاحها ومليشياتها هي وليس بسلاحه ومليشياته هو. بينما بقي النظام في بعض الدول الأخرى (تونس على سبيل المثال)، وإن اختلف شكله، في الحفظ والصون وبانتظار ساعة صفر استعادة الهيمنة. فقد وقعت القوى الثورية والتغييرية في العجز، وفي ضحالة التحليل والتنظيم وعدم وضوح الموقف السياسي الذي رافق معظم حركات الربيع العربي والحركات والمجموعات التي تلتها. وبعد أن ضاعت وتشتّت في المعركة الأولى، ولم تستمر وتنظّم أمورها لكي تحسّن المواجهة المستمرّة، لعلها تظفر في الثورة الثانية التي تتمثّل بالتغيير في داخل مؤسسات الدولة، لعلها تستطيع قلب المعادلة وإطاحة النموذج السلطوي من خلال استعادة الهيبة من منطق القوّة، واستتباعه بإحداث التغيير في كيف الشرعية وفي كيف نموذج العدالة كذلك.
بعد أكثر من عقد من القتل والتشريد والتنكيل والنهب والتعفيش، يصل الحال السوري إلى الخلاصات ذاتها، إنما بشكل أوضح ومن دون أي غباش، خصوصًا بعد أن فرّط المجتمع والاقتصاد، وبعد أن أمعن النظام في الكشف عن وجهه السلطوي البوليسي الاستبدادي، والكشف عن مشهد الانقسام الطبقي الحقيقي الذي لطالما اختصر المشهد في الداخل السوري، فالطبقة البرجوازية السورية لم يعد ينقصُها إلا بعض الدماء على الشفاه، وتحت الأنياب، لكي تتماهى مع شخصية مصّاص الدماء الذي تمثّله بالنسبة للمجتمع السوري، فقد فرغت تلك الطبقة، أو بالكاد، من نهب خيرات الدولة، ومن امتصاص دماء الشعب السوري الذي هجّرت وقتلت واعتقلت منه ما يكفي لاختراع شعب كامل لإعلان دولة أخرى.
تمرّ دزينة السنوات هذه على الثورة السورية، أو بالأحرى على ثورتنا في سورية، وكأنها حدث تأسيسي في تاريخ العالم، حدث يهدف إلى تعديل السياق التاريخي برمّته، ويرسم ملامح انتزاع أطياف الحرية من سجونها ومن أقبية المخابرات. فعلى الرغم من محاصرتها، وعلى الرغم من مشاهدة الشعب السوري يموت، أو يهجّر، في هذا العطب المسمّى عدالة ومجتمع دوليين، إلا أن ما قام به ذاك الشعب لا ينحصر بأنه مجرّد عنوان سياسي، أو مواجهة على مستوى السلطة السياسية، بل هو الكشف عن القوى الكامنة في المجتمع السوري، إزالة الغبار عنها، قوى الرجعية والانتكاس التاريخي قبل قوى التقدّم، فالثورة محاولة لفتح باب المجتمع أمام حركة تطوّره الطبيعية واستعادة سياق مسجون ومكبوت منذ عقود، استعادة المبادرة والمواجهة، استعادة الدرب، ولو كثرت الأشواك فيه.
لم تكن الثورة في سورية مجرّد مواجهة، ولا مجرّد حدث تقف معه أو ضده، وليست مسألة محض سياسية، ولا لحظة تاريخية وفعل إرادوي تدعمه أو تدعم خصومه. بل هي، فوق ذلك كله، معيار أخلاقي وإنساني وتاريخي، في الخطوات والسياقات التي أصابت بها، وقبلها التي أخطأت وأخفقت فيها. هي معيار جمالي كذلك، لحظة إسقاط التماثيل والأصنام القابعة على عنق التاريخ وزواياه. أصنام لطالما وقفت عائقًا أمام آليات تطور المجتمع وناسه، تطوّر وعيهم وتجربتهم التاريخية، وتطور نوعية أخطائهم التي يتعلمون منها ويرتقون من خلالها.
الآن، ونحن نقف على أنقاض الماضي، نشاهد العالم في حالة انهيار، فالعالم كما نراه اليوم لم يعد بشكله الروتيني المملّ، العالم كما رحل عنه أطفال كتبوا مرّة على الجدار في أحد الشوارع السورية ما يجب أن يُكتب. نحن نشاهد العالم اليوم وقد حاصره حصاره للشعب السوري، حين انفلشت الأزمات التي تعصف بالدول التي حاولت تحويل سورية إلى محرقة لكل طموحات الشعوب المحيطة.
المصدر: العربي الجديد