تحت تأثير هذه الظروف التي تجعل الإنسان عرضة للإبادة تعاني “الأنا” فقدان القيم ويكافح الشخص لكي ينقذ احترامه لنفسه.
على عكس الحرب التي تجرعها السوريون جرعة تلو الأخرى، دهمهم الزلزال على حين غفلة وهم نائمون في مخادعهم، فكان بمثابة الصدمة التي نزلت عليهم من دون سابق إنذار.
آثار الصدمة ظهرت جلياً على عدد من منكوبي الزلزال الذين تحدثوا عن تجربتهم قبل سقوط بناياتهم بدقائق، فبدا أكثرهم شارداً قبل الكلام أو يتحدثون وكأنهم يروون حادثة تخص آخرين، أو بلغ بهم التأثر إلى درجة لا يستطيعون معها الكلام، بينما دخل آخرون في بكاء مرير ومنهم من نسي تفاصيل ما حدث معه.
فما هي الصدمة؟ وكيف تحرك الفرد والمجتمع؟ ولماذا احتاج السوريون إلى صدمة مهولة ليتحركوا باتجاه بعضهم بعضاً؟ وما المعنى الذي أضافه الزلزال إلى سوريا والسوريين كأفراد وإمكانات فاعلة في المجتمع؟ وهل فعلاً يملك الإنسان حرية يتفق من عاشوا لحظات الزلزال الأولى في سوريا وتركيا أنهم لم يستوعبوا ما الذي يحدث لهم، فالزلزال لم يحترم أجساداً ترتاح في مخادعها، باغتها كاللص وأيقظها من سباتها بطريقة أثارت الذعر وترك كثيرين في حال من الذهول والدهشة ولسان حالهم يقول، ما الذي يحدث؟ هل أنا في حلم أم يقظة؟ بينما يحذر العلماء من الاستيقاظ المفاجئ لأنه ربما يؤدي إلى حدوث اضطرابات عصبية وإدراكية وقد يصل الأمر إلى جلطة في المخ أو القلب.
يعرف سيغموند فرويد الصدمة بأنها “عبارة عن استثارة عنيفة تأتي من الخارج وتتعدى القدرات الدفاعية للأنا، وهذا لكونها تأتي في حال تكون الأنا فيها غير مستعدة للمواجهة”، والصدمة النفسية trauma مصطلح مأخوذ من اللغة اليونانية القديمة ويعني الجرح أو الإصابة، فربما يكون الجرح جسدياً أو يصيب النفس، لذلك يعتبر الشخص المصدوم في علم النفس “شخصاً ينزف”.
ويمكن أن لا تظهر آثار الصدمة على شكل الشخص الخارجي، بل تصيب المشاعر والفكر والطاقة، وربما يكون لديه نزف جسدي عبر المرض، فالحدث الذي حصل فجأة أصاب الجميع برهبة وخوف وأشعرهم بالخطر المباشر على حياتهم وحياة من يحبون.
كما يمكن أن تظهر اضطرابات ناتجة من الصدمة النفسية بأشكال متعددة، فيشعر المصدوم بالهلع والعجز وفقدان الأمل وتدور في ذهنه أفكار انتحارية، أو يلجأ إلى الإدمان على الكحوليات، وربما تصيبه حال عاطفية بانعدام الإحساس، إضافة إلى اضطرابات في التركيز والنوم وغيرها، مما يؤدي إلى عدد من الأمراض الجسدية لا تكتشف إلا بعد حين.
الصدمة فرصة
يقول المحلل والطبيب العقلي باريوس Barrios، “تعتبر الصدمة كانقطاع الروابط مع العالم ومواجهة اللامعقول وهو الموت، إنه هجوم قلق ومساس لوحدة الفرد وتوقف للمعنى”.
فالبشر دائماً يستبعدون فرضية الموت عنهم أو عن أحبتهم وبهذا يعتبر كثر من معلمي الوعي أنهم “متخلفون مشاعرياً” لأنهم كما الأديان يرون أن هذا الجسد ثوباً وعند الموت نرحل إلى عالم أفضل وأجمل، لذلك يعتقد كثيرون بأن الصدمة “فرصة” لأنها أكبر حافز لقفزة تغير مسار الشخص، على رغم كل ألمه وحزنه.
يقول رائد مدرسة العلاج النفسي الذي تعرض للسجن والتعذيب في معسكرات الاعتقال النازية خلال أربعينيات القرن الماضي الدكتور فيكتور فرانكل في كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى”، “لقد أصبح الواقع مظلماً وغدت كل الجهود والانفعالات متمركزة حول مهمة واحدة، هي المحافظة على الحياة، حياة الفرد ذاته ومن معه”، ويتابع، “من المفهوم في مثل هذه الحال من التوتر وما يصحبها من الشعور بالحاجة المستمرة إلى التركيز على بقاء الشخص حياً، يتقهقر الإنسان إلى مستوى حياة بدائي، حيث تصبح حياته تدور حول تلبية الحاجات الأساسية كالطعام والشراب”.
أما الحال الثانية التي ذكرها فرانكل وباتت متفشية في المجتمع السوري بشكل واضح، فهي عندما تحدث عن “الأنا والقيم”، فقال، “جرت التضحية بكل شيء من أجل حفاظ الشخص على حياته وحياة من يحب… وتحت تأثير هذه الظروف التي سلبت الإنسان إرادته وجعلته عرضة للإبادة، تعاني الأنا من فقدان القيم ويكافح الشخص لكي ينقذ احترامه لنفسه”.
وهنا يتساءل الدكتور فرانكل عند حديثه عن حرية الاختيار، “هل الإنسان هو النتاج العرضي لما يحدث معه من عوامل وظروف خارجية، ألا توجد حرية روحية في ما يتعلق بالسلوك الذي يتخذه الإنسان؟”، ليجيب، “الإنسان يستطيع أن يكون له اختياره لأفعاله وقد تكون ذات طبيعة بطولية وهي تثبت أن البلادة يمكن التغلب عليها وأن التهيج يمكن قمعه، فالإنسان بمقدوره أن يحتفظ ببقية من الحرية الروحية ومن استقلال العقل حتى في تلك الظروف المريعة من الضغط النفسي والمادي”.
جديرون بآلامهم
قال الكاتب الروسي دوستويفسكي ذات مرة، “يوجد شيء واحد فقط يروعني وهو ألا أكون جديراً بآلامي”، فالطريقة التي يحمل بها الإنسان آلامه تمثل إنجازاً داخلياً وهذه هي الحرية الروحية.
وكان رد فعل السوريين على الزلزال وما حدث خلاله وبعده لافتاً ومشجعاً، فعلى رغم ما يعيشونه من ترسبات الحرب وآثارها النفسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنهم وقفوا وقفة رجل واحد وبدأوا حملات التطوع بكل شيء من مأكل وملبس ومشرب وبيوت للسكن، كل بحسب استطاعته.
ولم يتوان كثيرون عن خدمة أبناء بلدهم في وقت كانوا يعيشون، كل لنفسه، بما يكفيه ويحاول الفرد أن يختزن ما استطاع إليه سبيلاً، وتحول معظمهم بين ليلة وضحاها إلى العطاء والمساعدة، فوجدوا في ما يفعلونه معنى لحياتهم.
المصدر: اندبندنت عربية