شكل اجتياح روسيا لأوكرانيا لحظة فارقة ونقطة تحول في مجال الاستخبارات. وعلى مدى أسابيع قبل ابتداء القصف نشرت واشنطن على الملأ سيلاً من تفاصيل استنتاجات مهمة تتعلق بكل شيء، بدءاً من تحركات الجنود الروس وصولاً إلى ترتيب هجمات مصطنعة ليستخدمها الكرملين لتبرير اجتياحه الأراضي الأوكرانية.
استراتيجية الإفشاء هذه بدت جديدة. إذ إن وكالات الاستخبارات معتادة على حجب المعلومات لا على الكشف عنها. بيد أن أسلوب الإفشاء الآن جاء بالغ الفاعلية. فعن طريق نشر الحقائق قبل قيام الروس بتأليف الأكاذيب تمكنت الولايات المتحدة من حشد الحلفاء وتنسيق عقوبات قاسية ضد روسيا وفرضها عليها. لقد أدى إفشاء المعلومات الاستخبارية إلى وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حال قلق، متسائلاً عمن يمكن أن يكون في دائرة الأشخاص حوله وفي حكومته قد تعرض لاختراق عميق من قبل الاستخبارات الأميركية، وهذا صعب على البلدان الأخرى الاحتماء خلف أكاذيب بوتين والوقوف مع روسيا.
سياسة الإفشاء تلك لم تكن سوى البداية. فالحرب (الروسية في أوكرانيا) آذنت بحقبة جديدة من التبادلات الاستخبارية بين أوكرانيا والولايات المتحدة وحلفاء وشركاء آخرين، وهي تبادلات أسهمت في التصدي للسرديات الروسية المضللة، والدفاع عن الأنظمة الرقمية بمواجهة الهجمات السيبرانية، كما ساعدت القوات الأوكرانية في مهاجمة الأهداف الروسية على أرض المعركة. وقد سلطت استراتيجية الإفشاء هذه الضوء على واقع جديد وعميق مفاده بأن المعلومات الاستخبارية لم تعد بعد اليوم مخصصة فقط لوكالات التجسس الحكومية.
على مدى السنة الماضية تتبع مواطنون عاديون وجماعات مختلفة ما تخطط له روسيا وما تفعله وذلك على نحو لم يكن بالإمكان تخيله في نزاعات سابقة. وقام الصحافيون بتغطية مستجدات الجبهة وتطوراتها مستخدمين صوراً من منصات أقمار اصطناعية تجارية. وراح مسؤولون حكوميون وعسكريون سابقون يراقبون وقائع يومية على الأرض ويقدمون على منصة “تويتر” تحليلات استشرافية تتعلق بمآلات الحرب وتطوراتها. وعمل فريق من الطلبة المتطوعين من جامعة ستانفورد، رأسته المحللة العسكرية السابقة في الجيش الأميركي والمتخصصة في دراسة الصور من مصادر مفتوحة أليسون بوشيوني، على إعداد تقارير متخصصة وتقديمها للأمم المتحدة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والفظائع التي ترتكبها روسيا في أوكرانيا – فقاموا بكشف وإثبات وقائع محددة، عبر استخدام صور أقمار اصطناعية تجارية اعتمدت تقنيات التصوير الحراري، والتوجيه البصري – الإلكتروني، وفيديوهات “تيك توك”، وأدوات تحديد الموقع الجغرافي، وغيرها من الوسائل والتقنيات. حتى أن باحثين يعملون في “معهد دراسات الحرب” Institute for the Study of War قاموا بابتكار خريطة تفاعلية للنزاع تستند كلياً إلى معلومات وتقارير استخبارية غير سرية ومستلة من مصادر مفتوحة (أي متاحة عبر الانترنت لعموم المستخدمين).
والمستجدات التكنولوجية تعتبر أساسية في هذه التطورات. إذ في نهاية المطاف من مكن المدنيين من تحصيل وتحليل ونشر المعلومات الاستخبارية، هو الإنترنت، ومنصات التواصل الاجتماعي، والأقمار الاصطناعية، والتحليلات الآلية، وغيرها من الابتكارات الثورية. لكن على رغم مساهمة التكنولوجيات الجديدة في تسليط الضوء على التحركات والأنشطة العسكرية الروسية، إلا أن فعاليتها بقيت بعيدة من أن تكون إيجابية على الدوام وفي كل مكان. إذ بالنسبة إلى الوكالات الاستخبارية الـ18 التي تشكل القوة الاستخبارية للولايات المتحدة فإن التكنولوجيات الجديدة تخلق مزيداً من المخاطر والتهديدات وبمعدل أسرع بكثير من السابق. فهي على نحو دراماتيكي تزيد من كمية المعلومات التي ينبغي للمحللين التعامل معها. كما أنها تمنح الشركات والمواطنين الأفراد حاجة مستجدة للحصول على المعلومات الاستخبارية، فيتمكنوا من حماية مصالح البلاد. وتقوم التكنولوجيات المبتكرة بإتاحة قدرات وإمكانات استخبارية جديدة للمنظمات والأفراد خارج نطاق الحكومة الأميركية، على أنها تتيحها كذلك لمزيد من البلدان الأخرى.
هذه التحولات تحصل وتتشكل على مدى أعوام، ويعمل القادة الاستخباريون جاهدين لتبنيها واعتمادها. بيد أن التنبؤ بالمستقبل في الحقبة التكنولوجية الجديدة يتطلب ما هو أكثر. وعلى واشنطن القيام بتغييرات شاملة كي تفهم التكنولوجيات المستجدة وتستفيد منها. عليها بالتحديد أن تفكر بجدية في ابتكار وكالة جديدة مكرسة للمعلومات الاستخبارية المستقاة من مصادر مفتوحة. وإلا فإن القوة الاستخبارية الأميركية ستتراجع، ويغدو الأميركيون أكثر عرضة لمفاجآت كارثية.
عالم جديد جسور
عندما تأسست “وكالة الاستخبارات المركزية” (سي آي أي) سنة 1947 كان العالم يحيا فترة غير مستقرة وخطرة. انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بيد أن الجيش السوفياتي كان سلفاً يهدد أوروبا. وكانت الأنظمة القمعية في حال صعود، والديموقراطيات مرهقة وضعيفة، والنظام العالمي منقسم بين بلدان حرة وأخرى غير ليبرالية. ووسط حال اللايقين والقلق المحتدمة، دعيت الولايات المتحدة لقيادة نظام عالمي جديد. ورأى صناع السياسة الأميركيون أن بلادهم بحاجة إلى قدرات جديدة للاضطلاع بهذا الدور، من بينها قدرات أفضل في مجال الاستخبارات. فرؤوا أن مركز الاستخبارات ضمن وكالة جديدة ستساهم في تأمين المعلومات المتعلقة بالمستقبل في الوقت المناسب، وذلك لتلافي حصول (هجوم) “بيرل هاربر” جديد وبغية تحقيق النصر في الحرب الباردة.
في نواح عديدة يبدو الحاضر الآن مشابهاً على نحو مخيف لتلك السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية. فقد عدنا ثانية إلى عالم “الكلاب التي تلتهم بعضها بعضاً”، حيث تستخدم الدول المتمكنة قوتها الغاشمة للحصول على ما تريد. ويقوم زعيم متسلط في موسكو باجتياح جيرانه مهدداً، مرة أخرى، أوروبا بأسرها. ومن جديد تبدو الديموقراطيات في حال هشة. فالولايات المتحدة وحلفاؤها يخوضون “سباق قوى عظمى” مستجد هذه المرة بمواجهة الصين، البلد الذي يبدو صعوده، مع كل يوم جديد، أقل سلمية من ذي قبل، وذلك إثر الحملة التي جردها ضد الحريات في هونغ كونغ، والخطاب العدائي الذي يطلقه عن استعادة تايوان، والتدريبات العسكرية الاستفزازية التي يجريها حول الجزيرة. وحتى الماركسية – اللينينة تعود إلى الظهور. ففي المؤتمر الـ20 المنسق بدقة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم، كان الرئيس شي جينبينغ واضحاً في كلامه أمام مسؤولي الحزب قائلاً إن العقيدة والولاء الشخصي هما أكثر أهمية من استمرار تحرير الاقتصاد. وإن كان هناك من لم ينتبه لهذه الرسالة، فقد جرى إخراج سلف جي، الرئيس السابق ذو التوجه الإصلاحي هو جينتاو، من مقعده واقتيد إلى خارج الاجتماع الحزبي العام بأسلوب مخزي وعلى الملأ أمام الصحافة.
لكن المظاهر يمكن أن تخدع. إذ بفضل الابتكارات التكنولوجية تختلف تحديات اليوم اختلافاً كبيراً عن التحديات التي كانت مطروحة بفترة ما بعد الحرب (العالمية الثانية). فالتكنولوجيات المستجدة تبدل الأحوال على كوكبنا بطريقة غير مسبوقة وبسرعة غير معهودة. وتقوم الابتكارات بمجموعها في جعل العالم أكثر تداخلاً، مبدلة مقومات التمايز الجيوسياسي وسماته بطرق جذرية. وعلى نحو متزايد تمثل التكنولوجيات والمعلومات الجديدة مصادر أساسية للقوة الوطنية، وهي أمور معنوية وغير ملموسة، ويصعب معاينتها وفهمها، وغالباً ما تبتكر وتدار من قبل شركات، وليس من قبل الحكومات. ومن المرجح بالنسبة إلى “سي آي اي” وغيرها من وكالات الاستخبارات أن يكون فهم المخاطر الجيوسياسية وديناميات القرن الـ21 مهمة أصعب من مهماتهم التي كانت مطروحة في القرن الـ20.
لنفكر بمسألة الإنترنت مثلاً. ففي أواسط التسعينيات كان أقل من واحد في المئة من سكان العالم متصلين بالشبكة العالمية. هذا معدل اليوم إلى 66 في المئة من سكان الأرض، من أقاصي القطب الشمالي إلى خيام البدو في الصحراء. في السنوات الثلاث الماضية وحدها انضم أكثر من مليار شخص إضافي إلى الشبكة العالمية. ظاهرة الترابط والتواصل هذه قامت سلفاً بتبديل السياسات العالمية للأفضل وللأسوء. لقد أججت منصات التواصل الاجتماعي التظاهرات ضد الأنظمة الاستبدادية، مثل ما حصل مع الربيع العربي ومع “حركة المظلات” في هونغ كونغ. بيد أن تلك المنصات قامت أيضاً بتعزيز المراقبة التكنولوجية الحكومية التي مارستها بكين بالدرجة الأولى، وأتاحت المجال أمام عمليات التضليل المعلوماتية الواسعة التي أطلقتها روسيا للتأثير في انتخابات وتقويض ديموقراطيات من داخلها.
والترابط الرقمي لا يشكل التكنولوجيا الوحيدة التي تضع النظام العالمي اليوم أمام احتمالات مفتوحة. فالذكاء الاصطناعي يقوم بزعزعة كل قطاع تقريباً – من الطب إلى قطاع النقل البري – لدرجة أن أحد الخبراء يشير مقدراً إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يقضي على نحو 40 في المئة من الوظائف والأعمال في العالم خلال السنوات الـ25 المقبلة. ويبدل الذكاء الاصطناعي طريقة خوض الحروب، فيشغل كل شيء آلياً، بدءاً من اللوجستيات وصولاً إلى الدفاعات السيبرانية. حتى أنه يتيح للدول إمكانية بناء طائرات حربية من دون طيار يمكنها إرباك الدفاعات بأسرابها، والمناورة على نحو أسرع وأمهر مما يمكن أن يفعله الطيارون. وهذا يجعلنا نفهم أكثر سبب قول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن من يتصدر أنشطة تطوير الذكاء الاصطناعي “سيغدو حاكم العالم”. والصين بدورها لا تخفي خططها الهادفة إلى أن تغدو زعيمة الذكاء الاصطناعي في العالم بحلول عام 2030.
وتقوم التطورات التكنولوجية الثورية أيضاً بتسهيل مهمات أي طرف – بما في ذلك الدول الضعيفة والجماعات الإرهابية – للكشف من الفضاء عن تطورات ميدانية تحصل على الأرض. إذ إن قدرات الأقمار الاصطناعية التجارية تزايدت على نحو دراماتيكي، متيحة عيوناً من السماء لكل من يطلبها. وقد تزايدت مهمات إطلاق الأقمار الاصطناعية بين عامي 2016 و2018 بمعدل تجاوز الضعف، والآن هناك أكثر من خمسة آلاف قمر اصطناعي يدور حول الأرض، وبعضها لا يزيد حجمه على رغيف خبز. والقدرات الاستشعارية لهذه الأقمار الاصطناعية التجارية تبقى أقل تطوراً من قدرات مثيلاتها المخصصة للتجسس، إلا أن التكنولوجيات المدنية بدورها تتطور بسرعة. ويتمتع بعض الأقمار الاصطناعية التجارية الآن بوضوح ودقة في صوره الملتقطة لدرجة يمكن عبرها رصد حفر محددة على اليابسة، وأغطية البالوعات، والإشارات واللافتات، وحتى أحوال الطرق. وبعض آخر من هذه الأقمار التجارية لديه القدرة على الكشف عن انبعاثات الترددات الراديوية، ورصد حركة الآليات وأعمدة التبريد النووي؛ والعمل في الليل، وفي ظل طقس غائم، أو عبر مناطق مموهة، ذات غطاء نباتي كثيف. ويمكن لمجموعات من الأقمار الاصطناعية الصغيرة أن ترصد الموقع ذاته مرات عديدة في النهار لمراقبة التغيرات الحاصلة بفترات قصيرة – الأمر الذي كان في السابق مستحيلاً. هذه التطورات جميعها تساهم في تهيئة وتمهيد ساحة اللعب الاستخبارية، وليس بطريقة جيدة على الدوام. إذ في سنة 2020 مثلاً استخدمت إيران صور أقمار اصطناعية تجارية لمراقبة القوات الأميركية في العراق قبل تنفيذها هجوماً بصواريخ باليستية جرح أكثر من 100 شخص.
تطورات تكنولوجية أخرى لها انعكاسات في سياق الأمن القومي تتضمن “الحوسبة الكمية” quantum computing، التي يمكنها في نهاية المطاف أن تفك الرموز التشفيرية التي تحمي جميع معلومات العالم تقريباً، الأمر الذي يجعل المعلومات بالغة السرية متاحة أمام الأطراف المعادية. وتساهم البيولوجيا التركيبية من جهتها في تمكين العلماء من هندسة الكائنات الحية، ممهدة الطريق أمام ما يمكن أن يكون تطورات ثورية في إنتاج الغذاء، والأدوية، وفي حفظ المعلومات، وأسلحة الحرب.
فهم إمكانيات ومخاطر هذه التكنولوجيات الجديدة يمثل مهمة استخبارية أساسية. فالحكومة الأميركية تحتاج إلى معرفة من يتهيأ للفوز بمنافسات تكنولوجية أساسية، وفهم طبيعة الآثار المترتبة من ذلك. عليها أن تقيم الشكل المستقبلي الذي ستخاض الحروب عبره وينتصر بها من خلاله. عليها أن تدرك الطريقة التي يمكن للتكنولوجيات الجديدة عبرها أن تواجه تحديات عالمية مثل التحول المناخي. كما إنها تحتاج إلى معرفة الطريقة التي سيعتمدها الخصوم لاستخدام المعلومات والأدوات التكنولوجية للضغط على أعدائهم، وارتكاب الفظائع، والالتفاف على العقوبات، وتطوير أسلحة خطرة، وتأمين مكتسبات ومزايا أخرى.
بيد أن التعامل مع هذه المسائل المهمة يغدو أصعب مع الوقت لأن مجال الابتكار تغير وتوسع، وذاك زاد من صعوبة تعقب الابتكارات وفهمها. ابتكارات ثورية مثل الإنترنت والـ”جي بي أس” (نظام التموضع العالمي) اخترعت في الماضي على يد وكالات حكومية أميركية، وجرى في ما بعد إنتاجها تجارياً من قبل القطاع الخاص. معظم الابتكارات التي اتصلت بالأمن القومي لم يحظ بجانب تجاري، فأمكن تصنيفه فور ظهوره، وحظره إلى الأبد لو اقتضى الأمر. اليوم الآية انقلبت. فقد بات أكثر ترجيحاً أن تأتي الابتكارات التكنولوجية “مزدوجة الاستخدام”، أي أن يكون لها تطبيقات تجارية وعسكرية على السواء. كذلك فإنه من المرجح أكثر أن يكون القطاع الخاص هو من يأتي بهذه الابتكارات، التي تمول من قبل مستثمرين أجانب وتطور على يد عمالة متعددة الجنسيات، وتباع لزبائن دوليين في القطاعين الخاص والعام على حد سواء.
والابتكارات التي تولد في القطاع الخاص تكون متوفرة على نحو أوسع، ولا تحظر أو تحجب من التداول بسهولة. لقد غدت (ابتكارات) الذكاء الاصطناعي، مثلاً، منتشرة جداً وبديهية وسهلة الاستخدام لدرجة أن طلاب المدارس الثانوية، ومن دون أن يكون لديهم معرفة بالتشفير، يمكنهم صناعة فيديوهات مزيفة عبر الذكاء الاصطناعي ومقاطع مصورة متحكم بها تظهر أشخاصاً يقولون ويفعلون أشياء لم يتفوهوا بها أو يقومون بها أبداً في الواقع. وفي مارس (آذار) 2022 نشر أحد الأشخاص فيديو مزوراً يظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي يطلب من الجنود الأوكرانيين إلقاء أسلحتهم. وفي واقعة أحدث جرى استخدام فيديوهات مزورة تنتحل مايكل ماكفول، السفير الأسبق للولايات المتحدة لدى روسيا، كي توقع بالمسؤولين الأوكرانيين، فيفصحوا عن معلومات تتعلق بجهود الحرب. وقد انتشرت على نحو واسع مقاطع ماكفول المزورة لدرجة اضطر معها ماكفول الحقيقي إلى التغريد على “تويتر” محذراً الناس من الوقوع ضحية ما سماه “السلاح الحربي الروسي الجديد”.
