حتى في ظل الأزمة العالمية التي ضربت الجنس البشري في الصميم، ووضعته أمام أكثر التهديدات الوجودية، ولسنا نحن، سكان منطقة الشرق الأوسط، في معزل عنها، ما زال التفكير في المسألة السورية يتمّ من أكثر الزوايا ضيقًا وأقلها عمقًا، إنها زاوية النظر الطائفية وفهم كل ما حدث ويحدث وشرحه على هذا الأساس، وأكثر ما يدفع إلى الأسى أن شريحة كبيرة من النخب والمثقفين والسياسيين تصر على فهم الأمور، وتحليل أية قضية أو مشكلة تظهر في سياق الأزمة السورية القاتلة وفق مقدّمات مبنية على البعد الطائفي، وكأن المجتمع السوري مقسّم إلى مجتمعات منفصلة صلدة وكتيمة، كما الصوان، قائمة على الانتماء إلى الطائفة فقط، وأن لبّ المشكلة السورية والأزمة المستفحلة المديدة هي الصراع الطائفي. مع عدم إغفال حقيقة أن أطراف الصراع وحلفاءهم وداعميهم استثمروا في هذه القضية الحساسة، بغرض التجييش ورص الصفوف وإدامة الحرب في سورية.
يعود من جديد هذا الإسناد لكل المشكلات المنبثقة من المشكلة الأساسية التي آلت إليها الحالة السورية بعد انحراف الحراك، أو حرفه عن أهدافه، نحو العنف والصراع المسلح بين النظام والقوى المعارضة له على السلطة واستلام مقاليد الحكم في سورية، يعود وبقوة، في إثر الخلاف الواقع بين النظام ورجل الأعمال السوري، رامي مخلوف، الذي ما زال يزداد تعقيدًا وتصعيدًا، تاركًا صدى قويًا رجّ الاقتصاد السوري المتهالك في الأساس، وظهرت علامات انهيار الليرة السورية المدوّي بعد تصعيد الخلاف، وارتفاع مريع في مستوى التضخم والأسعار، فأصبحت الغالبية الساحقة من الشعب السوري تعيش على مستوى خط الفقر وأكثرها تحته، فهناك تحليلاتٌ تفند الوضع على أساس انقسام الطائفة العلوية بين مؤيد لهذا ومؤيد لذاك، ويدرسون مراكز القوى ومداها لدى كل من الطرفين، ولمن يمكن أن تكون الغلبة، ومعظمها يصل إلى نتيجة بأن الطائفة لن تنقسم على بعضها كي لا تخسر ما حققته على مدى العقود الأخيرة منذ وصول الأسد الأب إلى سدة الحكم، مثلما لو أن الطائفة عن بكرة أبيها هي الحاكمة، وهي المستفيدة الحصرية من النظام الحالي. وهناك من يصل إلى نتيجة مفادها أن الصراع هو ما بين رامي مخلوف (وعائلته) وزوجة الرئيس أسماء الأخرس (وعائلتها) بغطاء ومباركة خارجية، أقلها روسية على أساس تحضيرها، بوصفها شخصية سنية يمكن أن تكون بديلاً مقبولاً لقيادة البلد، ويكون هذا الإجراء، فيما لو حصل، بمثابة حل سياسي، يمكن أن يُخرج البلاد من عنق الزجاجة وتضمن روسيا مصالحها بعد البذل الذي بذلته في سورية وفي حماية النظام بدعمه عسكريًا، وفق تفاهمٍ يؤكّد بعضهم أنه منجز وقائم، بينها وبين الولايات المتحدة، على الموضوع.
هذا الطرح أو التحليل قاصر عن الغوص إلى عمق المشكلة السورية، وسطحي في تناوله الظواهر، وهو لا يتنافى مع ما سبقه من سوء فهمٍ وتقديرٍ لمسببات الانتفاضة الشعبية، ومؤسفٌ أن يصدر عن مثقفين أو محللين أو نخبويين، متجاهلين، كما تم تجاهل حقيقة جوهرية، منذ البداية، أن الطائفة العلوية، وغيرها من الطوائف في سورية، لا تشكل الواحدة منها جسدًا صلبًا كتيمًا كالصوان، وليس كل أفراده متشابهين، وليس في المقابل أيضًا كل السوريين الواقعين تحت سيطرة الفصائل التي تدير المناطق الخارجة عن سيطرة النظام متشابهين، ويدينون بدين الفصيل المسيطر أو الطرف الذي يحكمهم. هناك واقع مختلف بشكل فارق عن هذا التبسيط، واقع يجب عدم تجاهله، واختصار الأزمة السورية بصراع طائفي على السلطة والحكم في سورية.
ماذا يشكل العلويون أو حتى كل الأقليات الأخرى في سورية في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام؟ إذا افترضنا أن الذين يعيشون في تلك المناطق يشكلون حاليًا ثلثي السكان، فهل هؤلاء الملايين من كل طوائف الشعب السوري وإثنياته كلهم قالب واحد في طرق عيشهم وأفكارهم وتوجهاتهم وموقفهم من الأزمة السورية، ويتبنون الآراء نفسها؟ كثيرون، بل الغالبية منهم، يعتبرون أنفسهم يعيشون ضمن سورية وضمن الدولة السورية من دون أدلجة الأمر، أو تحميله أفكارًا ومسوغات، ولا يهمهم في النتيجة أكثر من استمرار حياتهم، ولو بحدّها الأدنى، وهم غير معنيين بمن يأتي ومن يذهب، كما لو يصح بهم قول الشاعر: خليفة مات لم يحزنْ له أحد، وآخر قام لم يفرح به أحد .. ولكن أكثر ما يخيفهم هو التغيير، ولذلك يتمسكون بالوضع القائم مهما كانت قساوته.
لقد أظهرت السنوات المريرة الماضية، منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية، تدني الوعي الشعبي، خصوصا بالنسبة لمفهوم المواطنة، وانخفاض المستوى الثقافي، حتى بين حملة الشهادات العلمية، والشريحة الغالبة في المجتمع تنتمي إلى ذلك الصنف من الأفراد الذين لا يُضمرون الحد الأدنى من الاهتمام بالشأن العام أو بالقضايا السياسية. لذلك غالبا ما يكون فهم الواقع غالبًا مبنيًا على أسس ضيقة، فمنهم من يعتبر أن الأزمة التي تمر بها البلاد تُلقى مسؤوليتها على الدولة، والدولة في حالة حرب، والمطلوب حينها من الشعب تحمّل تبعاتها طالما هناك مؤامرةٌ تمر بها البلاد، ويدفع الوطن فاتورتها، وهناك من لا يعنيهم أكثر من أن تمشي أمور حياتهم بغض النظر عن الكيفية التي تدار بها الأمور، وهناك من يتابعون حياتهم لأن ليس لديهم خيار، وليس لديهم أفق لفهم ما يجري. ولا يمكن في المقابل غض الطرف أو نكران أن قسمًا أيضًا يعتبر النظام هو الضامن الوحيد لهم، إنْ لأسباب طائفية أو لأسباب تتعلق بالخوف من القادم، وهذا لا يقتصر على الطائفة العلوية فقط، بل إنه ينسحب على عديدين من أبناء الطوائف الأخرى، خصوصا أن الثورة المنشودة انزلقت إلى منحدراتٍ كبيرة وخطيرة، وكان الخطاب المسيطر هو العنفي الإقصائي، الواعد بحياة تضبطها وتنظمها المرجعية الدينية والشريعة المستمدة من الدين. ليس هذا فقط، بل إن المعارضة أظهرت فشلاً ذريعًا وسقوطًا أمام أحلام الشعب بالتغيير، عدا أن صراع المصالح والتدخل السافر في حياة البلاد والعباد صار على المكشوف، وصارت سورية مستباحة من عدة جيوش تدير حروبها على أرضها، وانقسام الكتل السياسية والعسكرية إلى ولاءات لها. أدّى هذا كله عند عديدين ممن كانوا مدفوعين عاطفيًا في البداية نحوها إلى انكفائهم وإصابتهم بخيبة كبيرة، وبالتالي، فإنهم صاروا يقولون، في دخيلتهم، بعد كل الخراب الذي حلّ بالوطن، كما قال الشاعر منذر مصري، وألب كثيرين ضده حينها: ليتها لم تكن، فكثيرون يتمنون أنها لم تكن قد حدثت، طالما أن كلفتها جاءت باهظة إلى هذا الحدّ. بلى، لقد أصاب اليأس السوريين الذين فتنتهم الثورة في البداية، واستبشروا خيرًا بانتفاضة الناس، ووصلوا إلى حدّ اليأس الجماعي.
بالعودة إلى فهم ما يجري في قمة الهرم السلطوي في سورية وشرحه على أساس أن للطائفة العلوية جسمًا صلبًا متماسكًا، نواته الراسخة الاصطفاف خلف النظام “العلوي”، كما جرى تكثيف هذه المقولة، وجعلها من الثوابت، مصحوبة بضخ إعلامي رهيب على مدى السنوات التسع الماضية، وحتى ما قبلها، فإن في تبسيط الأمور إلى هذا المستوى الخطير إهانة للشعب السوري الذي يجري مسخه في هذه الصورة المشوّهة لكرامته ووعيه، إذ صحيحٌ أن هناك المتطرفين والغلاة لدى كل الفئات والطوائف، ولكن الشعب السوري، حتى لو كان يعاني من انخفاض مستوى وعيه بالمواطنة، كناتج من ما مورس بحقه عقودا من تضييق على الفكر وكم الأفواه وتضليل بطرح شعارات برّاقة حول العلمانية والعدالة والاشتراكية والحقوق وغيرها، وفي الواقع يمارس عكسها نتيجة للفساد المتمكن من حياته، لو كان الشعب كذلك، فإنه في غالبيته يعيش الانتماء إلى الوطن بطريقةٍ فطرية، وعاش الحياة المشتركة بين مختلف مكوناته بسلام في ما مضى، على الرغم من كل معاناته. أمّا أن يكون هناك مرتزقة، فهذا أمر طبيعي في حالات الصراع من هذا النوع، خصوصا بعدما صار العيش أضيق من أن يُحتمل، وهذا ما نراه يزداد يومًا بعد يوم في كل المناطق في سورية، أعداد كبيرة ممن يحملون السلاح بعضهم في وجه بعضهم الآخر، لأن من يديرون الحرب وحدهم القادرون على دفع المال في هذه الفترة العصيبة، فصار حمل السلاح الضامن الوحيد لمصادر الدخل.
الأجدى بكل من يتبوأ مركزًا يؤهله للنهوض بالوعي العام أن يعمل على تعزيز المفاهيم التي يمكن أن تخدم مستقبلاً، وأولها مفهوم المواطنة التي من خلالها يعرف كل شخص حقوقه وواجباته، وأن دولة القانون والمؤسسات هي الضامن الوحيد لمستقبله ومستقبل أبنائه.
المصدر: العربي الجديد