كيف نبتكر لأنفسنا واقعًا جديدًا، نعيش فيه، ويقينا الموت المبكر المستمر؟ هذا السؤال مهمٌ لأن الواقع في سوريا قد مات، وصارت واقعة الموت تحتل مكانه، وكأنها عملية تبادل وظيفي بين الواقع والعدم، صارت معها سوريا في الـ “لازمان”، ومن ثم صار السوريون وكأنهم غيرُ موجودين في حسابات الدول، حتى تلك التي تدعي أنها الأقرب إليهم.
وفي سوريا اليوم، يتطابق الإنتاج السياسي للواقع مع الإنتاج السياسي للحياة. وقد نفكِّر في تأويل صرخة السوري العادي “ما إلنا غيرك يا الله” من هذه الزاوية؛ فالعاديون المجتمعون يطوِّرون ما يمكن أن نسميه “ذكاءَ التنسيق” وهو ذكاءٌ شديد، وقد نقول إن ذكاءهم هذا قد قادهم إلى تشخيص حالتهم بأنها حالة الوجود في الـ “لا ـ زمان” بعد موت الواقع، وبما أن النظر من الـ “لازمان” مسألةٌ لا تتقنها إلا عين الله؛ فإن شعارَ السوري العادي “ما لنا غيرك يا الله” تعبيرٌ ذكي عن “لا ـ واقعه” المؤلم. هذا الشعار إذًا، ليس شعارًا إسلاميًا، أو دينيًا، أو تقليديًا، بل شعارٌ سياسي ينهل من فلسفةِ الجمهور الفطرية، ومن ذكاء التنسيق، ويجعله فائضُ التنسيق حيويًا. ويمكن أن نفترض أن سلوك السوريين العاديين، وخطابهم، مضبوطان بالعموم بهذا النوع من ذكاء التنسيق.
ويمكن أن نلخِّص المسألةَ ونبسّطها أكثر فنقول: لأننا من دون واقع نحن نعيش واقعة الموت، يعني أن علينا أن ننتج واقعًا جديدًا، أن نبتكره ونبدع في إنتاجه. ولأن الموت لا يُحارب إلا بالحياة، علينا أن ننتج الواقع حيويًا: علينا أن نحيا، وأن ننتج الحياة، معًا. ولأن الإنتاج السياسي الحيوي، والعمل التعاوني، مفهومان متلازمان؛ فإن الإنتاج السياسي الحيوي لا يزال مرتبطًا بفعل التنسيق بوصفه بديلًا لمفهوم الواحد العضوي: الحزب الواحد، والقبيلة الواحدة، والإثنية الواحدة، والـ “نحن” العصبية الواحدة بوجهٍ عام.
ينتج التنسيق تنظيمًا سياسيًا حيويًا، يوجد فيه الأعضاء كلُّهم في مستوى واحد، ويتفاعل بعضهم مع بعض في المستوى ذاته. ونقترح أن الإنتاج السياسي للحياة في هذا الراهن السوري، هو الذي يساوي، ويتضمن بالضرورة، النقاط الخمس الآتية: الأولى تأميم السياسة في سوريا، والثانية نسميها رفض المُماثلة العصبوية، والثالثة هي العاديّة (من عادي) وإبداع الجديد، والرابعة ذكاء التنسيق، والخامسة والأخيرة هي المحبة سياسيًا. ونقترح أن النقاط الخمس السابقة، مُهتمًا بها من قبل السوريين العاديين، كفيلةٌ بخلق واقع جديد بصورة تدريجية متسارعة، وقادرة على إنتاج الحياة سياسيًا، وقد تكون حاملة لمشروع التحرير الوطني بكليته. وفي الآتي، نفرد المعنى الذي نتصوره لكل نقطةٍ من النقاط الخمس على حدة.
تأميم السياسة في سوريا: هي ضرورةٌ لازمة، لأن العمل بالسياسة لا يتم من دون امتلاكها بوصفها ملكية عمومية لا يمكن خصخصتها، وعليه ينبغي البدء من إعادة ملكية السياسة الوطنية إلى السوري العادي، بعد أن وزعها النظام والمعارضة على غيرهم. واقترح الكاتب في هذا السياق تأميم السياسية بموجب بيانٍ تاريخي شعبي أورد له محاكاة في مادته المنشورة في جريدة العربي الجديد بعنوان “بيان تأميم سوريا.. محاكاة قرار تاريخي لحلٍ نهائي” بتاريخ 22-11-2022.
