احتدم النقاش الجديد القديم حول القبلية في موريتانيا إثر عرض صور لعلماء موريتانيين في ساحة الحرية بوسط العاصمة نواكشوط. وكُتبت أسماء قبائل العلماء بشكل واضح على واجهات زينت الساحة التي تقع بين القصر الرئاسي والبرلمان الموريتاني.
الصور التي سببت الكثير من النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي وفى المجال العام الموريتاني جاءت بمبادرة من جهة نواكشوط بمناسبة الاحتفال بها عاصمة للثقافة الإسلامية 2023 الذي منحته الإيسيسكو للعاصمة الموريتانية هذا العام.
تقليد ثقافي
لم يستوعب منتقدو فكرة كتابة أسماء قبائل العلماء على واجهات ساحة الحرية الرسالة التي أراد منظمو الحفل إيصالها، وقدم الفريق الذي شجب الخطوة مسوغاته اعتماداً على روح المدنية التي تنفي صفة القبيلة في زمن الدولة.
ويرجع الباحث عالي الدمين سبب اعتماد أسماء القبائل للتعريف بالعلماء بقوله “إنه ليست هناك مؤسسة حديثة لإنتاج العلماء في موريتانيا. فما يوجد فقط لإنتاج هذه الفئة التي تحتل مكانة اجتماعية ورمزية كبرى في البلاد هو المدارس الأهلية التقليدية المعروفة محلياً بـ(المحظرة). وبالتالي فإن صيغة تعريف وتقديم هؤلاء العلماء، بالنظر لخلفيتهم المحظرية، تتضمن دائماً انتماءهم الأهلي أو القبلي. ويعد هذا الأمر تقليداً ثقافياً مورس طيلة ثلاثة قرون تقريباً في تاريخ المجتمع الموريتاني”.
ويضيف الدمين “أن انزعاج البعض من هذا النمط من التعريف، في المجال الثقافي الموريتاني، هو إساءة فهم في الأساس، بيد أنها إساءة فهمٍ مركبة. من جهة إساءة فهمٍ لفكرة المجال العام، ومن جهة أخرى إساءة فهمٍ لنظام تكوين وإنتاج العلماء وما يقترن به من رموز وعلامات في المجتمع. وأنا اعتقد أنه قبل الانزعاج المبني على سوء فهم أراه خطيراً يجب أن نتساءل بكل جدية: كيف يمكن أن نحتفي بهؤلاء العلماء في فعالية ثقافية كبرى من دون الاحتفاء بالخلفية الثقافية التي جعلت منهم علماء؟”.
يخشى منتقدو الفكرة التي أقدمت عليها السلطات من انكفاء فكرة الدولة التي عرفها الموريتانيون متأخراً، بينما يرى أنصارها أن تعريف الأشخاص بقبائلهم هو عرف اجتماعي عادي لا ينطوي على اختلاف مع فكرة الدولة.
وعن ارتباط المسألة القبلية فى موريتانيا بالحديث عن انكفاء فكرة الدولة المركزية يرى الباحث سيدينا سيداتي أن “موريتانيا كمجتمع تقليدي تعتبر السلطة المركزية أمراً جديداً عليها نسبياً، وما زالت القبلية متحكمة بشكل كبير رغم مرور 6 عقود على قيام الدولة، وعليه فإن أي نوع من أنواع التمجيد للقبيلة والتذكير بها يعتبر خطراً على فكرة الدولة التي لم تترسخ بعد بالقدر الكافي”.
ويرى سيداتي أن “أسباب انزعاج البعض بتعريف العلماء عن طريق قبائلهم ربما يعود لاعتبارين أولهما لأنه نوع من تكريس القبلية والتذكير بها، وهذا ما يتناقض مع مشروع الدولة الوطنية. والثاني لأن هذا التعريف جاء في سياق الاحتفاء بنواكشوط عاصمة الثقافة الإسلامية، ومدينة نواكشوط كما هو معلوم عاصمة الدولة الوطنية وواجهة الحداثة في البلد. فكيف يتم الاحتفال بها بذكر القبائل والبنى المنافية للمدينة والمدنية؟”.
القبيلة في زمن الدولة
تتداخل الحدود بين القبيلة والدولة في موريتانيا بشكل كبير؛ تداخل يؤرق نخبة البلد الذي يتشكل من فسيفساء عصبية مترابطة بشكل قبلي واضح. وتقفز مسألة الحدود الفاصلة بين القبيلة والدولة في موريتانيا دائماً لواجهة النقاش مع كل موسم انتخابي أو رهان ديمقراطي.
ويحدد الباحث سيداتي المجال الذي يجب أن تظل فيه القبيلة بقوله “هو العلاقات الاجتماعية الضيقة بين الأقارب الذي يدخل فيه بعض القيم التي ينص عليها الإسلام من صلة الرحم والتعاون على الخير ومساعدة المحتاجين، وغير ذلك فإنه يشكل عائقاً أمام قيام دولة العدل والمساواة، بمعناها الحديث على الأقل”.
بينما يرى الاجتماعي عبد الله الزين أنه لا وجه للمقارنة بين القبيلة والدولة ويطالب “بإحداث قطيعة مع زمن القبيلة والاستثمار في الدولة ومحاولة بناء دولة وطنية بشكل فعلى وملموس، وذلك بالاستثمار في قيم العدالة والحق والمواطنة وثقافة التمدن والحرية الفردية المسؤولة”.
عداء أيديولوجي
ظلت العلاقة بين الدولة والقبيلة مثار لبس للمواطن العادي، فهي قريبة من الدولة حين تكون المصلحة تقتضي ذلك، وبعيدة عنها حين يكون خطاب المواطن هو المهيمن على النظام السياسي الذي يحكم.
وحول هذه العلاقة المربكة يرى الباحث عالي الدمين أن “الدولة الوطنية في موريتانيا سعت إلى إظهار نوعٍ من العداء الأيديولوجي للقبيلة. فبواسطة الدعاية السياسية والإعلامية رُسخ في الأذهانِ أن للقبيلة مجالها الخاص بها، وللدولة أيضاً مجالها الخاص بها. وقد انطوت هذه التفرقة على نوعٍ من التنافر البنيوي بين المجالين، وعدم الندية. فمجال الدولة يظل هو المجال الشرعي والسلطوي الذي يجب أن يستوعب مجال القبيلة ويحدد مساحات تفاعله وتنظيمه واشتغاله”.
ويضيف “أنه في خضم الدعاية ضد القبيلة وعدم التصالح معها، كانت القبيلة تُصنع سياسياً وثقافياً وإدارياً على نحوٍ لم يسبق”.
ويصل الدمين الى أن “حضور القبيلة ظل نشيطاً في الفاعليات السياسية ومساحات الصراع الانتخابي والمناصب الإدارية والسياسية. والذي اختلف نوعاً ما هو أنه بدلاً من أن تنشط بمعزلٍ عن الدولة وفي منافسة لها، نشطت في ظل سيطرتها ورعايتها وعلى النحو الذي يخدم الدولة أيضاً”.
ويعتبر “أن الدولة الوطنية مضت قدماً في اختراع القبيلة الذي بدأه الاستعمار. ومنذ تلك اللحظة أصبحنا أمام القبيلة، لا ككيان ثقافي واجتماعي تقليدي، وإنما ككيان سياسي واع برهاناته ومصالحه وأدواره في ظل الدولة”.
المصدر: اندبندنت عربية