استدعى تسارع خطوات تطبيع علاقات تركيا مع نظام الأسد حراكاً ديبلوماسياً مكثفاً، تجسد في إجراء عدة زيارات ولقاءات واتصالات بين ساسة الدول المتدخلة في الوضع السوري، ليس آخرها زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى أنقرة قادماً من دمشق، التي جاء إليها بعد توقف قصير في بيروت، فيما سبقت زيارته إلى دمشق زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، ومبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية ألكسندر لافرنتييف.
وعلى العكس مما اعتبره محللون ومراقبون انزعاج طهران من التقارب التركي مع نظام الأسد، أو على الأقل تحفّظها عليه، كونه، على الأقل، جرى بعيداً عن مشاركتها في ترتيب خطواته، فإن عبد اللهيان عبّر في دمشق عن “سعادته” للتقارب التركي الأسدي، ونقل تلك “السعادة” معه إلى أنقرة، لكن موسكو يبدو أنها كانت غير متحمّسة لاستقبال المعبّر عن السعادة، فأجّلت زيارته إليها، بالرغم من أن الزيارة جرى ترتيبها في اتصال هاتفي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، وربما فضّل ساسة الكرملين التريث بانتظار ما تتمخض عنه زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، إلى واشنطن للقاء وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن.
ويشي كل هذا الحراك الديبلوماسي أن كلاً من إيران والإمارات تريدان أن يكون لهما دور، إما للعب دور الوسيط الحاضر كقوة ناعمة في حالة الإمارات، أو كقوة فاعلة في الملف السوري في حالة إيران، باعتبارها دولة توجد عسكرياً ومليشياوياً على الأرض السورية، وصرفت الكثير، سياسياً واقتصادياً، دفاعاً عن نظام الأسد، لذلك ليس مستغرباً أن يدور حديث عن استياء ساسة النظام الإيراني من بشار الأسد، لأنه لم يتشاور معهم قبل إرسال وزير دفاعه إلى موسكو، بالتزامن مع ما يشاع عن رفضهم تقديم قروضٍ ماليةٍ جديدة لنظام الأسد قبل أن يسدّد ثلث قيمة ديون سابقة مترتبة عليه وتفوق المليار دولار.
وفي المقابل، هناك الولايات المتحدة التي على الرغم من عدم اهتمامها كثيراً بالملف السوري، إلا أنها لا يمكن أن تبقى على الحياد حيال التطبيع التركي مع نظام الأسد، حيث أعلنت، في أكثر من مناسبة، رفضها تطبيع بعض الأنظمة العربية مع نظام الأسد، وعدم تأييدها التقارب التركي الذي يمكن أن يغير حسابات وتوازنات قائمة في الوضع السوري والمنطقة.
ويبدو أن بازار التقارب التركي مع نظام الأسد قد فُتح، لتدخل من بابه المزايدات بين الأطراف المتدخلة في الشأن السوري، حيث بدأ كل طرف يقيم حسابات مصالحه فيه، فيما راح الطرفان التركي والأسدي يضعان مطالبهما أمام الطرف الآخر، والتي تبدو كأنها شروط مسبقة قبل إتمام صفقة التقارب وعقد المصالحة، وخلال مماحكات البازار استعان نظام الأسد بموقف حليفه الإيراني، كي يستقوي به ويرفع من سقف مطالبه، وهو ما جعله يذهب إلى حدّ إعادة التأكيد على شرطيه الأساسيين، المتمثل أولهما بإنهاء “الاحتلال التركي للأراضي السورية”، وثانيهما وقف كل أشكال الدعم التركي للمعارضة العسكرية والسياسية، الأمر الذي قابله الطرف التركي بالردّ على شروط النظام من خلال التذكير بأن تطبيع العلاقات معه ليس الخيار الوحيد أمام تركيا، وأن العملية العسكرية في الشمال السوري ما تزال على جدول الحكومة التركية، ويمكن أن تبدأ في الوقت الذي تراه مناسباً، حسبما جاء على لسان الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن. واللافت أن مستشار الرئيس التركي ياسين آكطاي رفع سقف المطالب التركية، في مقال صحافي له، داعياً إلى فرض “سيطرة تركيا على مدينة حلب”، بوصفها السبيل الوحيد الممكن لتأمين عودة مليوني لاجئ سوري في تركيا. وسيرفض نظام الأسد هذا الطلب، ولا يريد الاستماع إليه.
والمثير للاهتمام أن اجتماع وزير الخارجية التركي بنظيره الأميركي لم يسفر عن أي تغير يُذكر في مواقف الجانبين، إذ لم يشر بيان الخارجية الأميركية إلى أي نقاش بين الوزيرين بخصوص التطبيع التركي مع نظام الأسد، فالمواقف ما تزال متباعدة، ولا مؤشّرات على وجود مقايضات في هذا المجال، حيث أتى البيان المشترك بعد انتهاء الزيارة على إعادة تأكيد التزام الطرفين بعملية سياسية بقيادة سورية، وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254، والحفاظ على التنسيق بينهما في محاربة الإرهاب، خصوصاً تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحزب العمال الكردستاني، أما جاووش أوغلو فكرّر الحديث عن استعداد بلاده للتعاون مع الولايات المتحدة، من أجل إعادة التركيز على سورية، لكنه، في المقابل، أعاد التذكير بأن واشنطن لم تف بوعودها السابقة، وخصوصاً موضوع خريطة الطريق الخاصة بمدينة منبج، التي كانت تقضي بإبعاد عناصر قوات سورية الديمقراطية عنها.
ويبدو أن معوقات وتعقيدات كثيرة باتت تعترض اللقاء بين وزير الخارجية التركي ونظيره في نظام الأسد، خصوصاً أن الساسة الأتراك سبق أن أرجعوا أسباب عدم عقده في يناير/ كانون الثاني الجاري إلى أن الموعد لا يناسب أنقرة، ثم عادوا إلى الحديث عن تأجيله إلى أوائل شهر فبراير/ شباط المقبل، ثم إلى منتصفه، مع عدم الجزم بالموعد الجديد المحتمل له. وذلك كله يدلّ على خطوات التقارب التركي مع نظام الأسد، باتت تستلزم تدخلاً من الساسة الروس، كي يضغطوا على النظام للقبول بما يقترحوه حول توسيع اتفاق أضنة عام 1998، بغية تسهيل خطوات التقارب، التي لهم مصلحة فعلية في تسريعها، وصولاً إلى عقد لقاء بين بشار الأسد والرئيس التركي أردوغان، والتمكّن من مساعدة الأخير في الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا، للاستمرار في تأمين ما تحتاجه روسيا من تركيا في ملفاتٍ عديدة.
المصدر: العربي الجديد