رفض المُماثلة العصبوية: المُماثلة العصبوية مصطلحٌ نريد منه أن يصف ظاهرة المُماثلة بين البنية العصبوية لجماعةٍ قائمة على الرابطة العصبية السابقة على الفرد، وبين البنية الوطنية أو بنية المجتمع السياسي التي هي بنية الدولة، والتي تُبنى على التعاقد العمومي الواعي بين الأفراد. وعلى ذلك تُفسِّر المُماثلة العصبوية نظرةَ فئةٍ معينةٍ إلى الدولة بوصفها التي ينبغي أن تكون متطابقة مع تركيبتها العصبية والاجتماعية. نضع فيما يأتي بعض الأمثلة التي قد تفسر هذا المصطلح أكثر: ترى جماعاتٌ إسلامية أن الدولة إسلاميةٌ بالضرورة أو لا تكون، وترى جماعة إثنية مؤدلجة أن الدولة ينبغي أن تكون مثل أيديولوجيتها أو لا تكون، كلا الجماعتين تُماثل عصبويًا. وأيضًا، تصر فئة على “عربية الدولة” مثلًا، في حين إن الدولةَ دولةٌ فحسب، من دون أي صفة سوى أنها وطنية بطبيعة الحال. والمماثلة العصبوية موجودة أيضًا على مستوى الجماعات الأيديولوجية التي تبدو سياسة مثل الجماعات اليسارية الأيديولوجية التي تسعى إلى دولة بروليتاريا، والعلمانوية التي حوَّلت العلمانية إلى شعارات فارغة المضمون، وتسعى إلى دولة علمانية أيديولوجية، وكثير من الأحزاب القومية مثل كثير القوميين العرب والأكراد، وإلى ما هنالك. عليه يعني رفض المماثلة العصبوية رفض الأيديولوجيات كلها، ويعني رفض النظام بطبيعة الحال الذي يريد سوريا الأسد، ويعني رفض المعارضة أيضًا التي لم تؤتمن على العمومي السوري وخصخصته حسب ميولها الأيديولوجية.
العاديّة: هو مصطلح نريد منه أن يناهض كلَّ تفكيرٍ أيديولوجي بوصفه مقلوبًا ولا ينتمي إلى ما بعد 2011، وفي هذا السياق يمكن مراجعة مقالة الكاتب المنشورة في جريدة العربي الجديد بعنوان “السوري العادي والسوري المقلوب” في 25/4/2022. تُنتَجُ العاديّة من فائض تنسيق العاديين بعضهم مع بعض، وفي اللحظة التي يصير التنسيق فيها منتجًا للثقة، ومن ثم لرأس المال الاجتماعي، يصير التنسيق فائضًا عن فكرة التواصل، ويبدأ تراكم هذه الفائض بالعمل على تشكيل شبكات ثقة وطنية عصرية، مدينية بالضرورة، تكون نواة ابتكار سوريا الجديدة، تتجاوز الانتماءات العضوية والروابط التي تقوم على صهر البشر، إلى روابط التجسير، واحترام الفرد، وتمكينه ليكون نواة فكرة الوطن والمواطنة.
ذكاء التنسيق: قد يبدو النسق الناظم لشبكات الثقة غير قابلٍ للفهم بالنسبة لهؤلاء الذين يُفكِّرون بصورة كلاسيكية لا تجديد فيها، ذلك لأن الشبكة التي تعمل من دون رأس بالنسبة للكلاسيكي ليست إلا فوضى وعفوية وغياب تنظيم. وهذا النوع من النقد طال الثورة من قبل كثيرين من أصحاب العلم والمعرفة غير المحدَّثة بعد 2011، والذين توقفت العلوم السياسية عندهم عند ميكافيلي، وماركس ولينين في أحسن أحوالهم. في الحقيقة للتنسيقية (نواة الثورة) عقلٌ خلاقٌ ومبدع لا مركز له، يعمل بمساعدة ذكاءٍ شبيهٍ بـ “ذكاء السرب” (Swarm intelligence) في العلوم التكنولوجية، الذي لا يشترط إدارة مركزية للعملية أو نموذجًا معدًا مسبقًا، ونميل إلى تسمية هذا الذكاء “ذكاء التنسيقية”. لا يشترط هذا النوع من الذكاء الجماعي أذكياء أو مبدعين، كل ما يحتاج إليه هو اختلاف العاديين، والتواصل بين هؤلاء المختلفين، وهذه فكرة صعبة الفهم من قبل الكلاسيكيين والمقلوبين كلهم.
المحبة سياسيًا: أسمى أفعال الخير ما يكون بدافع الحب، وأفضل العمل العمومي ما يكون بدافع الحب أيضًا. هؤلاء الذين يمتلكون ما يكفي من الجسارة ليمارسوا الخير، لا بدافع الطاعة (أو الاستعراض) بل بدافع الحب، هم الذين “ارتفعوا فوق مرتبة القانون” (بتعبير سبينوزا). الارتقاء الأخلاقي فوق مرتبة القانون بهذا المعنى ضرورةٌ لتأسيس السياسة من اللاسياسة التي بحوزتنا الآن، ومن ثم شرط بناء القانون واحترامه. عندما يشكل هؤلاء المُرتقون أكثرية سياسية وأخلاقية يصير مستقبلنا بوصفنا شعوبًا حرة مستقبلًا ممكنًا. يعني لا معنى لأي أكثرية أو أقلية، ولا لأي مستقبل مُمكن من دون الحب، ولا معنى لأي سياسة مؤسِّسة للمستقبل من دون الحب؛ فالسياسة، التي تؤسس لبناء الوطن والإنسان الحر، هي فن تدبير الحب. والحب بوصفه مفهومًا سياسيًا، يصير ضامنًا للسلام وللحالة الوطنية، وعليه ففي أوقات التأسيس وأوقات الحروب ينبغي دائمًا التفكير في الحب بمفردات اجتماعية سياسية، وإيلاء المحبة أهمية في الخطاب السياسي. وقد يكون لمفردة الحب أهمية استثنائية في تمييز العادي من المقلوب، وتبدو وفرة الحب عند أحدهم مؤشرًا مهمًا على أنه عادي؛ فالعادي يمتلك بالضرورة حبًا إبداعيًا لكل ما هو حيوي. وثمة ظواهر نراها بصورة يومية مثل الأنا السياسية المتضخمة، والاستعلاء على السوريين، والاستعراض والتباهي، والعمل بمبدأ “إما لعيب أو خَرِّيب”، ونَسب كل نجاحٍ إلى الذات وكل إخفاق إلى الآخر. هذه كلها ظواهر تصدر مِمَّن يعانون نقصًا في مخزون المحبة، وفي مخزون التربية أيضًا.
ختامًا، وعلى ذلك كله، قد يكون إعلان حركة مدينية تنسيقية تحمل مشروع التحرير الوطني، هو أهم استحقاقات الراهن السوري. تضم الحركة من أراد من السوريين العاديين غير المرئيين، مع التركيز على الشباب منهم، الذين يلتقون تواصليًا، وينسقون بموجب النقاط الخمس السابقة (بعد نقاشها وصقلها عموميًا)، ثم يُترك للعملية التنسيقية الوليدة أن تشق طريقها اعتمادًا على مبدأ ذكاء التنسيقية. لا يتضمن هذا النوع من التنظيمات أعباء تنظيمية شكلية، بل نقترح أن يتضمن علامة تُميِّز أعضاءه بوصفهم الذين يعملون بموجب النقاط السابقة، فحسب. قد تكون هذه العلامة قمصانًا بيضًا مثلًا، أو عصبات بيض، دلالةً على العاديين غير المرئيين في السياسة، أو يمكن أن يكون أي لونٍ آخر يحمل هذه الدلالة بطريقة أو بأخرى. قد يكون العمل بهذه الطريقة هو الأفق الوحيد المُمكن حاليًا لاستئناف سيرة الثورة الأولى. هذا الحل ممكن لأنه بين أيدينا، نمتلكه، أما الدولُ فهي لأصحابها وليست لنا، ولا ضمانة أن نؤثر في قراراتها ما لم نمتلك قرارنا أولًا (هذا ما عكسه شعار “سمع صوتك لتركيا.. نحن أصحاب القضية” في مظاهرات الشمال الأخيرة). إن لم تنجح حركة الأردية البيضاء هذه في صناعة مشروعٍ وطني جديد، فإنها في أضعف الإيمان ستشاغب بإيجابية، وستقول إننا، نحن السوريين العاديين، لا نزال موجودين نمتلك ذواتنا، وقادرين على الحياة وإنتاج السياسة على الرغم من كل شيء، وإننا سنصنع واقعًا حيويًا في بلدنا، وسننهي احتكار واقعة الموت للواقع.
المصدر: تلفزيون سوريا