لم يكن الناس عمومًا يعرفون ما تعنيه “متلازمة الهرس” التي شاع تداولها على الشاشات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والصحف، وغيرها، بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب سورية وتركيا في السادس من فبراير/ شباط الحالي، لكنها صارت الأكثر تداولًا ورعبًا في الوقت الحالي، صارت الخوف الذي يخطف ومضة الفرح بانتشال عزيزٍ من تحت الأنقاض حيًّا، يزيد من الرعب في احتمالية حدوثها معرفة الجميع بما تعاني منه المؤسّسات الصحية في سورية، في مختلف مناطقها، من القلّة والندرة في مجالات عديدة في الخدمة الصحية، بعد 12 سنة من الحرب التي أنهكت البلاد، فقبل الزلزال كانت مشكلات القطاع الصحي في ازدياد وتفاقم، وكانت الدولة في منطقة النظام، وسلطات الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرته، قد أظهرت عجزَها عن مواجهة وباء كوفيد الذي أودى بأعداد كبيرة من الأفراد، ومن بينهم أعداد كبيرة من الأطباء، خصوصا في الموجة الأولى التي كانت الأعنف، إضافة إلى أن عدد الأطباء في سورية كان قد أخذ بالتراجع منذ بدء الحرب، بين تهجير ولجوء وقتل واعتقال. وصار حلم الشباب منهم على أبواب تخرّجهم من الجامعات هو الهجرة لمتابعة الدراسة، وتأمين فرص عمل وعيش ومستقبل، بعيدا عن بلادٍ لم يعد فيها وجود للمستقبل، ما جعل الأرواح متأزّمة باطراد.
بشكلٍ عام، تنجم متلازمة الهرس، أو الانحلال العضلي، عن انضغاط طويل الأمد للعضلات الهيكلية في جسم الإنسان، خصوصا في الطرفين السفليين، بسبب وقوع ضغطٍ ثقيلٍ عليها مدة لا تتجاوز الساعة في بعض الأحيان، والأكيد أنها مرجّحة لأن تحدُث كلّما تطول مدة التعرّض لهذا الثقل. يؤدّي هذا الضغط إلى تلف الألياف العضلية، بسبب نقص التروية الدموية. وبالتالي، فإن مكوّنًا عضليًّا اسمه رابدوميوغلوبين ينطلق من هذه الألياف إلى الدورة الدموية، مع خروج أنزيم الكرياتين كيناز الذي يتوفر في العضلات لأهمية دوره في إنتاج الطاقة، وشاردة البوتاسيوم، بشكل أساسي، ويترافق غالبًا مع انخفاض الكالسيوم، ما يُدخل المريض في حالةٍ تحتاج تدبيرًا دقيقًا، تسمّى الحماض الاستقلابي، هذا كلّه يُرهق الكلى فتصبح غير قادرة على طرح هذه الكميات المتدفقة إلى الدم، عن طريق البول، فتترسّب جزيئات هذا البروتين في الأنابيب الكلوية، ويدخل المريض في حالة قصورٍ كليةٍ حادة تستوجب التنقية الدموية سريعًا، بينما أجهزة التنقية وخدماتها شحيحةُ بسبب ظروف الحرب وظروف الزلزال، وقلّة العنصر البشري المتخصّص. ولقد شاهدنا قصصا مؤلمة وحالات عديدة أدّى فيها البقاء طويلًا تحت الأنقاض الثقيلة إلى ظهور متلازمة الهرس لديها، كان من ضحيتها الطبيب السوري والأديب والشاعر المتميّز مصطفى عبد الفتاح، الذي بترت ساقه، وبعدها وافته المنية ملتحقا بابنتيه وزوجته، والطفلة السورية شام، التي تصرُخ من عمق وجعها، مع أخيها، وهي الطفلة التي لم تأخذ نصيبها من حقها الطبيعي في الحياة.
يثير مجرّد التسمية الهلع عند سامعيها، فالهرس هو الدٌقّ الشديد، وهو الطحن، وهو السحق، والسحل. كلّها مفرداتٌ تشير إلى قوة كبيرة لها القدرة على التحطيم والتفكيك والتفتيت، وهي كلمة متداولة كثيرًا في اللغة الدارجة، بمعناها الأدائي والمجازي، ومنها هرس الأرواح لدى الأحياء، وهرس النفوس، وهرس الضمائر والكبرياء والكرامة والطموح والحافز، والإرادة، وغيرها كثير من الفضاء النفسي والروحي والمعرفي والقيمي للإنسان، هذا الهرس تعاني منه المجتمعات الواقعة تحت نير الطغيان بكل أشكاله، فتكميم الأفواه هو استلاب وظيفة عضوية لدى الإنسان وحقّ من حقوقه، هو اعتداءٌ على الطبيعة البشرية، وهو قتلٌ للروح الاجتماعية التي هي حاجة لدى الكائن البشري، وسمةٌ تميّزه عن بقية الأنواع. وشلّ القدرة على التعبير هو نوع من قتل الروح الإبداعية، بالرغم من أن الدساتير تكفل هذا الحق “حرية الرأي والتعبير”، واستغلال قوّة العمل لقاء أجرٍ لا يؤمّن الاحتياجات الأساسية، إذا صرفنا النظر عن الرفاهية، للفرد. هو هرس وتبديد لقدراته، ونوع من العبوديّة، وخرق الدولة العقد المبرم بينها وبين الفرد، بحرمانه من الخدمات الأساسية وترك حياته في أماكن التجمّعات من مدن ومناطق وقرى، تعاني من التردّي في الخدمات الأساسية المخوّلة الدولة بها، وترك الناس يواجهون مشكلات الحياة بمفردهم، هو هرسٌ، بما ينجُم عنه من مشكلاتٍ قد تصبح كارثية، شهدنا قسمًا منها في الكوارث الطبيعية وجديدها أخيرا الزلزال، إذ انهارت بسببه البيوت والمرافق، التي تعاني، في الأساس، منذ وقتٍ طويل، مثالها شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، الذي وقعت في إحدى حفره المكشوفة، قبل أشهر، صبية في اللاذقية، وابتلعتها المياه قبل أن يتوفّر حبلٌ لإنقاذها، ضياع الحقوق في التقاضي بسبب فساد القضاء. هو هرس للنفوس، انعدام المساواة في الحقوق والواجبات، كما عرف المجتمع السوري سنوات طويلة، هو هرسٌ معنوي، فمن المعروف كم كانت الفرص تتاح بموجب المحسوبيات والرشاوى والقوّة أيضًا، على حساب أصحاب الكفاءات والجديرين. السلطوية في التعليم، ابتداءً من سطوة الأمن والقيادة الحزبية، إلى المنظمات الملحقة من طلائع “البعث” وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة، وصولًا إلى المناهج التعليمية التي تؤسّس لكوادر مستقبلية من أجيال فاقدة القدرة على الإبداع والمبادرة، بأسلوبٍ تربويٍّ قائم على التلقي ومحاربة التفكير، مع ربط الهدف والغاية بالشعارات الوطنية والقومية التي تشلّ التفكير خارج النسق المتاح، وكأن هذه الغايات منتهى الطموح الإنساني، هذا نوع من الهرس.
الانفتاح غير المسؤول والليبرالية غير المدروسة أو الموجّهة، وفتح الأسواق على منتجات العالم، من دون توفير قوة أو قدرة لدى الشعب للوصول إليها، هو نوعٌ من الهرس، اشتداد ضيق العيش على الناس، حتى في أوقات الاستقرار المزعوم، كان نوعًا من الهرس البطيء، ثم حرف الانتفاضة عن غاياتها، واستبدالها بحربٍ لا ترحم، وانحدار معيشة الأفراد إلى مستوىً يقارب الموت، هرس أيضًا.
يمكن تعداد الكثير الكثير من حالات الهرس البطيء أو المباشر، المُطبقة على أرواح الشعب السوري، وعقول أبنائه، من أنظمة الاستبداد التي لم تفكّ تحالفاتها يومًا، بدعم متبادل فيما بينها، كلّ بحسب أدوات قوّته، الديني، الاجتماعي، الاقتصادي، الأعراف، وغيرها، بمباركة ودعم من الحكومات المتلاحقة، في وقتٍ تدّعي فيه العلمانية، والديموقراطية، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات، وعدم التمييز، وتبنّي قضية المرأة، ودعم الأسرة، وما لا يمكن عدّه من الأوهام التي أُغرق الشعب بها، لتأتي الانتفاضة وما تلاها، وتكشف عن متلازمة الهرس الجماعي التي عطّلت الأجهزة الحيوية للمجتمعات السورية، وما يُدمي القلب ويُبكي الصدور، أن هذا الشعب المنتهك، قام من تحت ركامه وأوجاعه، ليسند بعضه بعضا في مواجهة تداعيات الزلزال، بينما أرواحه تُهرس أمام تداعي العالم أخلاقيًا، وتهافته لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 2011، بعد كل الأثمان التي دفعها، وإبقاء الأنظمة نفسها تتحكّم بمقادير الشعب وتدير حياته وتصنع سياساته وترسم مصيره. هذه هي متلازمة الهرس الفادحة التي تلوح في أفقه، والتي يصيبه بها إلقاء العالم بأنقاض أزماته فوقه، بعدما صارت مشكلته عبئًا عليه.
المصدر: العربي الجديد