جمال الأتاسي المفكر

د. عبد الله حنا

الدكتور جمال الأتاسي المفكر البعثي ومن ثمّ الناصري ذو التوجه الإنساني، جمال الأتاسي هو أحد مشاهير الأطباء الذين أسهموا في صياغة المشروع النهضوي العربي في الربع الثالث من القرن العشرين. ولد جمال الأتاسي في حمص عام 1922, وتخرج من المعهد الطبي بدمشق عام 1947. ثم شدّ الرحال إلى فرنسا للتخصص وعاد عام 1950 بعد نيل شهادة في الطب النفسي. شدّت الحركة الوطنية الجماهيرية المتصاعدة في سورية في منتصف الثلاثينات الطالب جمال الأتاسي إلى العمل العام والانغماس في غمرة النضال الوطني. فجيل الطلاب في مرحلة النضال ضد الانتداب وفي العهود الأولى التي أعقبت الاستقلال كان يشعر، كما ذكر الأتاسي، أن له دوراً وأهدافاً وطنية قومية تتمثل في النضال ضد الاحتلال الأجنبي وتحقيق الوحدة العربية. وفي الوقت نفسه أخذت الفئات الأكثر وعياً من الطلاب تخطو خطوات متقدمة إلى الأمام باتجاه الأهداف الاجتماعية (الطبقية) المتداخلة مع الأهداف الوطنية.
كانت تحركات الكتلة الوطنية وعصبة العمل القومي الناشطتين في حمص تستحوذ على تفكير أكثرية الطلاب. ولكن الأتاسي لم يسر باتجاه هذين التجمعين أو باتجاه الحزب الشيوعي الناشئ بل سرعان ما تأثر في تجهيز دمشق بأساتذته ميشيل عفلق وصلاح البيطار الداعين إلى “الإحياء العربي” أو البعث فيما بعد. ثم التقى الأتاسي بزكي الأرسوزي وكان قريبا من حلقته.
ويلاحظ أن جمال الأتاسي المتوقد حماساً قومياً لم يكن شوفينياً متعصباً تعصباً أعمى لقوميته أو منغلقاً تجاه الحضارات الأخرى، فهو من الداعين في كل مناسبة إلى الانفتاح على معطيات الفكر الإنساني، ونلمس بداية هذا التوجه منذ وصوله إلى باريس عام 1947 للتخصص. فقد كتب في مخطوطه:
“وصلت باريس أي مدينة النور كما يقولون وكانت جدرانها مسودة قبل أن يبيضها عهد ديغول وواجهت صدمة الغرب والثقافة الغربية في باريس فما انكفأت بل انفتحت لها بكل عقلي بل وبقلبي أيضاً وأردت أن أعرف وأردت أن أتعلم…”.
وعلى الرغم من إدراك الأتاسي, كما كتب, “للظلم التاريخي الذي لحق بأمتنا والتواطؤ العالمي ضد أمتنا وعدم فهم الغرب لقضيتنا”, فإنه لم ينغلق ضد الغرب بصورة مطلقة كما جرى ويجري للكثيرين بل سعى فيما بعد لترجمة، ما يتفق مع أهدافه، من الإنتاج الفكري الإنساني الغربي من أجل دفع الأمة وتطويرها بالثقافة. فقد تابع عن كثب المذاهب الفكرية والإيديولوجيات المزدهرة بعد الحرب العالمية الثانية مثل الماركسية الأرثوذكسية و”المنحرفين عنها”، والوجودية على اختلاف مذاهبها، وكتب الأتاسي في مخطوطه يقول:
“ولقد انشدّ اهتمامي منذ ذلك الحين إلى كتابات جان بول سارتر ومواقفه، حتى السياسية منها، وتتبعت باهتمام محاولته ذلك العام (1948) مع عدد من المثقفين “الثوريين” غير الشيوعيين، إقامة حركة سياسية جديدة باسم “التجمع الديمقراطي الثوري”، الذي تطلع إلى أن يعبر عما سمي وقتها بالطريق الثالث، أي غير الطريق الرأسمالي الليبرالي وغير الطريق الاشتراكي الشيوعي، ولكنه ما لبث أن انفرط عقده”.
***
بعد عودته من باريس نشر الأتاسي مقالاً مطولاً في جريدة البعث اليومية عام 1950 تحت عنوان “اشتراكية أخلاقية”، كما كتب في مخطوطه، متأثراً فيه بكتابات هنري دومان “الماركسي الإصلاحي المنشق”.
عام 1956تولى الأتاسي التوجيه الفكري في جريدة البعث , وسعى مع عدد من رفاقه لدفع الحزب بالاتجاه الاشتراكي متأثراً بالفكر اليساري الفرنسي غير الشيوعي. حول هذا الموضوع كتب الأتاسي في مخطوطه: “ولقد ركزت اهتمامي في ثلاثة تيارات فكرية وإيديولوجية تقول بالتقدم والتغيير والثورة. وكان لمجلة أيسبري الفرنسية التي تعبر عن منهج مونييه الإنساني أو ما يسمى بالشخصانية خطوة أولى، وكذلك لاتجاه سارتر الوجودي وكتّاب مجلة الأزمنة الحديثة، وبعدهما للتيارات الماركسية المستقلة عن المذهب الرسمي السوفياتي، وأردت لفكرنا القومي أن ينفتح للتفاعل مع روح العصر والتيارات الحديثة”.
كما كتب الأتاسي في جريدة البعث عن نتائج المؤتمر العشرين تحت عنوان كبير “المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي يحدد وجهة نظر الشيوعية ومصيرها في العالم”. وقبل الأتاسي سار على المنهج نفسه نائب حماه البعثي عبد الكريم زهور، الذي دعا مثل الأتاسي إلى قيام تحالف بين القوى التقدمية العربية على نهج اشتراكي ديمقراطي عربي موحد، وفي هذا المجال التقى الأتاسي وزهور مع مفكرين ماركسيين خرجا أو (أُخرجا) من الحزب الشيوعي السوري, وهما الياس مرقص وياسين الحافظ.
ويذكر الأتاسي في مخطوطه أسباب هذه الردة والانكفاء والتراجع في حركة الشعوب. ويرى أن السنوات الأخيرة لم تكن سنوات عجاف بالنسبة للجميع فهي سنوات سمان بالنسبة للطبقات الجديدة “ولكنها عجاف بالنسبة للشعوب – وحركة الشعوب بالنسبة للأمة وقضية وحدة الأمة”. ولكن هذه النظرة التشاؤمية لدى الأتاسي وغيره بسبب توالي حركات السقوط تتخللها بوادر الأمل. وهذا واضح من جملة الأتاسي التالية: “ولكنني وأنا أتلمس بوادر حركة وعي يتعمم للمآلات التي وصلنا إليها والمخاطر المحدقة، لعل خيارات الشعوب تتجدد حركتها وهي تطالب بالديمراطية وتطالب بمواجهة التحديات وعدم الاستسلام”.
***
أصدر الأتاسي مجموعة من الكتب تأليفا أو ترجمة وفيما يلي أهم العناوين: “تاريخ الاشتراكية الأوروبية”.. “الاشتراكية بين ماضيها ومستقبلها”.. “المذهب المادي والثورة”.. “تفكير كارل ماركس: نقد الدين والفلسفة”.. “مسائل في النضال الاشتراكي”.. “مدخل إلى علم السياسة”.. “إطلالة على التجربة الثوريّة لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي”..
***
في 27 أيار 1962 ألقى الطبيب جمال الأتاسي العامل في مستشفى ابن سينا للأمراض العقلية كلمة في مهرجان أسبوع العلم الثالث تحت عنوان. “واقع الصحة العقلية في سورية”. ونقتطف من هذه المقالة المقاطع التالية:
– “علينا أن نهيئ للإنسان ظروفاً في المجتمع تحمي حريته، وتفسح له سبل السعادة…”.
– “وكان لا بد للإنسانية من ثورة اجتماعية وفكرية كبرى لتُخرجه من هذا الضياع… وكانت المجتمعات الأوروبية هي المهيأة لهذه الثورات…”.
– “إن المرض فينا في نفوسنا وفي مجتمعنا والكثير من رواسب عهود الجهل ما زالت تعشعش في أفكارنا وعاداتنا.. ولا بدّ من أن نكافح ما يعيش في نفوسنا وفي مجتمعنا من عُقد وأوهام وعصبيات… إن المجتمعات المتقدمة لم تصل إلى إنضاج تجربتها في هذا المجال، إلا بعد ثورات في المجتمع وثورات في الفكر والنفوس…”.
– “…. لنحرر إنسانيتنا، صحة نفوسنا، ونحافظ على كرامة الإنسان في مجتمعنا…
***
هذا غيض من فيض من نشاط جمال الأتاسي ودوره في حركة التحرر العربي . وبسبب ضيق المجال لن نتناول كيف انتقل الأتاسي سياسيا من البعث إلى الحركة الناصرية ومساعيه في السير نحو فكر متقدم…
وللسبب نفسه لن نعرّج على نشاط الأتاسي في الحركة الناصرية وقيادته للاتحاد الاشتراكي العربي وترؤسه للتجمع الوطني الديموقراطي المؤلف من خمسة أحزاب مطالبة بالتغيير السلمي الديموقراطي في “جمهورية الأسد”.

المصدر: موقع فينكس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى