نتابع قراءة كتاب الشراقة… للكاتبة سعاد قطناني المنتمية للثورة السورية، الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول. حيث كانت قد نشرت هذه المقابلات في تلفزيون سوريا.
- جرح وتنهيد
– حسن النيفي –
ذهبت الكاتبة الى مدينة غازي عنتاب حيث يسكن حسن النيفي المعتقل السابق في سجون النظام…
حسن النيفي من منبج يدرس في جامعة حلب، كان منتمياً لحزب البعث جناح العراق، مؤمنا بالقومية العربية، وبخط الحزب وقيادته العراقية، مدرك الاختلاف بين البعث السوري والبعث العراقي. كان يرى البعث السوري وعلى رأسه حافظ الأسد مجرد واجهة لتغطية الدور الاستبدادي القمعي للحزب في الداخل و الدور الخياني في الخارج حيث الدخول السوري الى لبنان وضرب الثورة الفلسطينية ومحاولة مصادرتها حتى تخدم أجندة النظام…
في هذه الأجواء كان يرى حسن بعث العراق النموذج الذي يجب أن يُحتذى، وكان مدركا خطورة انه ينتمي لبعث العراق، امنيا على حياته. فهناك احتمال للاعتقال وحتى القتل …
اعتقل حسن مع مجموعة من المحيطين به في حلب من المدينة الجامعية حيث كان يسكن عام ١٩٨٦م. ومن هناك اخذوه الى احد الفروع الأمنية حيث تم التحقيق معه. استعمل الأمن معه كل أساليب التعذيب للإدلاء بما لديه من معلومات…
وبعد اعتقال دام اربعين يوم تم تحويله الى سجن حلب المركزي الذي كانت ظروف الحياة به أفضل كثيرا. واستمر حسن في سجن حلب المركزي خمس سنوات حيث كان يأتيه أهله زيارة وكان معه بالسجن أطياف متنوعة من السياسيين المعارضين إسلاميين وناصريين ويساريين، كان ذلك يخلق فرص تفاعل وتنوير سياسي.
وبعد ذلك تم نقل حسن إلى سجن عدرا في دمشق عام١٩٩٤م، وذلك بعد مضي تسع سنوات على سجنه. وهناك عرض على محكمة أمن الدولة التي حكمت عليه خمس عشرة عاماً . بقي امام حسن سجن ست سنوات أخرى، كان صابراً على ذلك خاصة أنه كان مسجونا في ظروف إنسانية مقبولة…
وبعد سنة من ذلك حضرت لجنة أمنية وناقشت السجناء ومنهم حسن لعلهم يتحولون لمخبرين ويخدمون النظام. حسن رفض أي تنازل. لذلك وبعد سنة من ذلك اللقاء في عام ١٩٩٦م تم إرسال حسن ورفاقه مع ثلاثين من الإسلاميين والشيوعيين الى سجن تدمر… وهناك بدأت حياة جديدة ملؤها القسوة والتعذيب المدروس الذي لا يتوقف على المساجين. خاصة الإسلاميين وبعث العراق…
توسع حسن بالحديث عن أصناف التعذيب والتنكيل وهدر حياة السجناء، نقص الطعام والخدمات وتحويل حياة السجناء إلى جحيم. كان هدف السجناء ومنهم حسن الحفاظ على حياتهم بأي ثمن. يأمل حسن بغد أفضل وبعيش الحرية.
لا ينسى حسن عام ٢٠٠٠م و موت حافظ الأسد وما زرع في نفسه ونفوس السجناء من امل وكيف جاءت الخيبة مع مجيء ابنه الى سدة الحكم واستمرار الحال كما كان.
وبعد انتهاء مدة حكم حسن عام ٢٠٠١م حوّل ورفيق له الى فرع الامن الذي أوقفه في دمشق ومن هناك تم إطلاق سراحهم. توجه فورا إلى بلدته منبج، يتوق ان يصل الى هناك ويلتقي بأمه ويعانقها ويشبع من حبها وحنانها وشوقه لها. لكنها كانت قد توفيت وتركت في نفسه غصة…
قرر حسن أن يبدأ من جديد رفض ان ينكسر بعد سجنه المديد اكمل دراسته وتخرج وعمل في القطاع الخاص لانه ممنوع من حقوقه عند الدولة، تزوج وأنجب وعاش حياته كما يجب على مستواه الخاص، ولكن مع إحساسه بأنه في سجن كبير محكوم بالاستبداد والقمع… إلى أن حصلت الثورة السورية، احس انها ثورته وامثاله وان الناس كلهم انتصروا لإنسانيتهم واستردوا كرامتهم وتحركوا للحصول على العدالة والديمقراطية… لقد تم التلاعب بالثورة ودخلت دول العالم على خطها وحرفتها نسبيا، لكن اصلها مازال قائما ومبرر انتصارها مستمر: المظلومية واسترداد الناس حقوقها…
بعد الثورة استمر حسن في منبج كان جزء من حراكها الثوري حتى جاءت داعش واحتلت منبج وكان مطلوبا لها… غادر الى عينتاب مرغما وعينه على الوطن وروحه هناك تنتظر لحظة العودة، واستمرار القيام بالدور المطلوب لبناء سوريا الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل…
- بكاء على حافة الحرية
– تهامة معروف –
تم اللقاء بين الكاتبة والمعتقلة السابقة في سجون النظام تهامة معروف في مدينة غازي عينتاب التركية.
بحثت تهامة ابنة مدينة مصياف منذ بدء نضجها عن حركة تواجه النظام وتسعى لتغييره، كان ذلك منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي. انتسبت إلى حزب العمل الشيوعي وأصبحت من كوادره. تعلم تهامة أن مواجهة النظام تستوجب الحيطة والحذر، وان احتمال الاعتقال وما يستدعي من تعذيب وسجن مديد قائم كل الوقت. لذلك اعتمدت على حياة التخفي والسرية والاسم المستعار، والحذر في جميع التصرفات. كان النظام قد صعّد من حملته الأمنية على الحزب في عام ١٩٨٧م، مما جعل تهامة واغلب كوادر الحزب ينتقلون الى التخفي والحياة السرية. كانت قد دخلت الجامعة في حلب قسم طب الاسنان. تتابع دراستها بحذر شديد وتستمر بنشاطها الحزبي وهي معرضة للاعتقال في أي وقت. وفي عام ١٩٩٢م . اعتقلت مع رفيق آخر لها في دمشق عندما ذهبت للقائه في موعد محدد مسبقا. اعتقلت وعذبت بالأمن السياسي، واجهوها بمعتقلين آخرين ولكنها استمرت على إنكارها الانتساب إلى الحزب، وبعد مضي التحقيق تم تحويلها الى سجن دوما المدني. كانت الحياة هناك على أحسن وجه قياسا بالمعتقل. استمر سجنها لمدة سنة في سجن دوما، كان معها ثلاث رفيقات إحداهن كانت حاملا وأنجبت طفلة داخل السجن، كانت الطفلة فرحتهم جميعا. في هذه السنة تم استدعاء تهامة الى محكمة امن الدولة وبدأت محاكمتها. ثم حصلت مفاجأة لم تكن تتوقعها تهامة، لقد اخلي سبيلها عام ١٩٩٣م بعد مضي سنة على سجنها على أن تحاكم وهي حرة طليقة. عادت تهامة الى حياتها السابقة اتمت دراستها الجامعية وأصبحت طبيبة وفتحت عيادة لها في حلب وتزوجت وانجبت طفل وطفلة، وعاشت حياة مستقرة نسبيا. وبعد فترة انتهت محاكمتها وحكمت ست سنوات سجن. لم تسلم نفسها للأمن وبقيت تعيش حياتها مع حرص أن لا يصل اليها الامن الجنائي المسؤول عن تنفيذ حكم السجن. بعد مضي خمسة عشر سنة على محاكمتها في عام ٢٠١٠م تم القبض عليها وأودعت السجن المدني في عدرا لتكمل مدة حبسها. كانت ظروف سجن عدرا اسوأ من المعتقلات السورية، حاولت القيام باضراب عن الطعام مع أخريات لتحسين المعاملة والحصول على الطبابة وتحسين الطعام ولم تنجح. وبعد مضي حوالي السنة على سجنها بدأ الربيع العربي، وبدأت تصل تباشيره الى سوريا، كانت فرحة تهامة لا توصف بالربيع السوري، فرحت لثورة السوريين، احست ان نضالها وامثالها لم يذهب سدا وان الشعب السوري تحرك يطالب بالعدالة والحرية والكرامة وحقه بالدولة الديمقراطية. بدأ النظام يعيد حساباته اتجاه معارضيه المسجونين وبدأ حملات افراج عن البعض لعله يحسن صورته، في الوقت الذي بدأ قتل السوريين المتظاهرين واعتقالهم بالآلاف. أفرج عن تهامة في الشهر السادس لعام ٢٠١١م بعد مضي ثلاثة أشهر على الثورة السورية. احست انها توحدت مع الناس ومع ثورتهم. ورغم انه مضى سنين على الثورة وما أصابها من تدمير وحرف واستهداف مازالت هي لحظة النور في ليل سوريا الطويل.
تعيش تهامة مع عائلتها في مدينة عينتاب بتركيا أصبح ابنها في الصف التاسع وابنتها أصغر بقليل، تحلم بالعودة لسوريا التي ناضلت كل حياتها لتكون كما تأمل.
- روتين الموت العادي
– عمر الشغري –
في باريس تلتقي الكاتبة بالشاب السوري عمر الشغري ليحدثها عن اهوال ما عاشه هو وأهل بلدته البيضا ومنهم عائلته على يد اجهزة النظام الامنية ومناصريه الطائفيين منذ اندلاع الثورة السورية ربيع عام ٢٠١١م وحتى عام ٢٠١٥م. حيث خرج من معتقل صيدنايا وهو أقرب الى الموت…
عمر الشغري من بلدة البيضا التابعة لمدينة بانياس الساحلية السورية. البيضا مدينة عدد سكانها يصل لثمانية آلاف نسمة تقريبا. هي بلدة سنيّة محاطة ببلدات علوية من كل الجهات. عندما حصلت الثورة السورية وتجاوب معها اهل البيضا، كانت ردة فعل أهل القرى العلوية أنهم قاموا بهجمة على البلدة يحملون السلاح يطلقون النار يروّعون الأهالي، ترافق ذلك مع اعتقالات أمنية…
اُعتقل عمر الذي بلغ من العمر وقتها ١٦ عاما، مع اولاد خالته ومعه الكثير من أهل البلدة وقتها. بعد أيام على انطلاق الثورة. اعتقل لمرات عدة كان آخرها عام ٢٠١٢م عندما تم اعتقاله من بيت خالته مع اولاد خالته ثلاث شباب وبنت، في بانياس، نقلوا الى فرع الامن العسكري في طرطوس، وهناك بدأ التحقيق معهم حول من قتل الضباط ؟. تلقوا تعذيبا لا يوصف وخاصة ابن خالته الذي هرب من الأمن وقبض عليه بعد إصابته بطلق ناري. حققوا معهم عدة أيام استعملوا معهم كل أساليب التعذيب من الضرب الى الدولاب والشبح والكهرباء والتجويع… ثم حولوهم إلى الأمن العسكري في دمشق مرورا على عدة فروع أمنية في حمص وفي دمشق حيث استقروا في فرع المداهمة، المسمى فرع الموت البطيء، وضعوا في جماعيات تتسع لأربعين انسان لكن جُمع فيها حوالي المئة، كان المعتقلين يتراكمون على بعضهم. جوعى، ومرضى، نال منهم التعذيب ، اصبحوا أشباح و خيالات. هنا تواجد عمر واولاد خالته وبنت خالته ايضا. التعذيب والتنكيل يطالهم ، يضاف إلى ذلك نقص في الطعام يصل إلى درجة العدم. هناك عدد يومي لمن يجب ان يموتوا. وإن لا يموت من الجوع والتعذيب الكافي يقتل السجانون من يحلوا لهم بالتعذيب أو عبر ابر الهواء. مات هناك ابن خالته المصاب لم يستطع تحمل التعذيب والتجويع وهو مصاب، وكذلك الآخر قتل بإبرة الهواء. ابن خالته هذا أخبره عن مجزرة البيضا التي حصلت وان عائلتيهما قتلتا بالكامل. أدرك عمر عندها انه لم يتبقى له أهل في الخارج وأن مهمته أن لا يموت هنا ولا يفكر بأي شيء يكسر صمود ارادته او جسده. كان في الفرع مكان مخصص لجثث الموتى تجمع به قبل ترحيلها، واحيانا يتأخر الترحيل فتتفسخ الجثث وينتشر الدود. من المؤلم الحديث عن توزيع الطعام يوميا. حيث تبرع أحد المعتقلين ليتلقى التعذيب حتى الموت عند استلام الطعام، ويأكل المعتقلين لقمة مغمسة بدم المقتول. الطعام قليل جدا، الى درجة ان شعور المجاعة أصاب عمر والجميع. حاول عمر أن يكون ذلك الفدائي المضحي لكنه لم يستطع، انسحب في اللحظة الاخيرة. ما آلم عمر هو تحول بعض المعتقلين إلى شبيحة عند السجانين. يجمعون الجثث ويقتلون المعدومين بابر الهواء، طمعا بلقمة خبز لا أكثر. يتحدث عمر بعد ذلك عن تكليفه بتوثيق الجثث التي تموت وترقيمها، كان يقوم بهذا الدور بالم ويرى نفسه ميتا ومرقما في كل وجه يخط عليه رقمه. استمر يوثق وزادت الجثث أصبح صعبا عليه إحصاء الجثث التي يرقمها في عامي ٢٠١٢و ٢٠١٣ .
وفي أب ٢٠١٤م تم نقل عمر ومعه ثمانين معتقل في سيارة لحمة مغلقة الى سجن صيدنايا الاحمر. مات البعض في الطريق قبل الوصول الى هناك حيث التعذيب على اشده و انتشار الأمراض وقتل المعتقلين وتجميع الجثث وتفسخها هنا ايضا. في سجن صيدنايا دعي عمر الى محكمة عسكرية سأله القاضي كم ضابطا قتلت وأجاب لم اقتل احد وطرده وعاد الى السجن.
بعد اقل من شهر من وجود عمر في السجن الأحمر في صيدنايا نودي عليه واخبروه ان يجهز نفسه للإعدام. وهي هناك قد تعني القتل او اخلاء السبيل او نقله إلى فرع آخر…
اخرجوا عمر إلى خارج السجن طرحوه أرضا أطلقوا النار بكثافة، واغمي عليه وبعد وقت فتح عينيه ليجد نفسه وحيدا في العراء. جاء من احتضنه. لم يعرف كيف يتحدث، كان مريضا هزيلا وخائفا. نقل الى تركيا التفت حوله امرأة وأسرة. إنها أمه وبعض اخوته…
من تركيا خرج مع أخيه الأصغر إلى أوروبا عبر البحر وصل اخيرا الى السويد التي تلقفته وعالجته واهتمت به…
عمر يتصرف على أنه وهب عمرا جديدا، عاش احساس مسؤولية سرد كل ما عايشه، حتى يتسنى للسوريين محاسبة القتلة المجرمين من رأس هرم النظام الى آخر سجّان مريض نفسي وموتور وقاتل…
الى هنا ينتهي كتاب الشراقة للكاتبة سعاد قطناني بسردها هذه الشهادات المؤلمة والمعبرة.
وكتعقيب نهائي اقول:
مرة اخرى ان هذه النماذج عن قهر السوريين وعذاباتهم عبر نصف قرن في معتقلات وسجون النظام السوري المستبد المجرم في عهد الأب والابن تؤكد أن في سوريا من الأسباب الكثيرة الموجبة للثورة السورية التي انتصر شعبها من خلال حصولها على الظلم والقهر والخوف والتقية وانتصر للحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية.
إن النماذج التي سردت الكاتبة تجاربهم وما حصل معهم يؤكدون انهم يمثلون كل أطياف الشعب السوري، بتنوعه الجغرافي والمناطقي والاثني والديني والطائفي… إن المظلومين هم الشعب السوري بتنوعه والثائرون اغلب الشعب السوري.
كذلك تؤكد السرديات على استغلال النظام للطائفة العلوية واستخدامها أداة في سلطته وظلمه وقهره للشعب السوري، فقد استثمر شبابها ليكونوا ضباطا وصف ضباط وعساكر في الجيش الذي كان مطية النظام لعقود في استغلال واستعباد الشعب السوري. كذلك الحال في الأجهزة الأمنية حيث القيادة والتحكم بيد نخبة طائفية من العلويين وضمن سلسلة هرمية عائلية تنتهي عند رأس النظام. هذا غير السيطرة على مرافق الدولة السورية على كل المستويات، عدم الاعتراف بهذه الحال يعني التعامي عن المشكلة السورية بالعمق. لذلك نرى الحاضنة الشعبية للنظام ترقص على جثث اهل البيضا، ونراهم شبيحة ويداهمون القرى السنية وينهبون ويسرقون وينشدون تمجيدا للنظام ورئيسه وهم يدوسون على جثث ضحايا شعبنا السوري…
نحن أمام شرخ وطني بحاجة لمعرفة وفهم ومن ثم بحث عن حل…
اخيرا: في الحساب الختامي لمأساة الشعب السوري الذي ثار وبعد مضي احد عشر عاما. الءي كان مصير أكثر من نصف الشعب السوري في المنافي لاجئا يحمي روحه وباحثا عن حياة حرة كريمة لم تعد متاحة في سوريا…
سوريا التي قدمت مليون ضحية، ومثلهم معاقين ومصابين، يتامى وارامل ومشردين موزعين في جميع انحاء العالم…
سوريا التي اصبحت محتلة من الامريكان والروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية، ومرتزقة حزب العمال الكردستاني الـ ب ي د الانفصالي…
سوريا تنتظر منقذها…