ويمنح هذا التحول في مجال الابتكارات قادة القطاع الخاص سلطة جديدة، كما يطرح أمام المسؤولين عن الأمن القومي تحديات تولد من اللحظة الراهنة. وبهذا يمكن القول إن القوة لا تشهد تحولاً فقط في الخارج، بل تتحول أيضاً في الجبهة الداخلية. ومنصات التواصل الاجتماعي الأميركية تجد نفسها اليوم في الخطوط الأمامية لحرب المعلومات، فتقرر ما هو حقيقي وما هو مزيف، وأي خطاب يسمح به وأي خطاب يحظر. ويقوم مؤسسو الشركات الناشئة بابتكار قدرات يمكن استخدامها من قبل أعداء لا يمكن توقعهم، وذات عواقب يستحيل التحكم بها. في المقابل تجهد كل من سلطتي الدفاع والاستخبارات في الولايات المتحدة لاعتماد وتبني تكنولوجيات حساسة جديدة من الخارج، والتحرك تماشياً مع سرعة الابتكارات لا وفق إيقاع التدابير البيروقراطية. لدى قادة القطاع الخاص اليوم مسؤوليات لا يريدونها، فيما يرغب القادة الحكوميون بقدرات لا يملكونها.
إلى التحرك السريع
غالباً ما يساء فهم الاستخبارات. وعلى رغم تعامل وكالات التجسس مع أمور سرية، إلا أنها وكالات لا تعمل في نطاق الأسرار فقط. فهدفها الأساسي يتمثل بتقديم المعلومات لصناع السياسة، واستشراف المستقبل على نحو أسرع وأفضل من الخصوم. المعلومات المستقاة سرياً من مصادر مختلفة، مثل المكالمات الهاتفية المراقبة، والتقارير الأصلية التي يقدمها الجواسيس، مهمة طبعاً، إلا أن السرية ليست سوى جزء من الصورة العامة. إذ إن معظم المعلومات التي ترد في التقارير الاستخبارية المعهودة هي معلومات غير سرية ومتاحة للجمهور. والمعلومات الخام – سرية كانت أم غير سرية – نادراً ما تكون ذات قيمة بحد ذاتها لأنها في الغالب تبقى غير مكتملة، وغامضة، ومتناقضة، وضعيفة الإسناد، ومضللة، وخادعة عمداً، أم ببساطة، خاطئة. المقاربات التحليلية هي ما يحيل الإشارات غير المؤكدة إلى رؤى وأفكار ومعلومات عبر تجميع وتركيب نتف متبايتة من المعلومات وتقييم سياقاتها، وصدقيتها، ومعناها.
والمعلومات الاستخبارية ليست دائماً صحيحة. لكن عندما تكون كذلك تصبح بالغة القيمة. حين حذرت وكالات الاستخبارات الأميركية من أن روسيا على أهبة اجتياح أوكرانيا، فإنها منحت واشنطن وقت حاسماً كي تساعد في تسليح كييف وتوحيد الغرب حول موقف ورد فعل موحدين. بيد أن الوقت قد يحل قريباً حين تغدو مهمة تكرار هذا النجاح مهمة أصعب على وكالات الاستخبارات، لأن مجال التهديد العالمي لم يكن في يوم من الأيام بهذا الازدحام والتعقيد السائدين اليوم – والأخطار باتت أسرع بحركتها من أي وقت مضى. مهمة تأدية ضباط الاستخبارات عملهم باتت اليوم أكثر صعوبة. إذ بعد أن قضوا قرابة نصف قرن مركزين جهودهم بالدرجة الأولى على مواجهة الاتحاد السوفياتي، وعقدين وهم يحاربون الإرهابيين، عليهم اليوم مواجهة مجموعة متنوعة من الأخطار والتهديدات. عليهم التعامل مع مخاطر عابرة للحدود القومية، مثل الجوائح وتغير المناخ، كما عليهم خوض تنافس القوى العظمى ضد الصين وروسيا، ومقارعة الإرهاب، وتهديدات أخرى مصدرها دول ضعيفة وفاشلة، ومواجهة الهجمات السيبرانية التي تسرق، وتتجسس، وتعوق، وتدمر، وتخدع، بمقدار هائل وبمعدل سرعة مذهلة. لقد باتت وكالات الاستخبارات، ومن دون مبالغة في القول، مرهقة بالمهمات ومثقلة بالمسؤوليات.
ولا تسهم التكنولوجيا في إطالة أمد الخطر وحسب، بل أيضاً تجعله أكثر هولاً وترويعاً. فالبلدان على مدى قرون حمت نفسها عبر بناء الجيوش القوية والاستفادة من الجغرافيا المناسبة، لكن اليوم من خلال الفضاء السيبراني يمكن لأي طرف أن يهاجم من أي مكان، ومن دون احتياجه لاختراق أي من الدفاعات الجوية، والبرية، والبحرية. البلدان الأكثر قوة باتت اليوم في الحقيقة، وبأغلب الأوقات، أكثر هشاشة من غيرها، لأن قوتها في مختلف القطاعات الاقتصادية والتعليمية، وفي مجال الرعاية الصحية والعمليات العسكرية وغيرها من أمور، تعتمد على الأنظمة الرقمية. هذه الدول يمكن أن تتعرض لهجمات كبيرة تعطل بناها التحتية الأساسية. كما يمكنها أن تتلقى هجمات صغيرة متتابعة تعمق الأضرار الكارثية حتى قبل تمكن مسؤولي الأمن فيها من معرفة ما حصل. الصين مثلاً قامت بممارسة السرقة لتحقيق التقدم التكنولوجي في مجالات متعددة، من قطاع صناعة الطائرات إلى قطاع المواد الطبية، حيث سرقت من الشركات الأميركية باختراقها واحدة تلو الأخرى، في عملية وصفها مدير جهاز الـ “أف بي آي” (وكالة التحقيقات الفيدرالية)، كريستوفر راي، بأنها واحدة من أكبر عمليات تحويل الثروة في التاريخ البشري و”الخطر المديد الأعظم الذي يواجهه اقتصادنا وأمننا القومي”.
روسيا أيضاً استخدمت الهجمات السيبرانية بفاعلية كبيرة، مثبتة أن التكنولوجيا يمكن أن تسمح لأطراف خبيثة في قرصنة العقول وليس فقط الآلات. لقد قام العملاء الروس في منصات التواصل الاجتماعي بابتكار برامج تتبع وملفات شخصية مزيفة تنتحل شخصيات أميركيين، إذ نشرت المعلومات المضللة في أنحاء الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية سنة 2016، فأدى ذلك إلى إثارة الاستقطاب والتفرقة في البلاد وإلى تقويض ديموقراطيتها. وبوسع الصين اليوم إثارة الأميركيين على بعضهم بعضاً من دون استخدام منصات التكنولوجيا الأميركية حتى. فشركة “بايت دانس” ByteDance الصينية تملك “تيك توك”، تطبيق التواصل الاجتماعي الشهير الذي يضم أكثر من مليار مستخدم، منهم 135 مليوناً من الأميركيين، أي 40 في المئة من عدد سكان الولايات المتحدة. ويشعر الديموقراطيون والجمهوريون اليوم على حد سواء بالقلق من أن يكون “تيك توك” قادراً على تمكين الحكومة الصينية من استخراج مختلف المعلومات المتعلقة بالأميركيين، وإطلاق حملات تأثير كبرى تخدم مصالح بكين – وكل ذلك تحت ذريعة منح المستهلكين الأميركيين ما يريدونه. في حرب المعلومات اليوم الأسلحة لا تتخذ شكلها المألوف.
ولأن الهجمات السيبرانية يمكن أن تحدث بسرعة كبيرة. ولأن صناع السياسات يمكنهم اليوم تتبع الأحداث الاستثنائية والحصول على الأخبار الرائجة فقط عبر الضغط على زر، فإن وكالات الاستخبارات الأميركية تحتاج أيضاً إلى التحرك والعمل بمعدل سرعة غير مسبوق. الجداول الزمنية كانت على الدوام مهمة في عمل الاستخبارات. في أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962 كان أمام الرئيس الأميركي جون كينيدي 13 يوماً فقط للتدقيق بالمعطيات الاستخبارية وتقرير خيارات سياساته بعد الصور الحساسة التي التقطتها طائرة التجسس الأميركية “يو-2” (U-2) كاشفة فيها عن منشآت نووية سوفياتية في كوبا، وفي 11 سبتمبر (أيلول) 2001 كان أمام الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أقل من 13 ساعة إثر الهجمات على مركز التجارة العالمية لمراجعة التقارير الاستخبارية وإعلان الرد الأميركي. أما اليوم فإن الوقت المتاح أمام الرؤساء لمراجعة التقارير الاستخبارية قبل اتخاذ قرارات أساسية قد يقارب 13 دقيقة أو حتى 13 ثانية.
بيد أن التحرك بسرعة يحمل في طياته المخاطر أيضاً. فالتدقيق بصدقية مصدر من المصادر يحتاج إلى الوقت، كما يحتاج إلى الاستعانة بمعرفة الخبراء في الحقل الذي يدقق فيه، والتفكير بتفسيرات بديلة ومختلفة للمعطيات المطروحة. إذ من دون التحليلات الاستخبارية الدقيقة قد يقدم القادة على اتخاذ قرارات متسرعة أو حتى خطرة. العواقب المحتملة للأفعال والمواقف المتهورة بدت جلية في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2016، عندما أفاد نبأ إخباري بأن وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق هدد بهجوم نووي ضد باكستان إن قامت إسلام آباد بنشر قوات في سوريا. وقد سارع وزير الدفاع الباكستاني، خواجة محمد آصف، إلى التغريد على “تويتر” قائلاً، “وزير الدفاع الإسرائيلي يهدد برد نووي مفترضاً دوراً باكستانياً في سوريا ضد داعش. إسرائيل تنسى أن باكستان أيضاً دولة نووية”. لكن القصة الأصلية في هذا الخبر جرت فبركتها. وقام آصف بنشر رده قبل أن يكتشف الحقيقة. حاجة صناع السياسات إلى السرعة المناسبة في ما يقومون بالاطلاع على المعلومات الاستخبارية والتدقيق بها وتقييمها كانت على الدوام مسألة حساسة تتطلب التوازن، غير أن تحقيق هذا التوازن اليوم بات أكثر صعوبة.
الحاجة إلى المعرفة
على وكالات الاستخبارات اليوم التعامل مع بيئة متخمة بالمعلومات، وليس فقط مع معلومات متسارعة. مقدار المعلومات المتوفر على الإنترنت بات اليوم هائلاً لدرجة لا يمكن تصورها. وبحسب “منتدى الاقتصاد العالمي”، في سنة 2019، نشر مستخدمو الإنترنت 500 مليون تغريدة (على تويتر) وبعثوا 294 مليار رسالة إلكترونية، وحملوا 350 مليون صورة على “فيسبوك” يومياً. وفي كل دقيقة يبث الإنترنت واحد بيتابايت (petabyte) [ما يعادل 1000 تيرابايت أو مليون غيغابايت] تقريباً من المعلومات: أي ما يوازي كمية المعلومات التي سيستهلكها المرء بعد أن يكون قد شاهد أفلاماً من دون توقف على مدى أكثر من ثلاثة أعوام.
وتقوم وكالات الاستخبارات الأميركية سلفاً بتجميع كم معلومات يفوق بكثير ما يمكن للبشر أن يحللونه بطريقة كفوءة. وفي سنة 2018 كانت وكالات الاستخبارات (الأميركية) تحصل في اليوم الواحد عبر أجهزة الرقابة الموزعة في مناطق النزاع على كمية من الصور عالية الوضوح تفوق كمية الصور المنتجة في ثلاثة مواسم لبطولة كرة القدم الأميركية. ووفق مصدر في وزارة الدفاع، سنة 2020، قام أحد الجنود ممن يؤدون مهماتهم في الشرق الأوسط بالتعبير عن قلقه من التدفق الكاسح للرسائل الإلكترونية المصنفة استخبارية التي راح يتلقاها، فقرر إحصاءها. وقد بلغ المجموع: 10 آلاف رسالة إلكترونية في 120 يوماً. مقدار الرسائل الإلكترونية هذه من المرجح أن يزداد. بعض التقديرات يشير إلى أن مقدار المعلومات الرقمية على الأرض يتضاعف في كل 24 شهراً.
على وكالات الاستخبارات راهناً أن تقوم، وعلى نحو متزايد، بإرضاء شريحة أوسع من المتعاملين – شريحة تضم أشخاصاً من خارج الجيش، وآخرين ممن يحملون تصاريح أمنية، أو حتى ممن يعملون في الحكومة. عدد كبير من صانعي القرارات المهمين يعيشون اليوم في أمكنة مختلفة من العالم بعيدين من واشنطن، ويصيغون من مواقعهم في قاعات المجالس وغرف المعيشة، وليس من “غرفة العمليات” في البيت الأبيض، خيارات سياسية مبنية على معلومات بحوزتهم. وتحتاج شركات التكنولوجيا الكبيرة، مثل “مايكروسوفت” و”غوغل”، إلى معلومات استخبارية تتعلق بالمخاطر والتهديدات السيبرانية المحدقة بها من داخل أنظمتها ومن خارجها. معظم مرافق البنى التحتية الأميركية المهمة في الولايات المتحدة يجري التحكم به من قبل الشركات الخاصة، مثل شركات الطاقة، وهذه الأخيرة أيضاً تحتاج إلى معلومات عن الأخطار السيبرانية التي قد تعطل أو تدمر أنظمتها. كما يحتاج الناخبون من جهتهم معلومات استخبارية تتعلق بكيفية قيام الحكومات الأجنبية بالتدخل في الانتخابات (الأميركية) وشن حملات لاستقطاب المجتمع وتفرقته. ولأن التهديدات والأخطار السيبرانية لا تضبط على الحدود، فإن الأمن الأميركي بات يعتمد بطريقة متزايدة على مشاركة الحلفاء والشركاء بالمعلومات الاستخبارية بوتيرة أسرع وبأسلوب أفضل.
ولخدمة هذه التنويعة الأوسع من العملاء، تقدم وكالات الاستخبارات الأميركية منتجات غير مصنفة (أي غير سرية) وتتفاعل مع العالم الخارجي بدرجة غير مسبوقة. ويقوم الآن كل من “وكالة الأمن القومي” (أن أس آي) The National Security Agency و”مكتب التحقيقات الفيدرالي” (أف بي آي)، وغيرهما من الوكالات الاستخبارية، بإنتاج فيديوهات موجهة للجمهور عن التهديدات الخارجية المحدقة بالانتخابات الأميركية. وفي سبتمبر (أيلول) 2022 أطلقت “وكالة الاستخبارات المركزية” (سي آي أي) مدونة صوتية (بودكاست) بعنوان “ملفات لانغلي” The Langley Files تهدف إلى تبديد الغموض الذي يكتنف هذه الوكالة وإلى تثقيف الجمهور. كذلك أطلقت “وكالة الاستخبارات الوطنية الجيوفضائية” The National Geospatial-Intelligence Agency، التي تجمع الصور الملتقطة بالأقمار الاصطناعية وغيرها من المعلومات الجيوفضائية وتقوم بتحلليها، مشروعاً سمته “تيرلاين” Tearline – بالتعاون مع مراكز أبحاث وجامعات وأطراف غير ربحية يهدف إلى إعداد تقارير غير سرية عن التحول المناخي، وتحركات الجيش الروسي، وقضايا حقوق الإنسان، ومسائل أخرى. وفي سنة 2021 بدأت “وكالة الأمن القومي” بإصدار نشرة إرشادات مشتركة بالتعاون مع “مكتب التحقيقات الفيدرالي” و”وكالة أمن البنى التحتية والمجال السيبراني” التابعة لوزارة الأمن القومي، إذ تفصل النشرة المذكورة التهديدات السيبرانية الأساسية وتسلط الضوء على الأطراف التي تقف وراءها، وتشرح للشركات كيفية تعزيز أمنها. حتى أن هذه الوكالات الثلاث قامت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بنشر التفاصيل التقنية لنقاط الضعف الـ20 الأولى التي تستغلها الحكومة الصينية لاختراق شبكات الولايات المتحدة وحلفائها، كما نشرت أيضاً تعليمات دقيقة عن كيفية تطوير الدفاعات السيبرانية. كذلك تصدر الحكومة الأميركية الآن إرشادات بالتعاون مع شركاء من وكالات استخبارات أجنبية (حليفة).
وجاء نجاح استراتيجية المواجهة العامة هذه بأبهى تجلياته في أوكرانيا. فقد ساعدت الاستراتيجية المذكورة الولايات المتحدة في تحذير العالم من الاجتياح الروسي. كما ساعدت في حشد الغرب للقيام برد فعل سريع. وهي تستمر في إحباط موسكو. في الآونة الأخيرة وبعد أن قامت واشنطن بنشر معلومات استخبارية تفيد بأن قادة عسكريين روس كبار يتناقشون حول استخدام أسلحة نووية تكتيكية في أوكرانيا، أصدر الرئيس الصيني شي تحذيراً علنياً نادراً من مغبة “استخدام السلاح النووي أو التهديد باستخدامه”. وقد بات هناك فجأة “حدوداً” للعلاقة التي “لا حدود لها” بين شي وبوتين.
موجة الجماهير
إضافة إلى زيادتها عدد العملاء ومتلقي الخدمات، طرحت التكنولوجيا على الاستخبارات الأميركية مزيداً من الأبعاد التنافسية. إذ إن تدفق المعلومات مفتوحة المصدر على الإنترنت، كما التنامي الهائل لقدرات الأقمار الاصطناعية التجارية والذكاء الاصطناعي، يقوم بتمكين مختلف الأفراد والمنظمات الخاصة من جمع وتحليل ونشر المعلومات الاستخبارية.
خلال السنوات القليلة الماضية مثلاً أنجز المحققون الهواة في “بيلينغكات” Bellingcat – المنظمة التطوعية التي تصف نفسها بأنها “وكالة استخبارات للناس” – مختلف أنواع الاكتشافات. إذ قامت “بيلينغكات” بتحديد فريق القتل الروسي الذي حاول اغتيال الضابط الأسبق في المخابرات الروسية سيرغي سكريبال في المملكة المتحدة، كما حددت مواقع وجود أنصار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أوروبا. وأثبتت “بيلينغكات” أيضاً مسؤولية الروس عن إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية رحلة 17 فوق أوكرانيا.
“بيلينغكات” ليست المبادرة الاستخبارية المدنية الوحيدة. إذ عندما زعمت الحكومة الإيرانية سنة 2020 أن حريقاً صغيراً اندلع في هنغار صناعي، قام باحثان أميركيان يعمل كل منهما باستقلالية عن الآخر، وبواسطة الكومبيوتر والإنترنت فقط، وخلال ساعات بإثبات أن طهران تكذب. كما توصل ديفيد أولبرايت وفابيان هينز على جناح السرعة، إلى أن المبنى (المحترق) كان منشأة لتجميع أجهزة الطرد المركزي النووية في الموقع الأساسي لتخصيب اليورانيوم في إيران. والأضرار كانت كبيرة لدرجة تشير إلى أن الحريق يمكن أن يكون قد نشب بفعل انفجار – الأمر الذي طرح احتمال وقوع عملية تخريب. وفي سنة 2021 قام محققون مختصون بالشأن النووي في “مركز جايمس مارتن لدراسات منع انتشار الأسلحة النووية” في كاليفورنيا باستخدام صور الأقمار الاصطناعية التجارية لاكتشاف أكثر من 200 مخزن جديد في الصين للصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وهو الاكتشاف الذي قد يشير إلى زيادة تاريخية في الترسانة النووية الصينية.
بالنسبة إلى وكالات الاستخبارات الأميركية فإن التوسع الكبير هذا للاستخبارات مفتوحة المصدر يطرح فرصاً مهمة جديدة، وأيضاً مخاطر وتهديدات. من الناحية الإيجابية يؤمن “المواطنون المحققون” مزيداً من العيون والآذان في كل مكان من العالم، وهذه العيون والآذان ترصد التطورات والأخطار ما أن تطل برأسها. حكمة الجماهير قد تشكل أداة قوية وفعالة، خصوصاً في عملية جمع نتف المعلومات الصغيرة ببعضها بعضاً. إذ بوسع محللي المعلومات الاستخبارية مفتوحة المصادر العمل بوتيرة سريعة كونهم غير مقيدين بالشروط البيروقراطية. ولأن المعلومات مفتوحة المصادر هي بتعريفها غير سرية، فإنه يمكن نشرها بسهولة عبر الوكالات الحكومية وفيما بينها، ومشاركتها مع الجمهور العام من دون الإفصاح عن المصادر أو المناهج الحساسة.
بيد أن هذه المزايا تضم عيوباً أيضاً. فالمعلومات الاستخبارية مفتوحة المصادر متاحة للجميع، وفي كل مكان، مهما كانت نواياهم وولاءاتهم الوطنية ومهما اختلفت قدراتهم. وليس على “المواطنين المحققين” الاستجابة لأحد أو التدرب في أي مكان، وهذا الأمر يستدعي كل أصناف المخاطر. ويحظى المحللون المتطوعون بالتقدير نظراً إلى سرعتهم (خصوصاً على الإنترنت) لكن من النادر معاقبة أحد منهم لخطأ ارتكبه – وهذا ما يرجح ارتفاع احتمالات ارتكابهم الأخطاء. فالخط الفاصل بين حكمة الجماهير وخطر الغوغاء هو خط رفيع. إذ كما حصل إثر الهجوم الإرهابي على ماراثون بوسطن سنة 2013 الذي قتل ثلاثة أشخاص وجرح أكثر من 260 شخصاً آخرين، سارع مستخدمو منصة “ريدديت” (Reddit) للتحرك. وبعد نشرهم نظريات رئيسة، وثرثرات غير مؤكدة التقطتها أجهزة الشرطة، وغيرها من الشهادات والمعلومات التي مصدرها الحشود، تمكن محققون هواة من تحديد “مشتبه بهما اثنين”، وقد نشرت وسائل الأعلام المعروفة نتائج التحقيقات. لكن تبين في نهاية المطاف أن الشخصين كانا بريئين.
نقاط الضعف هذه من شأنها أن تخلق للحكومات مشكلات حقيقية. إذ عندما تتكاثر الأخطاء وتنتشر تصبح وكالات الاستخبارات مضطرة إلى حرق الوقت والمصادر في عمليات تدقيق مركزة حول صحة عمل الآخرين، وفي التأكيد لصناع السياسات بأن التقييمات الاستخبارية الأساسية لهذه الوكالات ينبغي ألا تتبدل. المعلومات الدقيقة المكتشفة عبر المصادر المفتوحة قد تتسبب بالمشكلات أيضاً. فالنتائج التي قد يجري التوصل إليها مثلاً قد تضع صناع السياسات في موقف حرج عبر إتاحة المعلومات للجمهور، فيما لو ظلت سرية فإنها ربما تبقي مجالاً للتسويات ولاعتماد مخارج مقبولة من الأزمات. وكما حصل في أزمة الصواريخ الكوبية مثلاً، وبغية نزع فتيل الأزمة، وافق الرئيس كينيدي على إخراج الأسلحة النووية الأميركية سراً من تركيا إن أخرج السوفيات صواريخهم من كوبا. لو كانت صور الأقمار الاصطناعية متوفرة للجمهور آنذاك، لكان كينيدي سيتردد كثيراً قبل عقد أية صفقة من هذا النوع، وبقي شديد الحذر من رد فعل عنيف في السياسة الداخلية الأميركية.
علاقة مفتوحة
يدرك قادة الاستخبارات الأميركية أن نجاحهم في القرن الـ21 يعتمد على التكيف مع عالم بات فيه كم هائل من المخاطر والتهديدات، ويتميز بسرعة أكبر وبتوفر مزيد من المعلومات والمتعاملين والمتنافسين. فالوكالات التي يترأسها أولئك القادة تعمل جاهدة منذ زمن لمقارعة التحديات المذكورة عبر إطلاق إصلاحات داخل الوكالات والمؤسسات، واعتماد برامج ابتكار تكنولوجية، ومبادرات جديدة لتجنيد أفضل المواهب العلمية والهندسية. وقد تحقق في هذا السياق بعض النجاحات المهمة. لكن يبقى هناك مشكلات يصعب تخطيها، إذ حتى الآن ما زالت جهود العاملين في مجال الاستخبارات جهوداً مجتزأة وتدريجية.
على أن معدلات النجاح تبقى مقلقة على نحو خاص إذا ما نظرنا إلى حجم التحديات المعروفة جداً، والرهانات الكبرى، ونقاط الضعف الاستخبارية المتفاقمة على مدى سنوات. وقد توصل عديد من التقارير والمقالات (التي نشر بعضها في “فورين أفيرز”) إلى أن وكالات الاستخبارات لا تواكب التطورات التكنولوجية بالسرعة المطلوبة. وتشير هذه التقارير إلى واقع مؤسف. إذ لا يمكن لواشنطن مقارعة التحديات التي تواجهها راهناً عبر القيام بتغييرات تدريجية وجزئية في الوكالات الموجودة. بل إن تطوير القدرات الاستخبارية الأميركية في القرن الـ21 يتطلب بناء شيء جديد: وكالة مخصصة للمعلومات الاستخبارية المستقاة من مصادر مفتوحة كي تركز جهودها في التدقيق بالمعلومات غير السرية والتعمق بفهمها.
استحداث وكالة استخبارات جديدة تكون الـ19 بين الوكالات الموجودة قد يبدو تكرارياً وغير ضروري. بيد أنه بالغ الأهمية. إذ على رغم جهود واشنطن الكبيرة، فإن المعلومات الاستخبارية المستقاة من مصادر مفتوحة مثلت على الدوام “موارد من الدرجة الثانية” في الأوساط الاستخبارية الأميركية لأنها لا تملك وكالة مخصصة لها، ذات موازنة وسلطة توظيف أو “مقعد على الطاولة” يعلي الجالس فيه من شأنها. ما دامت الاستخبارات ذات المصادر المفتوحة قابعة في وكالات سرية تهتم قبل كل شيء بالمعلومات السرية، فإنها ستصاب بالوهن. لأن ثقافة السرية ستستمر في خنق تبني الأدوات التكنولوجية الأحدث من القطاع التجاري. وستنهك الوكالات في جهود جذب وتوظيف المواهب التي تلح الحاجة إليها لمساعدتها في فهم واستخدام التكنولوجيات الجديدة. كما ستفشل جهود تسخير قوة جامعي المعلومات الاستخبارية ذات المصادر المفتوحة، والمحللين العاملين خارج الأطر الحكومية.
وتوفر وكالة جديدة مخصصة للمعلومات الاستخبارية ذات المصادر المفتوحة ليس فقط المعلومات، بل أيضاً البعد الابتكاري في أوساط الاستخبارات الأميركية، وذلك عبر تأمين أرض خصبة لنمو التغييرات العميقة في الرأسمال البشري وفي تبني التكنولوجيا، والتعاون مع منظومة عمل استخبارية مزدهرة ومفتوحة المصادر. هكذا وكالة ستمثل أداة قوية لجذب صانعي المستقبل. ولأنها تتعامل مع معلومات غير سرية فإنها قد تجند نخبة العلماء والمهندسين للعمل معها فوراً، بدل أن يضطر هؤلاء للانتظار أشهراً أو سنوات كي يتجاوزوا الفحوص الأمنية. إنشاء مكاتب “وكالة المعلومات المفتوحة” في مراكز تكنولوجية، حيث يعيش سلفاً المهندسون وحيث يودون البقاء – أمكنة ومدن مثل أوستن وسان فرانسيسكو وسياتل – سيسهل الأمر على المواهب للتدفق في الأقنية الحكومية وخارجها. والنتيجة قد تكون فيالق من المسؤولين البارعين في أمور التكنولوجيا، يتنقلون بين الخدمة العامة والقطاع الخاص، ويلعبون دور السفراء بين هذين العالمين. وهم سيزيدون من قوة حضور ومكانة الوسط الاستخباري في الدوائر التكنولوجية، بموازاة تأمينهم دفقاً مستمراً من الأفكار التكنولوجية النضرة داخل القطاع العام.
وعبر التعامل مع المواد والمعلومات غير السرية، يمكن لوكالة المصادر المفتوحة مساعدة القطاع الاستخباري أيضاً ليكون أمهر وأسرع في تبني مجموعة جديدة وتحليلية من التكنولوجيات. (بوسع وكالة المصادر المفتوحة اختبار الابتكارات الجديدة، وإن أثبتت فعاليتها، تمررها للوكالات التي تعمل بالسر وتتعامل مع المعلومات السرية). كما يمكن لهذه الوكالة الجديدة أن تكون في موقع مثالي للتعامل مع منظمات وأفراد رائدين يعملون في إطار المعلومات الاستخبارية المفتوحة خارج النطاق الحكومي. تلك الشراكات من شأنها مساعدة الوكالات الاستخبارية الأميركية في إسناد مزيد من مهماتها لأطراف مسؤولين وغير حكوميين، من جامعي المعلومات ومحلليها، الأمر الذي سيحرر المسؤولين الاستخباريين ويسمح لهم في تركيز قدراتهم وجهودهم على مسألة جمع المعلومات السرية ومهمات أخرى لا يمكن لأحد غيرهم القيام بها.
وسيبقى هناك مهمات أخرى دائماً. ففي نهاية المطاف حتى أفضل المعلومات الاستخبارية ذات المصادر المفتوحة، لديها محدودية. بوسع صور الأقمار الاصطناعية أن تكشف عن مخازن جديدة للصواريخ الباليستية الصينية، لكن ليس بوسعها الكشف عما ينوي القادة الصينيون أن يفعلوه بها. تحديد الأجسام ورصد التحركات عبر الإنترنت هما أمران مهمان، بيد أن توليد الأفكار والمعطيات يتطلب ما هو أكثر. تبقى الأساليب السرية فريدة بأهميتها ودورها لفهم ما يعرفه القادة الأجانب وما يؤمنون ويرغبون فيه. ليس هناك بديل تقدمه أساليب استخبارات المصادر المفتوحة لقيام أفراد جواسيس بالدخول إلى دوائر القادة الأجانب الضيقة واختراقها أو التسلل إلى أنظمة اتصالات الأعداء للكشف عما يقوله الخصم وما يكتبه. كما أن المحللين المجازين أمنياً سيكونون على الدوام أساسيين في تقييم ما تعنيه المعلومات السرية المكتشفة، وتحديد مدى صدقيتها وتماشيها مع معلومات أخرى غير سرية.
لكن وكالات العمل السري لم تعد كافية بعد اليوم. فالبلاد تواجه حقبة جديدة خطرة تتضمن تنافس قوى عظمى، وحرباً متجددة في أوروبا، وهجمات إرهابية مستمرة، وهجمات سيبرانية سريعة التبدل. التكنولوجيا الجديدة هي التي تزيد من قوة تلك التهديدات وتقرر من سيكون بوسعه فهم المستقبل ورسم معالمه. كي تنجح الاستخبارات الأميركية أمام هذه التحديات عليها أن تتكيف مع عالم تكنولوجي أكثر انفتاحاً واتساعاً.
إيمي زيغارت باحثة بارزة في مقعد موريس آرنولد ونونا جين كوكس في معهد هوفر، وباحثة بارزة بمعهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية في جامعة ستانفورد، ومؤلفة كتاب “جواسيس، أكاذيب، وخواريزميات: تاريخ ومستقبل الاستخبارات الأميركية”Spies, Lies, and Algorithms: The History and Future of American Intelligence.
مترجم عن فورين أفيرز، عدد يناير/فبراير 2023
المصدر: اندبندنت عربية