أجرى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ونظيره الأميركي أنتوني بلينكين، “حواراً شاملاً حول التعاون الثنائي الموسع الذي يركز على أهمية الشراكة القائمة بين البلدين” بحسب البيان الختامي المشترك الصادر عن الطرفين. هي الزيارة الأولى من نوعها التي يقوم بها الوزير التركي إلى العاصمة الأميركية منذ عامين، بعد تدهور العلاقات في كثير من الملفات الثنائية والإقليمية.
لم يقصد جاويش أوغلو العاصمة الأميركية لسماع عبارات الإطراء والإشادة بالجهود التركية في التعامل مع ملف الحرب في أوكرانيا. ولم يتوجه إلى هناك من أجل تصريحات تؤكد التزام الطرفين بالعملية السياسية التي لا بد منها في سوريا وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. أو محاولة إقناع الجانب الأميركي بتشكيل آلية عمل موحدة تناقش ملفات الخلاف والتباعد. هو كان يبحث أكثر عن معرفة مدى استعداد واشنطن لمراجعة سياستها السورية وهل ستعطي أنقرة ما تريده مما سيفتح الطريق أمام السياسة التركية الجديدة أو لا ومما ستكون له ارتداداته الإيجابية في الداخل التركي حول تراجع التوتر والاحتقان المزمن في العلاقة بين أنقرة وواشنطن.
تلتقي قناعة الكثيرين في تركيا وأميركا على السواء عند ضرورة إنهاء الخلافات وتراجع أميركا عن محاولات عزل تركيا وإضعافها إقليميا. وأنه على واشنطن البحث عن فرص ووسائل كسب أنقرة إلى جانبها بعدما تزايد نفوذها وموقعها الإقليمي في التعامل مع ملفات استراتيجية حساسة تعني أميركا. لكن الواقع يقول إن مسألة التقارب والتطبيع التركي الأميركي تحتاج إلى وقت طويل وستكون مرتبطة بخيار أنقرة الدخول في تقارب وتطبيع مع النظام في دمشق أم لا.
تدرك أنقرة أن الليونة الأميركية في موضوع صفقة المقاتلات أف 16 ودفع الملف نحو الكونغرس للموافقة عليه هدفها تسهيل صفقة المقاتلات أف 35 اليونانية وتجنب إغضاب الأتراك أكثر من ذلك فالروس والإيرانيون ينتظرون لحظة من هذا النوع. لكن المقايضات التركية الأميركية هي أبعد وأهم من ذلك. أنقرة تريد إنجاز اختراق حقيقي في التعامل مع الملف السوري بأكثر من اتجاه:
– مصير العملية العسكرية التركية في شرق الفرات ومعرفة إذا ما كانت واشنطن ستراجع مواقفها حيال “قوات سوريا الديمقراطية” أم لا.
– الموقف الأميركي بإتجاه السياسة التركية الجديدة في سوريا.
– القرار النهائي لواشنطن حيال الحوار التركي مع النظام في دمشق.
– ما الذي تقوله وتريده واشنطن حول ترتيبات اللقاء الثلاثي على مستوى وزراء الخارجية بين جاويش أوغلو والمقداد برعاية لافروف.
تحاول واشنطن إطالة عمر الأزمة السورية قدر الإمكان لعرقلة حسابات اللاعبين المؤثرين في الملف. وتحاول أنقرة إبلاغها أن الأمور لم تعد تحتمل الإطالة لأنها هي من يتحمل ارتدادات المسار السلبي في الموضوع. وهنا يدخل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على الخط، ليعلن أمام العدسات من موسكو أنَّ بلاده دعمت وتدعم تسوية العلاقات مع الأكراد في سوريا، وتوسيع قنوات الحوار للمكوّن الكردي مع دمشق؛ لكن “واشنطن سعت لاستخدام الأكراد لبناء دويلة انفصالية في سوريا، بهدف تحولها إلى مصدر إزعاج وتهديد لبقية الأطراف، ما أثار قلق تركيا”.
ما يقوله لافروف في العلن لا يقل قيمة وأهمية عن زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان إلى أنقرة قبل ساعات من توجه جاويش أوغلو إلى واشنطن. موسكو وطهران تريدان عبر خطوة من هذا النوع إرباك حسابات أي تقارب تركي أميركي قد يهدد نفوذهما ومصالحهما في سوريا.
تقول أنقرة لواشنطن ما تفعلونه في سوريا وما لا تريدون الإعلان عنه هناك يتعارض مع سياسات وحسابات تركيا. انعدام الموقف الأميركي الواضح سيدفع أنقرة لمواصلة سياسة الانفتاح على موسكو في سوريا أكثر فأكثر، وعلى واشنطن أن تتحمل مسؤولية ذلك. هدف أنقرة هو جر واشنطن إلى المسار التركي الجديد في سوريا أو إلزامها بتقديم البديل، وإلا فإنها ستكون هي المسؤولة عن تحمل وزر المزيد من التباعد بين الطرفين في سوريا.
تريد أنقرة أن تعرف مدى استعداد فريق عمل الرئيس جو بايدن للانفتاح على تنسيق تركي روسي في سوريا، وما سيواكب ذلك من متغيرات سياسية وميدانية في مسار الملف. أم هناك عروضا أميركية عملية بديلة تطمئن أنقرة في سوريا وهو ما لم تقدم عليه واشنطن حتى الآن.
لم تعط أنقرة وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته الأخيرة للعاصمة التركية، كل ما أراده من تطمينات وتعهدات حول مراعاة ما تقوله طهران وتريده في سوريا. والدليل أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول إن اللقاء الثلاثي المرتقب بين جاويش أوغلو والمقداد بحضوره ورعايته سيعقد وسط تعتيم كامل على الدور الإيراني وطلب طهران المشاركة في هذا اللقاء. ارتدادات تصريح لافروف كان لها تأثيرها حتما في واشنطن حيث تتمسك تركيا بعملية المقايضة في شرق الفرات. “قسد” مقابل النفوذ والتوغل الإيراني في سوريا. فهل نجح جاويش أوغلو بإقناع الجانب الأميركي أن التمسك بوضع روسيا وإيران على مسافة واحدة في سوريا لن يخدم فرص البحث عن صيغة خروج من الأزمة هناك؟
حتما كانت هناك نقاشات صعبة في واشنطن بين الوزيرين لكنها لم تتوج بقرار بايدن فتح مكتبه البيضاوي أمام جاويش أوغلو كما فعل أردوغان مع الوزير عبد اللهيان قبل أيام. هل يعني ذلك أن نتائج المحادثات لم تتوج بانبعاث الدخان الأبيض من مبنى الخارجية الأميركية وأن النقاشات ما زالت تحتاج إلى المزيد من اللقاءات والشد والجذب حيث يحاول كل طرف أن يفاوض الطرف الآخر في الملف السوري آخذا بعين الاعتبار مصالحه وعلاقاته مع حلفائه المحليين والإقليميين ولعبة التوازنات القائمة؟
الانفتاح التركي الأخير على تل أبيب والعديد من العواصم العربية والتمسك بحبال العلاقة مع واشنطن بين البدائل التي تريد تركيا حمايتها في حسابات خط الرجعة مع روسيا وإيران. احتمال آخر أن تكون تصريحات الرئيس التركي في مطلع تشرين الثاني المنصرم وفي ذروة التقارب التركي الإسرائيلي حول “سنبذل ما بوسعنا للتعاون مع إسرائيل في شرق المتوسط، ولإحراز تقدّم عبر مقاربات إيجابية قائمة على أساس الربح المتبادل” بين ما يرضي الإدارة الأميركية أيضا.
تصلب أنقرة لناحية التمسك في انفتاحها على موسكو في سوريا، قابله حتما تصلب واشنطن في موضوع ضرورة إضعاف طهران هناك، إرضاء لحلفائها وشركائها الإقليميين وهو ما قد لا تعترض عليه القيادة التركية. هذا ما تعرفه إيران جيدا وهذا ما دفع عبد اللهيان للتحرك باتجاه العاصمة التركية في محاولة لتقديم العروض والتنازلات أو التلويح بأوراق القوة التي تملكها بلاده والقادرة على المساس بمصالح تركيا في أكثر من بقعة جغرافية.
ما بقي في الذهن هو رسائل التفاؤل التي أعلنها جاويش أوغلو وهو يستعد للعودة إلى أنقرة “اللقاء مع بلينكين كان مثمراً للغاية ومفيداً من ناحية تطوير العلاقات الثنائية”. هل ينطبق ذلك على العلاقات التركية الأميركية في سوريا؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا