تتغيّر طرائق حلول المشكلات بتغير طرائق فهمنا هذه المشكلات. لذلك يمكن القول إن التقدّم في ابتكار حلول ناجعة للمشكلة السورية مرتبط بفهمٍ أدق لجوهر هذه المشكلة، ومن ثم بتصورٍ جديد لها، ولحلولها بطبيعة الحال: أي إنه مرتبطٌ بفهمٍ ومفهومية معاصريْن، يؤديان إلى تغيير مقارباتنا لجوهر المشكلة وممكنات الحل. والفهم الذي نقصده ليس على مستوى آليات السياسة وطرائق العمل والتنظيم، مع أنه مهم، بل على مستوى إعادة فهم جوهر الصراع وطبيعة المشكلة السياسية، لأن غياب فهمٍ دقيق على هذا المستوى يؤدّي إلى غياب الأهلية اللازمة للحل. وتطرح هذه المقالة، في هذا السياق، أن المقابلة الجوهرية ليست بين منظومة الطغمة الحاكمة التي قامت الثورة ضدها، ومعارضة سياسية أو عسكرية ساندت الثورة، بل بين منظومةٍ قبليةٍ عصبيةٍ أيديولوجيةٍ يتحكم فيها نمط تفكير ينتمي إلى ما قبل 2011، وتضم النظام والمعارضة معًا، ونمط مديني يحكمه تفكير عصري ينتمي إلى ما بعد الـ 2011. وهنا نحن نتحدّى صلاحية الثنائية (نظام، معارضة)، ونطرح زيفها بوصفها تفكيرًا غير واقعي، لم ينظر إلى مفاعيل الزمن المتسارعة. وتصير المعارضة، من هذا المنظور، أقرب إلى النظام منها إلى الثورة، مع أن الفرق الأخلاقي شاسعٌ بين الاثنين، فمهما تحفّظ المرء على أداء المعارضة وماهيتها، لن يصل إلى مساواتها أخلاقيًا بالطغمة الحاكمة التي تجاوزت سفالتها أكثرَ خيالاتنا بشاعةً وتشاؤما؛ ففي التصنيف الأخلاقي، ومن دون شك، لا يمكن جمع الاثنين، ولكن في التصنيف السياسي الذي ينظر إلى الأمور من جوهرها ينتمي الاثنان إلى ما قبل الـ 2011، وإلى زمان ما قبل العمومي السوري…
ولكي نعرف أكثر بعض ما يعنيه ذلك، نحكي الحكاية السورية من بدايتها بطريقة ثانية كالآتي:
تنامى إحساس السوري بحاجته إلى إعادة ملكية وطنه (سورية لينا وما هي لبيت الأسد)، واسترداد كرامته (الشعب السوري ما بينذلّ). ولتلبية هذه الحاجة، دخل من بابٍ جديد هو باب “العمومي”، والعمومي غير العام، وهو ليس رفضًا لخصخصة الوطن التي فرضها النظام فحسب، وليس تكوين رأي عام فحسب، بل يتعدّى العمومي ذلك كله إلى مجموعة النقاشات العلنية والمفتوحة والحرّة، والتي تعترف بكل فردٍ وبكل ثقافةٍ وبكل جماعة، ولا تلغي أو تقصي أحدا. وعلانية هذه النقاشات هي بالتحديد ما يكسبها صفة العمومية. وتخلق العمومية فضاءً غير منتهٍ يتسع للجميع، اسمه “الفضاء العمومي”. وبهذا المعنى، صار الشعب السوري كله مؤهلًا للعمومي مع ثورة 2011. ولا يتواصل البشر في الفضاء العمومي بالكلام أو بالحديث أو بالأخبار، بل يتواصلون بالخطابات. والخطاب، بهذا المعنى، جزءٌ من التصور البنائي للمجتمع السوري، وهو وحداتٌ تواصليةٌ مضمنة في الممارسات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وكما كوّنت الثورة خطابا، فإن الخطاب كوَّن الثورة أيضًا، والخطاب بالضرورة أحال الثورة على مفهوم السلطة، بما فيه من فعلٍ في الأفعال، فهو أداةٌ من أدوات السلطة، يبني سلطةً ويلغي أخرى، وهو سلطةٌ بذاته. هكذا نقول إن الثورة أضافت إلى الباراديغم (النموذج) السياسي السوري خطابًا غير خطاب النظام، وأيضًا غيَّرت في خطاب النظام؛ فبعد أن كان لدينا قبل 2011 خطابٌ أوحد، يقوم على تسخيفٍ ممنهج للحياة، ويتسم بالشعبوية والتوليتارية، حاولت مواجهتَه معارضةٌ هزيلةٌ بعقل توصيفي حالم، لم يصنع خطابًا ناجزًا، وظل حبيس حدود “حيزٍ نخبوي” لم ينطلق إلى العمومي، أو لم يتمكّن من ذلك؛ صار لدينا بعد الـ 2011 خطابان: خطاب النظام الذي صار “معي أو ضدي” و”أنا أو لا شيء”، وخطاب الثورة التي أدخلت العمومية إلى السياسة السورية الباطنية؛ فتغير الخطاب الذي يقاوم النظام من عقلية المعارضة النخبوية الضيقة الضعيفة إلى الذهنية العمومية المفتوحة، القوية التي يشارك فيها الكل. وتغير مكان الخطاب من أماكن مغلقة محدودة، مثل المنتديات وبيوت المعارضين، إلى مكان مفتوح في الشوارع والساحات. ولم تتمكّن المعارضة السياسة التقليدية من التقاط هذا التغيير ومواكبته، وتطوير نفسها بموجبه، لكنها ظلت نخبةً متعالية. ولذلك يمكن أن نقول اليوم إن مضمون خطاب الثورة في العمق كان نقيضًا للنظام والمعارضة معًا، لأنه صار مضمونًا مفيدًا يستند إلى فكرةٍ جوهرُها أن السوري أصبح ذاتًا مُفكِّرة بعد أن كان موضوع تفكيرٍ مُفكَّرًا فيه من نظامٍ سلطاني مجرم أو من معارضةٍ نخبوية.
هكذا تكوَّن بعد 2011 سوري جديد، هو الذات وهو الموضوع في الوقت نفسه، وهذه أهم ميزات هذه اللحظة التاريخية: فيها كانت الوطنية السورية لأول مرةٍ تفكر في ذاتها من دون أوصياء عليها. ولذلك نقول إن الثورة كانت ضد ذهنية الوصاية التي تضم النظام والمعارضة معًا، وثورةً عليهما معًا، ولكن الجانب الأخلاقي هو الذي جعلها تبدو كأنها ثورةٌ على النظام فحسب، فلا شيء في هذه الدنيا ينافس النظام في سفالة أخلاقه. يمكن الآن أن نتأمل كم كان، ولا يزال، تمثيلُ المعارضة الثورةِ سياسيًا فعلًا منافيا للمنطق السليم، وسببًا لغياب الحل وترسيخ بديهيةٍ كانت تحتاج مساءلةٍ لم تتم، وهي بديهية النظر إلى الصراع السياسي بوصفه بين نظامٍ ومعارضة، فيما الحقيقة إنه صراعٌ بين ذهنية تنتمي إلى قبل 2011 وأخرى تنتمي إلى بعدها. وإنها لسخرية فاحشة أن يكون من يفكّر بعد 2011 خارج السياسة السورية، وأن تكون الثنائية (نظام، معارضة) هي السائدة. وأدعو كل المشكّكين بهذه المقاربة إلى الالتفات إلى سمعة المعارضة بين السوريين منذ اللحظات الأولى للثورة، وتعليلها خارج الأفق التقليدي الذي يردها إلى تضخم الحريات.
من هذه الأرضية، يمكن أن ننطلق في التفكير في سؤال ما العمل، ولنفكّر في المسألة كالآتي: ماذا لو عدنا إلى فرض سلطةٍ تشبه في روحها سلطة 2011، بوساطة التواصل بالخطاب، بهدف ابتكار خطاب جامع، يفرض سلطة تواصلية سورية يتشاركها الجميع، ومنها يستمد السوريون كرامتهم، سلطة قادرة على إنهاء إمكانية فرض أي أنموذج مسبق على السوريين، وإنهاء الحواجز المكانية بين السوريين التي عمل على ترسيخها النظام، واستمات في تقويتها، مثل داخل/ خارج، مدينة/ ريف، شرق الفرات/ غرب الفرات، إلى ما هنالك. من دون شك، ستبدأ هذه السلطة التواصلية بالعمل لمصلحة السوريين وأهداف ثورتهم من اللحظة الأولى، ولكن كيف ستتكون؟ هذا سؤال سياسي، له إجاباتٌ على أكثر من مستوى، ولكن أكثرها أهميةً هو المستوى المفهومي، الذي يبدأ بتصوّر الخطاب الوطني الجامع، فالخطاب يمتلك قوة هائلة في هذا الزمن السوري المعاصر لبناء سلطةٍ سوريةٍ إيجابية تفرض نفسها على النظام، وعلى العالم كله. وفي سياق تصوّر هذا الخطاب، ننطلق من التوق إلى الحياة الذي يتشاركه السوريون كلهم، ويمكن تتبعه في الخطابات العفوية المختلفة، مثل خطاب الموالاة (كنا عايشين)، وخطاب الثوار المنهكين (بدنا نِخلَص)، وخطاب الـ “ما بين” (بدنا نعيش). تشترك هذه الخطابات وغيرها في إرادة حياة واضحة، يمكن أن تكون منطلقًا في بناء الخطاب الجامع، بحيث يستفز إرادة الحياة الخيرة والآمنة لدى السوريين، وهي إرادة تمرّ بالآخر بالضرورة؛ فتصنع جماعة مدينية تراكم لنفسها رأس مال اجتماعي وطني. خطاب الحياة وطني، ونقيضٌ لخطاب الحرب والكراهية وخطابات القتل، سواء قتل الآخر أو قتل الذات بخطابات التضحية والاستشهاد والجهاد وغيرها. وهو خطابٌ متحرّرٌ من خطاب النظام بطبيعة الحال، ومن خطاب المعارضة بالضرورة، يحرّر فكرة الحرية من احتكار المعارضة، ويصنع سلطة تحريرٍ وطنية شاملة، لا تقيم وزنًا لطقوس المعارضة السياسية التي بموجبها صار خطاب شباب التنسيقيات مثلًا خطابا رديئا برأي بعض المعارضين، وكأن الرداءة هي تجاوز الطقوسٍ المسبقة الجامدة! الطقوس نفسها التي تجعل من معارضٍ معتدٍّ بذاته يستنتج بفوقية أن “سورية لا تمتلك سياسيين جيدين!”. بصورة عامة، سلوك المعارضة مذهبي، والمذهبية نقيض الخطاب الوطني العمومي الذي يستهدف الحياة ويمر بالآخر بوساطة الفهم والتفاهم، والمعارضة النخبوية السورية التقليدية كانت ولا تزال مذهبًا هشًا، لا يرتقي إلى تكوين هذا النوع من الخطابات الكونية في ظروف استثنائية.
وأخيرًا، من لا يفكر في الخطاب التواصلي الذي يستند إلى حب الحياة والمغايرة والحضور الدائم للآخر ما زال كائنًا غير زماني يفكر قبل 2011، أو كائنًا لا يُفكر. والتفكير الذي ينتمي إلى ما بعد 2011 هو الذي يوحّدنا في مشروع تحرّري وطني تواصلي، يتجاوز النظام والمعارضة معًا، ويبني لنا سلطةً لامتلاك مشكلاتنا وتحقيق كرامتنا، وهذا هو حل المسألة السورية النهائي والوحيد.
المصدر: العربي الجديد
Tareq Khatib
Khaled Hamoud لم أكـن أرغب اطلاقا المداخلة…. ؛ والسبب يعرفه كل من يعرفني..؛؛؛ ألا وهو ظهور العلم المتصهين كرديا…في الصورة أعلاه ، هدرا والغاء لأقدس شعار اخترناه بوحدتنا وناصرنا .. ؟؟…ولا أرغب الاستفاضة وتكرار ما كررته عشرات المرات .؛؛ …المهـم, مداخلتي هنا تبـدأ بالقول (( الحــوار…عـــار ..؛؛)) ..منّ يحاور مــنّ؟؟ وحول ماذا ؟؟ وما هي مصيبة الوطن ؟؟؟وكيف للضحية محاورة القاتل المجرم ؟؟؟ ..الحــوار وأكرره للمرة الألـف ..هو ؛ نقاش وحـول أمــر …( مشــّـترك؛؛ ) ومختلـف عليه ؟؟ بين جهتين تملكان شرعية ..الحوار بغية التسوية المشرفة لكلا الطرفين ؟؟؟؟ وأتساءل ما هي الكارثة ؟ والأمر والذي لم يزل ( مشتركا ..) يجمع بين الوطن و مواطنيه والعدو النصيري السفاح..؟؟؟ وبايــة شـرعية ( أحـلـّـــلّ ) للعدو النصيري حق الجلوس محاورا ؟؟ ..مشرعا لـه مكانا أحرقـه هو ..وبالدم الذي لم يزل وسيبقى حارقا لأية هلامية كانت ؛؛ تربط النصيري السفاح بالوطن ومواطنيــه ؟؟؟ أما مقولة ( فشــل السـلاح…فهو منطق مرفوض يتعارض مع شرف واهداف اية ثورة تحررية..) وأكرر وبالحاح واصـرار بأن (( التطهيـــر؛؛؛ هو الطريق الأوحد والأشــرف ..للتحرير….؛؛؛ )) فالخلايا السرطانية ..لا تعالج بالمراهــــــم …بل بالاستئصال جذريا..أو الحرق؛؛ شعاعيـاوكيمياويـا.. د/ طارق الخطيب ـ القوميون العرب