نعم؛ نحن جميعاً في انتظار غودو، حتى يقصَّ لنا شريطَ موبيوس الذي نعيش في سجنه طوالَ حياتنا. خلاصةٌ تحتاجُ إلى شرح طويل حتى نفهمَ من هو غودو؟ وما هو شريط موبيوس؟ لنبدأ بغودو هذه الشخصيّةُ الغامضةُ الحاضرةُ أبداً، والغائبةُ أبداً، والتي لن تصل أبداً، رغم طول الانتظارِ وتكرارِ الوعود.
اثنان يقفان على المسرح لساعتين يناقشان أموراً فلسفيةً، في حوار لا تفهمُ منه الكثير، وفي النهاية تكتشف أنَّهما صديقان ينتظران شخصاً يُدعى غودو. بعد وقتٍ طويلٍ من عرض مسرحيّة صموئيل بيكيت (1906 – 1989) «في انتظار غودو» لأوّل مرّة في باريس قبل 70 عاماً (1953)، لا أحدَ عرف من هو غودو، وماذا يريد؟ أو ماذا يمثل؟ مجرّد شخصيّة الحاضر أبداً، والغائب أبداً، الذي لن يصل يوماً. الأكيد أنَّ المسرحيّة تعبّر بشكل أو بآخر عن حالة الضياعِ التي عاشتها الشعوب الأوروبيّة خلال مرحلة الحرب العالميّة الثانية، وما بعدها، وبحكم تجريدِ المسرحيةِ الشديد، والعنصريةِ الظاهرةِ فيها، فقد تعددتْ دائماً القراءاتُ الممكنةُ لها على الصُّعُدِ السيكولوجيّةِ والاجتماعيّةِ والسياسيّةِ والدينيّة، ولربَّما يفسّر هذا جزءاً من سرِّ نجاحِها.
وُصِفَتْ رائعة بيكيت بأنَّها «حققت استحالةً نظرية، فهذه مسرحيةٌ لا يحدث فيها شيءٌ، ومع ذلك تبقي الجماهيرُ ملتصقةً بمقاعدها»، ربَّما تضاءلت أهميّةُ «في انتظار غودو» بوصفها عملاً أدبيَّاً مسرحيّاً في القرن الحادي والعشرين، لكنَّ جوهرَ استشهادِنا هو في مفهوم انتظارِ البشرِ الدائمِ لشيء لا يأتي، وقد جسّدته المسرحيةُ بإبداع؛ لذلك ستبقى شخصية غودو حاضرةً ما بقي البشرُ حاضرين. يكفيك أن تراقب في مكان عام كيف يستمر الناس في مساءلة هواتفِهم كلَّ دقيقة، كأنَّهم بانتظار شيء ما؛ ومن هنا كان العنوان: ألسنا جميعَنا في انتظار غودو؟!!
في إحدى مسلسلات الدراما السورية التي تتحدث عن أحزمة الفقر، وما تجلبُه معها من انهيار للأخلاق، ومن تبدلات صارخة في عمق العلاقات الاجتماعية، أو تعويم ما كان دفيناً في أنفسنا تحت ألمِ الظلمِ والقهر الاجتماعي، كان يستوقفني في شارة المسلسل كلماتُ الأغنيةِ التي تقول: مستني عيش!! مستني موت!! نعم كانوا ينتظرون غودو، وما يزالون!!! ولكن، وقد استطعنا تعريفَكم على غودو، فما علاقته بشريط موبيوس؟
شريطُ موبيوس المتعارفُ عليه، هو أبسطُ شكلٍ هندسيٍّ في علم الطوبولوجيا (Topology). ويمكنُ صنعُ نموذجٍ منه بسهولة عن طريق أخذِ شريطٍ ورقيٍّ طويلٍ، ولصقِ طرفيه في حلقة بعد قلبِ أحدهما رأساً على عقب، حينها، ستكون الحركةُ على أحد الجانبين بلا نهاية، مع الانتقال المستمر إلى الجانب الآخر. بكلمات بسيطة، دون الخوض في الرياضيات، في شريط موبيوس يبدو لك أنَّك تغيّرُ الجانب الذي تتحرك عليه، لكنك مرة أخرى تعود إلى المكان نفسه. وهنا يكمن جوهر الحياة، فكلُّ شخصٍ على وجه الأرضِ يملك شريط موبيوس خاصٍّ به، وهو مجموعةٌ من حواجزه الفكريةِ التي لا يستطيع أن يتحرر منها طوالَ حياته، يستغرق شريط موبيوس حياتَك كلَّها حتى يتشكل، لكنَّه يصبح كالشرنقة التي تحكم حياتك وتصرفاتك وتقييمك لنفسك ولكل ما حولك.
نادراً هم من استطاعوا أن يقصوا شريط موبيوس الذي صنعه مزيجٌ عجيبٌ من تفاعل الإنسان مع ما حوله ومع قصة الحياة التي وجد نفسه حكماً بها عند ولادتِه في الزمان والمكان الذي لم يكن خيارَه. كان الناسُ دائماً يسألونني: لماذا تمدحُ الثورات، بينما نتائجَها الكارثيةَ تشاهدها بأم عينك؟!! الجواب ببساطة: لأنَّها مزَّقت في طريقها شريط موبيوس، ولم تنتظر غودو!!
في التاريخ يمكن أن نتذكر من هؤلاء الذين استطاعوا أن يقصوا شريط موبيوس؛ أبا أيوبَ سليمانَ بنَ عبدِ الملك الذي ولَّى على المسلمين عمرَ بنَ عبدِ العزيز على عكس المتعارف عليه، ومالكوم إكس الذي خالف جماعته؛ لأنَّهم انحرفوا عن الحق، وعلى رأس البشرِ يأتي الأنبياءُ والرسلُ وعلى رأسهم يأتي سيدُ الخلقِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
من أشد ما استوقفني في علاقة غودو بشريط موبيوس، هو حالُ المسلمين اليوم، وهم ينتظرون التأييد الإلهيَّ لهم تحت عناوين كثيرة، يأتي على رأسها استشهادُهم بآيات المستضعفين في الأرض الذين ينتظرون معجزة الله -التي لا نشكُّ بها أبداً -في قلب الموازين: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ”(القصص-5)، لكن في شريط موبيوس الخاصِّ بالمسلمين، لم يُطرحِ السؤالُ التالي: وهل نحن فعلاً مستضعفون، أم أننا حقيقةً جبارون؟ لا تستعجلوا الإجابة، بل تأملوا بها: فربما نجد نازحاً في خيمة لجوء، كان ومازال جباراً ظالماً لمن هم أضعفُ منه مثلُ زوجته وأولاده!! فهل ينطبق عليه وعدُ الله؟!
قصُّ شريط موبيوس هو الثورةُ الحقيقية التي ننادي بها، وليس استبدالَ شريط موبيوس بآخر أو انتظار غودو الذي لن يأتي أبداً…