“سريعًا هرع حزب الله لنجدة المنكوبين في سوريا، أعد القوافل وجهز الفرق الطبيّة، وببالغ النُبل والإيثار جمع المال والمساعدات العينية لنقلها إلى إخوانه السّوريين المنكوبين في المقلب الآخر من الحدود، متحديًا قانون قيصر والعقوبات الأميركية”. لعلها الافتتاحية الأبهى لأي نقاش سيخاض قريبًا، بعد أن ينشغل الرأي العام بكارثة جديدة تطمس معالم الخراب السّوري جراء الزلزال، سيتربص السوريون كما اللبنانيون طيف المِنّة لحزب الله مجددًا، حقبة جديدة من استكثار الإحسان ستغمر شعوب المنطقة على مثال ما أصابها في السنوات الإثني عشر الأخيرة. وعلى مثال الاستثمار السّياسي في الأزمات حدّ الوقاحة، وتخبط الشعوب المستمر في مستنقع الدول المارقة الآسن، تتحول كل كارثة وكل أزمة إلى فرصة استثنائية لاستعراض التضامن والمساندة وتوسيع النفوذ.. واللصوصية على حساب القتلى.
وفيما أشعل الزلزال العنيف، الذي ضرب المناطق في الجنوب التركيّ والشمال السّوري، في السّادس من الشهر الجاري، أوار الإشكالية التّي طالت توزيع المساعدات الإنسانية التّي تصل منذ سنوات إلى الشعب السّوري المنكوب بصورة غير عادلة وتفتقر إلى النزاهة، ووسط اتهامات لنظام الأسد والجماعات المؤيدة له كحزب الله، باستغلال هذه المساعدات لمراكمة ثرواته عبر الاستحواذ عليها، بينما تتدفق بصورة دورية آلاف الشهادات التّي تثبت تواطؤ النظام وحلفائه وزبائنيته الموصوفة، وخصوصاً في الكارثة الحالية، حيث فتحت سوق متاجرة بالمساعدات على مصراعيها وعلانيةً، بات السؤال عن مضامين الحملات التّي أطلقت تحت شعار “تحدي قانون قيصر” وأهدافها، سؤالاً مشروعًا وملّحًا.
قوافل حزب الله
ومع توافد الأنباء عن الكارثة الإنسانية التّي أعقبت الكارثة الطبيعية، أطلق حزب الله حملة إعلامية واسعة معطوفةً على مهرجان خطابي، أعلن فيه إطلاق حملة “رحماء” المؤلفة من عدّة قوافل مسيّرة ومحملة بالمساعدات العينية، انطلقت وستنطلق من لبنان رأسًا إلى المناطق المتضررة. هذه الحملة المقرونة بالشعارات الشعبوية، والتّي أبى حزب الله إلا أن يستهلها بتغطية إعلامية واسعة، انطوت في مضامينها على رسائل تتعدى الأهداف الإنسانية المزعومة. فمن جهة، يحاول حزب الله وعلى سيرته الدائمة، إثبات أنّه المنقذ الوحيد لشعوب المنطقة في الأزمات وعند المصائب، ومن جهة ثانية، استغل النكبة التّي لحقت بالسوريين لصالح توسيع نفوذه في المنطقة واستئناف تهريب مقاتليه وأسلحته والسلع عبر الحدود والمعابر التّي فُتحت أمام المساعدات اللبنانية، ناهيك بطلب مؤسسة القرض الحسن من المتبرعين لإغاثة متضرري الزلزال إيداع تبرعاتهم عندها، بينما تتولى هي إيصالها إلى المحتاجين. والمواكبة الإعلامية التّي لاحقت قوافل الحزب لم تكن هي نفسها التّي رافقت باقي القوافل التّي أطلقتها عدّة أحزاب وتيارات سياسية لبنانية ناهيك عن “المجتمع المدني”، المشترك بينها جميعًا أنه لم يتم الإشراف عليها من قبل الدولة اللبنانية.
وقد ادعى مسؤولو حزب الله أن هذه القوافل التّي وصلت إلى اللاذقية، مسقط رأس الأسد، فيما توجهت القافلة الثانية إلى حلب، هي تحدٍّ صريح وصارم لقانون قيصر والعقوبات التّي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية، وتحطيمًا لـ”المؤامرة” الخارجية و”الاستكبار” الامبريالي.. أقنع الحزب مناصريه أن المسؤول عن واقع السوريين اليوم هو “الخارج”، الذي يحاول عبر هذه الأزمة أن يستولي على “المناطق المحررة والآمنة”، وعليه تم نقل العشرات من الشبان الذي تتراوح أعمارهم بين 16 و25 إلى كل من إدلب وحلب بحجة الإغاثة، بينما أكدّت مصادر مطلعة لـ”المدن” في هذه المناطق، أن دورات قتال وانتشار واسع لعناصر حزب الله قد لوحظ بُعيد الزلزال. الأمر الذي تأكد لدى تواصل “المدن” مع أهل واحدٍ من هؤلاء الشبان، الذي توجه إلى إدلب مع مجموعة شبابية منتسبة إلى ما يُسمى “قطاع برج البراجنة”، على أن يقوم هؤلاء بدورة “مقاتل” هناك. وفيما عبّر والدا الشاب العشريني عن تخوفهما على حياة ابنهما خصوصاً في منطقة مهددة بخطر زلازل، أشار هؤلاء مرارًا في حديثهما مع “المدن” إلى أن الأراضي المنكوبة هي “مناطق إرهابيين وعلى حزب الله والنظام حمايتها وتحريرها. من دون أن يخفوا إرسالهم لابنهم طوعًا”.
وفي هذا السّياق، تواصلت “المدن” مع عائلة سورية تقطن في اللاذقية، وتحديدًا في منطقة جبلة. وقد أشارت هذه العائلة أن الزلازل التّي ضربت المنطقة، قد أحدثت أضرارًا جسيمة، وفي حين أن جزءاً من منزلهم قد تضرر واضطروا لإخلائه لم تصل إليهم أي مساعدات حتى الآن، بينما هناك عشرات العائلات المقربة من مسؤولين في منطقتهم بالكاد تضرروا، حصلوا على مساعدات بالرغم من ذلك. وفي سؤال أحد أفرادها عن قوافل حزب الله قالت بحرفيته: “وصلت لأقارب النظام وأصدقائهم، نحن ما بيوصلنا غير رحمة الله”.
الزلزال لفكّ عزلة سوريا؟
ولعل القول إن هذه القوافل التّي أرسلها حزب الله هي محاولة لصرف الشبهات عنه لغايات معينة تتجاوز الهدف الإنساني المزعوم لها، موارب في الوقت الحالي، إلا أن تاريخ الحزب يشهد ضدّه في هذا المجال، فانخراطه المباشر بالاقتتال السّوري، وجرّ لبنان مرغمًا نحو المزيد من العقوبات الأميركية عليه، والرقابة الفيديرالية على نظامه المالي والمصرفي، واختناق الاقتصاد اللبناني، من تبعات هذه العقوبات التي تستهدف الحزب، فيما تفشت تداعياتها في الجسم الاقتصادي والمصرفي مسهمًا بالانهيار الحالي. واستغلال الحزب لهذه الأزمات لاحقًا، لإرخاء المزيد من النفوذ والسّلطة، تارةً عبر استقدام مساعدات إيرانية وفتح متاجر (سجاد) أمام مناصريه، ولاحقًا الاستحواذ على المساعدات الدولية والبطاقات التموينية وتوزيعها على أعيانه وعناصره ومؤيديه، حيث يقوم حزب الله بتحويل مساعدات كانت قد خصصتها المنظمات الدولية لعامة الشعب، إلى قاعدته الشعبية، في محاولة لتهدئتها في ظل التبرم الحالي منه. فليس من المستعبد أن تتكرر هذه المشهدية اليوم في سوريا ولبنان.
“المساعدات الإنسانية”
وفيما قد يُحاجج البعض أن “الاستثمار السّياسي في الأزمات” ما هو إلا شائعة جديدة تتلطى وراءها المجموعات المعارضة في سوريا، لتشويه سمعة النظام والتشكيك في نواياه الخالصة لإغاثة المنكوبين جراء الزلازل.. فإن العديد من الآراء المؤيدة للنظام قد أكدّت أن البعض يستغل إحسان المتبرعين ومساعدات الدول للاستحواذ عليها من دون الإسهاب بالجهات والأسماء. وقد تحدث رواد التواصل الاجتماعي وفرق الإغاثة عن سرقة واضحة لشاحنات حملت مساعدات مكتوب عليها “غير مخصص للبيع” أو “برنامج الغذاء العالمي” وغيرها.. وباتت تُباع على امتداد سوريا، ودخل بعضها إلى الأراضي اللبناني شمالاً وفي البقاع، ورصد عدد منهم توزيع هذه المعونات على أساس القرابة والصلة بأعيان النظام السوري، وحُرم الآلاف من المحتاجين. فيما سجّلت حوادث مشابهة في المناطق المنكوبة جميعها.
وفي حين أشارت مصادر رسمية أن هناك حوالى عشر دول عربية قامت بإرسال مساعدات مالية وعينية إلى المنكوبين في سوريا، إلا أن مصيرها في سوريا بات موضع جدل، في ظل اتهامات لنظام بشار الأسد بسرقة الدعم الإنساني وإعادة بيعه بالأسواق المحلية، إضافة إلى عرقلة سلطات الأسد وصول المساعدات والفرق الإنسانية إلى مناطق الشمال السوري التابعة لسيطرة المعارضة، من خلال أراضيها، كما وتضييق الخناق على المتطوعين والفرق الطبيّة. وليست المرة الأولى التّي يشهد فيها السّكان مثل هذه التعديات، فوفقًا لتقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، العام الماضي، فإن المساعدات الإنسانية باتت المصدر الأساسي للعملة الصعبة بالنسبة للنظام السوري. بينما أفاد التقرير بأن الحكومات الغربية المانحة التزمت بتقديم 2.5 مليار دولار من المساعدات سنوياً منذ عام 2014 لمساعدة المحتاجين والمتضررين من الحرب في سوريا، لكن هذه المساعدات كانت تدعم الحكومة السورية في المقام الأول. فقد عمد النظام إلى التلاعب بسعر الصرف بهدف الحصول على نصيب من هذه المساعدات.
سوريا المتهاوية اليوم بعد الزلزال هي نفسها سوريا قبل الزلزال، أرض اليباب والموت المجاني والمستمر. وإن كانت الحديث عن نظام الأسد الإجرامي هو حديث مكرر ومألوف ومثل هذه التجاوزات ليست بالجديدة، فإن مأساة الشعب السوري بكافة أطيافه باتت في مراحل لا يمكن للمنطق أن يفسرها. أما مطامع حزب الله فلا تعدو سوى كونها تلبية لرغبات الأسد ومطامعه.
المصدر: المدن