الواقع السوري بين المعارضة والنظام

يونس العيسى

على مدى سنوات فقدت الثورة السورية عنصر النقاء الثوري وازداد حجم الاصطفاف الحزبي والفئوي الذي همه تحصيل المكاسب والسلطة،

ومن يتدبر أحوال الثائرين المستجدة، أو ما يكون من شأنهم حين يمسكون زمام الأمور، سيجد أن للسلطة سكرة لا تختلف في الثوري عنها في الرجعي.

فالثورية ليست صك براءة ولا هي ضامنة أن يكون من انتسب لصفوفها ذا قيمة وأخلاق، وإذا كان ثمة في الثائرين من حافظ على شفافية روحه ومن أتقى أن يظلم أحدا، أو أن يجرح كرامة أحد، فإن ذلك إنما تحقق له على الرغم من ثوريته لا بها.

الائتلاف الوطني السوري المعارض، الذي تسيد تمثيل الثورة السورية سياسيا، أطلق ما سماه عملية الإصلاح داخل بنيته.

وتوالت الإقالات والفصل والانسحابات من داخل كيانه، وانقسم على نفسه حارتين “حارة أبو النار، وحارة الضبع” كما في مسلسل باب الحارة الذي تابع الكثير من السوريين حلقاته على مدى أعوام، وأصبحت حارات الائتلاف تتبادل فيما بينها الاتهامات بالعمالة لنظام الأسد.

وتدعي حارة على الأخرى أن الائتلاف قام بعملية انقلاب، وسمت نفسها “تيار الإصلاح” والحارة التي أبعدتهم عن مكونها الأساسي “الائتلاف” تدافع عن ذاتها بالمفردات نفسها التي كان يرددها نظام الأسد، حركة تصحيحية، وبعد عام 2000 التطوير والتحديث.

سوريا إلى أين؟

هذه الاتهامات فيما بين حارات الائتلاف، لم تذكر من قبل ولم تثر قادة الائتلاف في ندوة الدوحة والتي كان عنوانها “سوريا إلى أين” ولا يشير إلى اختلاف بين حارات الائتلاف، وأصدرت بيانا تؤكد وحدتها واستمراريتها في معارضة الأسد وليس معارضة نفسها، ولم تناقش وترد على تصريحات وزير خارجية قطر الأسبق، حمد بن جاسم، الذي وصفها بمعارضة “سَلَطة” ومخترقة من نظام الأسد، وهو ما أكده أيضا وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، محي الدين الهرموش.

تصريحات الوزير الهرموش ومن قبله وزير الخارجية القطري الأسبق، سبقتها تغريدة بنهاية الشهر السادس من عام 2018 على تويتر لمراسل قناة “الجزيرة” القطرية رائد فقيه يشابه مضمونها شهادة الوزير الهرموش.

ورائد فقيه عمل مراسلا لقناة “الجزيرة” للشؤون الدبلوماسية من مقر الأمم المتحدة في نيويورك منذ مطلع العام 2014، وقدم العديد من التغطيات المتعلقة بجولات المفاوضات بين وفدي نظام الأسد والمعارضة السورية، لينتقل بعدها للعمل في مقر “الجزيرة” في الدوحة ومازال على رأس عمله.

خلافات حارات الائتلاف وكيل الاتهامات فيما بين قبضاياتها، أعادت لأذهان السوريين وجعلتهم يعيدون حلقات سابقة من مسلسل باب الحارة الذي مازالت أجزاؤه متوالية حتى الوقت الراهن، ففي هذا المسلسل هناك حارتان، جاء لإحداهما “مأمون بيك”، يدعي أنه أحد أبنائها، وهو الذي يخفي خلف ستارها، شخص الضابط المتعاون مع الاحتلال الفرنسي، ويقوم بمهمات استخبارية، باسم الملازم نمر !

مأمون بيك، ظهر في الدور الذي أداه في باب الحارة شخصية مخادعة ومراوغة، استطاع التسلل إلى قلوب أهل الحارة، واستطاع بماله ونفوذه وتاريخه المبهم، أن يتزعم مضافة الحارة، وقام من خلالها ببناء شبكة لتنفيذ الدور الذي أوكل له وبما يحقق أجندة الدولة التي تدعمه.

أعوان مأمون بيك وخاصته اختارهم أيضا من القاع ليستغل هو رغبتهم الجامحة بالحصول على السلطة والمال والتسلق من القاع إلى ما يطمحون إليه.

شخصية درامية

مأمون بيك شخصية درامية وليست سياسية، جسد صاحبها بالتمثيل نزاهته وانتماءه للأرض والوطن، وأظهر حرصه على تمثيل أهل بلده وحل قضاياهم ومشاكلهم ولكنه في الواقع عكس ذلك تماما، اسم مأمون بيك تجلى كثيرا في الثورة السورية على بعض الأشخاص الذين تسيدوا الثورة السورية في مختلف مواقعها، وهم يحملون صفة مأمون بيك، ويتوسع نفوذهم أكثر فأكثر.

أصبح أولاد مأمون بيك يتاجرون بالثورة من خلال مشاريع وهمية لم تنتج أثرا على الأرض وقبضوا من خلالها ملايين الدولارات.

وكلاء مأمون بيك، لا يكابدون ما يكابده الشعب السوري الثائر والمهجر، وخلاف مأمون بيك يعيشون هم وعائلاتهم وأولادهم ويسكنون في حارات ودول الخارج، ويقيمون بزيارات إعلامية لوكلائهم في المناطق المحررة.

الهوية الوطنية السورية يعمل أولاد مأمون بيك على تحطيم نسيجها وبأدواتهم المختلفة الهادفة لتدميرها، من خلال برامج ظاهرها الديمقراطية والتحرر وباطنها التبعية والانحلال.

(المأمونيون) ينخرون الثورة السورية، ولا أحد ينكر ذلك، فقد بينت الأحداث السابقة وجود قوة تعمل في الظلام.

هل هذا الجهاز يعفي من المساءلة ويمنح صك براءة ويسمح للمغرر به بإعادة تشكيل حزب آخر يمارس من خلاله حب الرئاسة والزعامة، ويخوله بتأليف كتب وإلقاء محاضرات بممارساته وتجاربه الحكيمة والرائدة، وكأن الوطن مختبر تجارب؟

تراهن المعارضة السورية على إمكانية نجاحها وفشلها إما تصيب وإما تخيب؟

ريح العواصف الدولية

هذا السلوك الساذج وغير المدروس مع قيادة وعيها هش، وتفتقر إلى الخبرة السياسية، أدى إلى حدوث كوارث بعد أن فعل فعلته بالثورة وأهلها، وجعلها في مهب ريح العواصف الدولية المدمرة، وهذا التناسل الغريب لأصحاب التجارب الانتهازيين والنفعيين جعلهم متسلقين تحت إمرة رؤوس كبيرة، وانتزعوا من الثوار الحقيقيين القرار السياسي الثوري الصائب.

تصريحات المفصولين من الائتلاف وبياناتهم تذكر السوريين مرة اخرى بنائب الأسد الراحل عبد الحليم خدام الذي أعلن انشقاقه عن نظام الأسد عام 2005 ، بعد أن تدهورت علاقته بالوريث، ومنتقدا سياسته واختار باريس منفى له، ودعا إلى إسقاط النظام الدكتاتوري عبر تشكيلة ما سماه حينها “جبهة الخلاص الوطني”

ما أشبه هؤلاء بخدام والذي ظهر على الإعلام حينها مستخفا بعقول السوريين ومهينا لكرامتهم عامدا التضليل وكاشفا لنصف الحقيقة.

المفصولون من الائتلاف والمتأثرون بدراما عبد الحليم خدام لا نمانع من ظهورهم ولهم كل الحق بشرط أن لا يمارسوا تغييبا لعقل السوريين وتكون اعترافاتهم كاملة وغير منقوصة، والشعب السوري الثائر لا يمانع في أن يجلس أعضاء الائتلاف المفصولون ومن يتهمونهم على “كرسي الاعتراف” عبر الإعلام ووسائله المختلفة، ويرحب بذلك وهو أحوج ما يكون له بهذه المرحلة المفصلية من تاريخ الثورة.

ولم تدرك المعارضة السورية أن سبب أزمتها هو ارتباطها بقوى إقليمية ودولية تقوم برعايتها سياسيا وماليا، هذه الرعاية هي «نقطة التمكن» في سيادة وسلامة قرارها وتمارس صراع قواها داخلها بما يخدم أجندتها.

الحاضنة الشعبية

ألا تعترف حارات الائتلاف أن الحاضنة الشعبية للثورة وفي كل المناطق المحررة، فقدت كل الثقة بهم، وتمتلك قرون استشعار فطرية وغربالا يعرف العدو والصديق والمتلون والمتثور والمنافق وطالب السلطة أكثر منهم، بل صارت تعرف المتاجرين بالثورة وتفرق بين الحلال والحرام، بين الكسب المشروع والكسب غير المشروع. وأن أغنياء الكسب غير المشروع هم طبقة جعلت من علم الثورة ستارا لكسبها وتجارتها وسلطتها ولا خوف عليهم ولا يحزنون.!!

الثورة لا يمكن أن تختزل في شخص أو فرد أو حزب أو فصيل، ومشكلتنا في سوريا أن نظام الأسد على مدى سنوات حكمه لم يعترف بأي أخطاء ارتكبها، وكذلك سار البعض ممن تسيد قرار الثورة على نهجه، وكأنه لا يأتيهم الباطل من بين يديهم ولا من خلفهم..!

الإصلاح هو التغيير باتجاه التقدم، وهو نقيض للفساد، لكن هذا المصطلح شأنه شأن المصطلحات الأخرى التي نسمع بها ولا نرى لها أثرا على الواقع، وتصبح عنوانا لبرنامج جماعة أو هيئة، وليس طرح هذا المصطلح أو ما يرادفه دليلا على الرغبة الحقيقية في الإصلاح، فلربما كثير من أولئك الذين يروجون لهذا المصطلح يريدون امتصاص الرغبة في الإصلاح، أو انحناء لمطالب خارجية تنادي بالإصلاح لتغيير شخوص يلبون مصالحها،

الذين ينادون بالإصلاح يقولون إنه تلبية للمصلحة العامة، حارتا الائتلاف كلتاهما تقول إنها تعمل من أجل المصلحة العامة لكن لكل منهما مفهومها، ومن ثم أجندتها تجاه مثل هذا المصطلح، وكذلك الحال بالنسبة لمصطلح الإصلاح.

فإذا كان الإصلاح نقيضا للفساد وهو الكفيل بالقضاء عليه فذلك يعني إقرارا بالفساد، والسؤال من هو المسؤول عن استشراء الفساد بمفهومه الواسع؟ وهل من المعقول أن يقوم بالإصلاح من كان سببا في الفساد؟!

أحيانا يمارس البعض الفساد تحت ظل أو يافطة الإصلاح لأن مصالحهم الذاتية تتطلب هذا النوع من السلوك، والفساد عندما يصبح ظاهرة يجب محاربتها والبحث عن أسبابها، فمعظم الفساد يتم بوعي من الأفراد أو الجماعات التي تمارسه، ويلجأ البعض إلى تقنينه وبرمجته ورسم الخطط لتنفيذه على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال، فكثير من المفسدين يديرون فسادهم بوعي وذكاء وتخطيط، وكثير من حملوا هذا المصطلح أو الشعار وحملته قوى حزبية وسياسية وأسمت نفسها الجماعات الإصلاحية أو الحركات الإصلاحية، لكن ليس بالضرورة أنها فعلا إصلاحية أو قد يراها الآخرون أنها ليست كذلك.

وسمعنا كثيراً بنداءات ومطالبات بالإصلاح لكنها لا تجد الاستجابة الحقيقية مما جعل القوى الخارجية والإقليمية تتدخل لتفرض نفسها في الساحة السورية، وهي بذلك تريد تحقيق أهدافها ومصالحها لا مصالح الثورة..

كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى