يبدو أنَّها الطبيعةُ البشريةُ التي تهوى مسافةَ الأمان، ولكن، ما مسافةُ الأمان؟ تحتاج النفسُ البشرية إلى شعور آمن، ولو كان مزيفاً، ولتحقيق هذا الشعورِ الأمن، يُغرقُ البشرُ أنفسَهم في سعي لاهثٍ وراء ما يعطيهم هذه المساحاتِ الآمنةَ، مثل: تملك بيت، أو رصيد ماديّ، أو إحاطة أنفسِهم بالذرية والقبيلة، أو شبكة العلاقات الواسعة، لكن ما الذي يدفعُنا إلى السعي وراء هذه المساحاتِ الآمنة؟ يبدو أن ابتعادَنا عن البيئة الآمنةِ التي تعطي الدفءَ لأجسادنا وأرواحنا، نعوضُه بالسعي وراء هذه المسافاتٌ الآمنة، فليس هناك مكانٌ آمن من رحم الأم، ثم حضنِها الدافئ في أيام الطفولة، ثم حضن الأسرةِ بأعمدتها الأساسية: الأبِ والأم والأخوة، ثم القريةِ والحي والأصدقاء، ثم الدولة وأنظمتها التي من المفترض أن تؤمنَ للفرد حاجاتِه الأساسيةَ. لكن هل مسافةُ الأمان تلك وهمٌ أم حقيقة؟ ورد في الأثر:” أنْ عبدي أعطيتُك مالاً، فماذا صنعت فيه؟! يقول: يا ربِّ لم أنفقْ منه شيئاً مخافةَ الفقر على أولادي من بعدي، فيقول الله له: ألم تعلم بأني الرزاقُ ذو القوة المتين؟! إن الذي خشيتُه على أولادك من بعدك قد أنزلتُه بهم ـ يسأل عبدٌ آخرُ ـ أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا ربٌّ أنفقتُه على كل محتاجٍ ومسكين، لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً، وأنت أرحمُ الراحمين، فيقول اللهُ له: أنا الحافظُ لأولادك من بعدك”.
مسافةُ الأمانِ، بمفهوم ما، ورد في الأثر قلةٌ من يوقنون به خاصة في زمن الابتلاءِ والمحن الذي نعيشه اليوم، لكن هل يمكنُ للإنسان أن يتجردَ دفعة واحدة من كل مسافاتِ الأمان التي أفنى عمرَه ووقتَه في صناعتها ورسمها؟ بالتأكيد عندما يأتي الموتُ تنتهي تلك المسافاتُ وتتلاشى، ربما لأن الإنسانَ يعود إلى المساحات الصغيرة (القبور) كتلك التي بدأ بها حياته وهي رحمُ أمِّه، لكن مع حدوثِ الكوارثِ الطبيعية كالزلازل، وانهيارات الأنظمة القائمة بالحروب والأزمات المالية، تنتهي تلك المسافاتُ وتضمحل حتى تكاد تختفي! وهنا ندرك أنّ مسافاتِ الأمان تلك مجردُ حواجزَ فكرية، تمليها طريقةُ العيش التي هي صناعة البشر أنفسهم! ربما لاندرك هذا المعنى إلا في مناطق التهجير القسري والتشرد وأحزمة الفقر، أو الأماكن البعيدة عن الحضارة البشرية الزائفة، كما هو الحال في بعض الدول الإفريقية والآسيوية ودول أمريكا اللاتينية التي حافظت بعض أقلياتِها على نمط عيشِهم البدائي.
مع الانهيارِ الاقتصادي القادمِ دون أدنى شكٍّ بحسب وعدِ ربِّ العالمين “يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ”، والكوارث المتكررة الطبيعية منها، والمصطنعة، نصبح أمام حقيقةٍ واحدةٍ وهي أن مسافةَ الأمان التي زيناها لأنفسنا ستصبح متبدلةً ومتغيرة بشدة، بحيث نصبحُ أسراها وأسرى دينامياتها ومسلماتها التي تبنيناها دون تفكير، وعندها يزداد المؤمنُ إيماناً، ويزداد الكافرّ كفراً .
فهل سنتعظُ بما نراه، أم ننتظر حدوثَه معنا بشكل مباشر؟