تستخدم حكومة الرئيس سعيّد أدوات مكافحة الإرهاب لملاحقة المعارضة السياسية، ولكن التراجع المستمر لنشاط الجهاديين قد يمنح واشنطن متنفساً لممارسة الضغط عليه بشأن هذه القضايا.
منذ الانقلاب الذي نفذه الرئيس قيس سعيّد في تموز/يوليو 2021، أصبح جهاز مكافحة الإرهاب التونسي المحترف الذي ظهر بعد ثورة عام 2011 مسيّساً أكثر فأكثر، في دلالة إلى العودة إلى الأساليب التي كان يستخدمها الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وسيقوّض هذا النهج، في حال استمراره، الجهود المبذولة للسيطرة على حركة الجهاد التونسية التي لا تزال تشكل تهديدات حتى يومنا هذا على الرغم من أنها أقل حدة بكثير من تلك التي كانت بين عامي 2012 و 2019.
وناهيك عن الجانبين الأخلاقي والإنساني، يسلّط هذا الانحطاط الضوء على دور المساعدة التي قدمتها الولايات المتحدة لتونس. فبين عامي 2013 و2021، خصصت واشنطن ما لا يقل عن 30 مليون دولار لإصلاح نظام مكافحة الإرهاب في تونس، لا سيما بعد الهجمات الواسعة النطاق التي تعرضت لها البلاد بين عامي 2015 و 2016. كما أنفقت 20 مليون دولار إضافي على تعليم الجيش وتدريبه إلى جانب نحو 100 مليون دولار لإصلاح وكالات إنفاذ القانون. وصحيح أن مكافحة الإرهاب في تونس لم تعد تحتل الأولوية كما في السابق، ولكن حجم النفقات الأمريكية يجعل التصدي للانتكاسة التي يتسبب بها سعيّد ضرورياً.
مكافحة الإرهاب في تونس بين الثورة والانقلاب
في أعقاب ثورة عام 2011، كانت الحكومة الانتقالية أكثر تركيزاً على تهيئة البلاد للانتخابات من تركيزها على قضايا مكافحة الإرهاب. وبعد الانتخابات، استلمت السلطة حكومة ثلاثية بقيادة حزب “النهضة” الإسلامي الذي رأى أن تطبيق مبدأ التساهل مناسباً بالاستناد إلى تجاربه الخاصة مع حملات القمع التي شهدتها البلاد في العقود الماضية. فقد اعتبر أن نهج الحكومة المتشدد لم ينجح في ردعه في الماضي، فلماذا قد ينجح في ردع فرع تنظيم «القاعدة» المحلي «أنصار الشريعة في تونس»؟
غير أن النهج المتساهل الذي اعتمدته الحكومة فتح مجالاً كبيراً أمام التعبئة الجهادية، وتسبب بمشكلة أمنية خطرة لا تختلف كثيراً عن تلك التي برزت في حقبة حملات القمع القاسية عندما تمّ غرس التطرف في عقول آلاف التونسيين للانضمام إلى الحركة الجهادية. وبالفعل، وضع الإرهابيون السلطات في حالة تأهب منذ عام 2012 وحتى عام 2016، عندما حققت حكومة وحدة وطنية جديدة ضمت حزب “النهضة” كشريك صغير انتصاراً كبيراً على تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في بن قردان.
وبحلول عام 2019، قادت “حركة النهضة” (حزب “النهضة”) حكومة وحدة مختلفة وأكثر انقساماً، ومع ذلك تمكنت السلطات من التغلب على الإرهابيين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الحركة الجهادية تهديداً يمكن السيطرة عليه ولا يؤثر على الحياة اليومية لمعظم التونسيين، بفضل سنوات من الجهود الحثيثة وتعلّم العبر. وبين عامي 2016 و 2021، أصبح جهاز مكافحة الإرهاب أكثر احترافاً – وهي مكاسب تقوّضها حالياً مساعي سعيّد الاستبدادية لترسيخ قبضته على السلطة التي استلمها في تموز/يوليو 2021.
الاتجاهات في عام 2022
خلال السنوات الخمس الماضية، شهدت تونس تراجعاً عاماً في وتيرة الهجمات الجهادية وفي عمليات توقيف الجهاديين، واستمر هذا الاتجاه خلال عام 2022. وللمرة الأولى منذ عام 2011، لم يتبنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» أو «كتيبة عقبة بن نافع»، الفرع المحلي المتبقي لتنظيم «القاعدة»، أي هجوم. ويعود آخر هجوم تبناه تنظيم «داعش» إلى شباط/فبراير 2021، بينما لم تعلن «الكتيبة» مسؤوليتها عن أي اعتداء منذ نيسان/أبريل 2019، في دليل على مدى تراجع عمليات الحركة الجهادية في البلاد.
وفي العام المقبل لا بدّ من التمعن في التراجع الذي سجله معدل عمليات الاعتقال والمحاكمات في العام الماضي (والذي شمل عدة أفراد في كثير من الحالات). فهل يعكس اتجاهاً عاماً يتمثل بتراجع الشفافية القضائية في وقت يواصل فيه سعيّد تشديد قبضته الاستبدادية على النظام أم هو مجرد تأخر في مواعيد جلسات المحاكم؟ على سبيل المثال، تراجعت المحاكمات في عام 2020 أيضاً، لكن ذلك كان يُعزى إلى القيود الناجمة عن جائحة “كوفيد-19”.
ويبدو أن الحكومة لم تسمح لأي من مئات المقاتلين التونسيين وأسرهم المعتقلين أو الموجودين في مخيمات في دول أخرى بالعودة إلى بلادهم خلال عام 2022، أي بعد ثلاث سنوات على خسارة تنظيم «الدولة الإسلامية» الأراضي الأخيرة التي سيطر عليها في العراق وسوريا. ويبقى عدد التونسيين المتواجدين في العراق مجهولاً، في حين لا يزال القليلون منهم في ليبيا (10 نساء و 21 طفلاً) والكثيرون في سوريا (عدد غير معروف من الرجال، على الأرجح بالمئات، بالإضافة إلى 100 إمرأة و 160 طفلاً). وهذا الأمر ليس مفاجئاً نظراً لأن الأطراف السياسية المحلية لا ترغب في إعادتهم. ونتيجةً لذلك، بقي مئات الجهاديين التونسيين المتشددين معتقلين في شمال شرق سوريا، مما يزيد من خطر تجنيدهم أو مشاركتهم في هجمات مستقبلية إذا ما تم شنها من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» – من بينها هجمات في بلادهم، تونس. وبالتالي، ثمة مصلحة مشتركة بين واشنطن وتونس في إعادة عدد أكبر من هؤلاء إلى بلادهم حيث يمكن للسلطات تعقب هوياتهم وأدوارهم في التنظيم وأنشطتهم. ومن المصلحة الأمنية للحكومتين أيضاً الحرص على عدم تعرض جهاز مكافحة الإرهاب التونسي لخطر التسييس الذي كان المراقبون يحذرون منه منذ انقلاب سعيّد والذي يبدو أنه يتحقق.
وحين سن نظام بن علي قانوناً مثيراً للجدل لمكافحة الإرهاب قبل عقدين من الزمن، استغل التشريع لسجن ما يقرب من 3 آلاف شخص خلال الفترة بين عام 2003 وشباط/فبراير 2011، حين طبقت السلطات الانتقالية عفواً عاماً. إلّا أن 1200 فقط من أولئك الموقوفين كانوا متورطين فعلياً في أنشطة جهادية، سواء على المستوى المحلي (900) أو كمقاتلين في الخارج (300). وبعبارات أخرى، سُجن 60 في المائة من إجمالي من شملهم قانون مكافحة الإرهاب الصادر في تونس عام 2003 لأسباب سياسية وليس بتهم الإرهاب.
ودفعت هذه الانتهاكات بالكثير من التونسيين إلى اعتبار نظام العدالة والسجن في البلاد غير شرعي. ومع ذلك، لم يشكل العفو العام عن السجناء حلاً حكيماً للمشكلة؛ فلو اعتُمدت خطوة مستهدفة لكانت قد حققت نتائج أفضل بكثير. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة ساهمت في تحرير عدد من الموقوفين السياسيين بشكل عادل، إلّا أن الكراهية الكبيرة لنظام بن علي أعمت بصيرة الكثير من نشطاء ما بعد الثورة عن التهديدات الفعلية التي يطرحها إطلاق السراح العام لبعض السجناء ذوي التاريخ الحافل بالأنشطة الجهادية والإرهابية. وفي النهاية، وفرت هذه الخطوة الخاطئة الموارد البشرية والمجال لتنظيم «أنصار الشريعة في تونس» لكي ينمو محلياً، الأمر الذي أسفر بدوره عن مجموعة أكبر من المجندين المستعدين للمشاركة في النزاعات الدائرة في ليبيا وسوريا والعراق. كما مهّدت الطريق أمام الشبكات التي شاركت في هجمات إرهابية واسعة النطاق داخل تونس بين عامي 2012 و 2016.
وتُظهر الطريقة التي أفضت فيها الاعتقالات السياسية التي نفذها نظام بن علي إلى انتشار حركة جهادية كبيرة بعد سقوطه، سبب عدم استدامة النهج المتشعّب لمكافحة الإرهاب. فحين يلاحظ المواطنون أن حكومتهم تسيء استخدام سلطتها من خلال اعتقال معارضين سياسيين بتهم الإرهاب، فمن غير المرجح أن يقدموا الدعم عندما تلاحق السلطات المشتبه بهم المتورطين فعلياً بالتخطيط للمؤامرات والهجمات. ومع ذلك، تعود حكومة سعيّد إلى هذا النمط من الانتهاكات، مما قد يمهد الطريق أمام عودة الحركة الجهادية إلى تونس في المستقبل – وهو احتمال مقلق بالنظر إلى أن الحركة لديها خبرة وشبكات أكثر بكثير مما كانت عليه في عام 2011.
وعلى مدار العام الماضي، أُلقي القبض على تونسيين بتهم إرهاب غير شرعية في ما لا يقل عن 22 قضية، تورط في الكثير منها عدة أفراد. ومن بين هؤلاء المعتقلين، صحفيين وقضاة وبيروقراطيين ومسؤولين أمنيين ورجال أعمال ونقابيين وناشطين وسياسيين ومدونين. وركزت هذه الإجراءات على القادة الإسلاميين من حزب “النهضة”، إلا أن الحملة القمعية التي مارسها سعيّد شملت أيضاً أفراداً من فصائل متفرقة مثل “الاتحاد العام التونسي للشغل” وحزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” و”جبهة الخلاص الوطني”. وفي الآونة الأخيرة، تسارعت وتيرة هذه الاعتقالات الإرهابية الخاطئة، مع تسجيل 12 عملية اعتقال خلال الشهر الماضي، الأمر الذي يسلّط الضوء على التدهور السريع لجهاز مكافحة الإرهاب غير السياسي في البلاد.
ضرورة التصدي لما يحصل
وضعت الظروف الحالية واشنطن في موقف غير مريح من خلال وضع الحريات المدنية في مواجهة مساعي الاستقرار والأمن في دولة شريكة رئيسية في المنطقة. ولكن بغض النظر عن ماهية التهديد الذي قد يُطرح على المدى الطويل، فإن التهديد الجهادي الحالي في تونس ضئيل ويمكن التعامل معه، لذا لن تخسر الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الكثير من الناحية الأمنية من خلال الضغط على سعيّد للإفراج عن السجناء السياسيين المتهمين من قبل سلطات مكافحة الإرهاب. كما عليهم النظر في وقف أي مساعدات أجنبية يُعتقد أنها تدعم الانتهاكات المرتبكة من قوات الأمن.
في المقابل، وإذا ما أصرت واشنطن على نهجها الحالي القائم على عدم التدخل، سيوسّع سعيّد ويرسّخ جهوده الرامية إلى استغلال مؤسسات الدولة، وتدمير المكاسب الديمقراطية التونسية (الشائبة باعتراف الجميع)، واعتقال المعارضين السياسيين. وكما ذُكر أعلاه، يهدف الإجراء الأخير إلى تقويض المعركة الحقيقية ضد الحركة الجهادية في البلاد والتي أسفرت سابقاً عن انبثاق جماعات إرهابية مثل «أنصار الشريعة» و«كتيبة عقبة بن نافع» وتنظيم «الدولة الإسلامية». وحين دحرت الحكومة التونسية بفعالية هذه الحركة بين عامي 2016 و2021، تمكنت من القيام بذلك بفضل شرطين أساسيين فقط: (1) عملية شرعية للإصلاح وسيادة القانون مدعومة بتمويل وتوجيه وتدريب من الولايات المتحدة، وأوروبا، والجزائر، (2) ودعم شعب لم تنهكه الاعتقالات المسيسة باسم “مكافحة الإرهاب”. وبناءً على المسار الحالي الذي تسلكه البلاد، يبدو أن سعيّد سيكرر أخطاء بن علي، ومن غير المرجح إلى حدّ كبير أن يعود من تلقاء نفسه إلى مسار الإصلاح البطيء بل الثابت الذي كان سائداً في تونس ما بعد الثورة.
هارون ي. زيلين هو زميل “ريتشارد بورو” في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى حيث يتركز بحثه على الجماعات الجهادية العربية السنية في شمال أفريقيا وسوريا، وعلى نزعة المقاتلين الأجانب والجهادية الإلكترونية عبر الإنترنت.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى