في كل عام من شهر مارس تحّل على عائلة الطبيبة والأم وبطلة الشطرنج السورية، رانيا العباسي ذكرى صعبة ومأساوية، إذ يصادف هذا التوقيت تاريخ اعتقالها من قبل الأفرع الأمنية التابعة لنظام الأسد، في بدايات الثورة عام 2013. اعتقل زوجها عبد الرحمن ياسين أولا وفي غضون يومين أخفاها “الأمن العسكري” قسرياً مع ستة من أطفالها وصديقتها مجدولين القاضي.
بعد شهرين من الآن تكون العبّاسي قد كبرت 10 سنوات في المعتقل، ولا يعرف ما إذا كانت على قيد الحياة أم لا. ابنتها ديما الكبرى كان عمرها لحظة الاعتقال 13 سنة والآن 23، وكذلك الأمر بالنسبة لنجاح وآلاء وأحمد، وليان “آخر العنقود” التي تحسب على “مواليد الثورة”، بينما كان عمرها لحظة الاعتقال عاما ونصف.
مجدولين أيضا كانت شابة عشرينية في الوقت الذي داهم عناصر “الأمن العسكري” منزل العبّاسي في حي دمّر الدمشقي. “كان ذنبها فقط أنها كانت برفقة الطبيبة السورية، بعد يوم من اعتقال زوجها عبد الرحمن. هي الآن في أواخر الثلاثين لو كانت على قيد الحياة. قضت نصف عمرها في سجون النظام السوري، ومصيرها مجهول حتى اليوم”.
وفي حين أن مئات الآلاف من السوريين من نساء ورجال وأطفال يقبعون في سجون الأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري، منذ سنوات طويلة دون الكشف عن مصيرهم، إلا أن القصة الخاصة بعائلة العباسي تعتبر “الأقسى” قياسيا بنظيراتها من قصص المختفين قسريا، فيما يراها حقوقيون وعائلتها بأنها تمثل “قضية وطن اسمه سوريا”.
وتصدّرت قصة طبيبة الأسنان وبطلة الشطرنج قائمة مبادرة أطلقتها وزارة الخارجية الأميركية، يوم الخميس، حملت اسم “بدون سبب عادل”، وسلطت الضوء من خلالها على عدد من السجناء السياسيين، في مختلف بلدان العالم.
وكانت واشنطن قد تعهدت بالالتزام بهذه المبادرة في أول “قمة من أجل الديمقراطية” عقدت عام 2021، وستحرص الخارجية الأميركية من خلالها على الضغط على الحكومات حول العالم من أجل الإفراج عن السجناء السياسيين”.
الخارجية الأميركية طالبت بالإفراج عن “عدد لا يحصى” من السجناء السياسيين
ونقلت الوزارة عن المتحدث باسمها، نيد برايس، قوله: “إن احتجاز السجناء السياسيين يخلق مناخا من الخوف ويخنق المشاركة السياسية والحريات الأساسية. من هنا نطلق في قمة من أجل الديمقراطية هذا العام مبادرة ‘بدون سبب عادل’ بغية الضغط من أجل إطلاق سراح السجناء السياسيين”.
وأكدت الخارجية في التقرير الخاص بالمبادرة أن “هؤلاء الأفراد (السجناء السياسيين) يسلطون الضوء على جهود الأنظمة المتنامية لإسكات المعارضة وقمع حرياتهم الأساسية”، مشيرة إلى “السجناء بأعداد لا تحصر يتعرضون للتعذيب والاحتجاز في ظروف غير إنسانية والاختفاء القسري، وغيرها من أنواع العنف. عائلاتهم تحن إلى لقاء أحبتهم المسجونين”.
“رفعت اسم سوريا”
وتوثّق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إخفاء أفرع النظام السوري الأمنية لـ5734 سيدة (أنثى بالغة) في المعتقلات، وذلك منذ بداية شهر مارس 2011 وحتى أغسطس من عام 2022، بالإضافة إلى 2316 طفلا.
كما توثق في قاعدة بياناتها اعتقال الأفرع الأمنية لـ8469 سيدة و3684 طفلا، في الفترة المذكورة ذاتها، من مارس 2011 إلى أغسطس 2022. وهي أرقام لطالما أنكرها النظام السوري على مدى السنوات الماضية، وحتى أنه رأسه بشار الأسد نفى في إحدى تصريحاته “وجود معتقلين سياسيين في السجون”.
ومنذ تاريخ اعتقالها في مارس 2013 أطلقت منظمات حقوق إنسان دولية وسورية من بينها “العفو الدولية” حملات مختلفة للتعريف بقضية الطبيبة رانيا، كما ناشدت النظام السوري لإطلاق سراحها وعائلتها، لكن الأخير لم يبدِ أي استجابة بل إنه لا يزال يرفض الاعتراف بوجودهم لديه.
بعد انطلاق الاحتجاجات السورية في عام 2011، تعهدت طبيبة الأسنان والبطلة في الشطرنج، رانيا العباسي، بالبقاء في بلدها ودعم المجتمع المحلي وتربية أبنائها فيه، لكن في 9 مارس من عام 2013، اعتقلت قوات الأمن التابعة لنظام الأسد زوجها، عبد الرحمن ياسين، في منزلهم دون الكشف عن السبب.
بعد يومين في 11 مارس من العام ذاته، داهم فرع “الأمن العسكري” منزلها في حي دمّر الدمشقي ليعتقلها مع أطفالها الستة، ومجدولين القاضي، التي كانت تعمل سكرتيرة في العيادة الخاصة بها.
وتشرح نائلة العباسي شقيقة الطبيبة رانيا لموقع “الحرة” لحظة مداهمة عناصر “الأمن العسكري” منزل العائلة قبل عشر سنوات، برفقة عنصر يدعى “أبو كاظم” كان يتردد للعلاج مجانا في العيادة السنّية. وتقول: “اعتقلوا زوجها أولا ومن ثم رانيا وأطفال أختي الستة، بينما صادروا ممتلكاتهم الشخصية من مال وذهب وسيارات خاصة”.
وتعتقد عائلة الطبيبة أن سبب الاعتقال يتعلق بـ”مساعدات مالية وعينية قدمها عبد الرحمن ياسين زوج رانا للمحتاجين والنازحين من مدينة حمص آنذاك”.
وتضيف: “اعتقال رانيا والأطفال كان كيدياً وتعسفياً. لم يكن لها نشاط سياسي ولم تخرج في أي مظاهرة ولم تنتمي لحزب معارض. كانت طبية مشغولة في عملها تساعد الغير بقدر ما تستطيع”.
كما تعتقد نائلة العبّاسي أن تكون أسباب الإخفاء قسريا متعلقة بوالدها الشيخ محمد عيد العباسي، والذي كان معتقلا في زمن الأب حافظ الأسد “ظلما وعدوانا”، حسب تعبيرها، من عام 1980 وحتى 1993. “قد يكون اعتقال أختي له علاقة بتاريخ والدي بشكل غير مباشر”.
والطبيبة رانيا من مواليد العاصمة السورية دمشق عام 1970، وتميّزت بالذكاء والصبر والتركيز والثقة بالنفس، وإلى جانب الطب اهتمت برياضة الشطرنج عندما كانت صغيرة.
“بدأت كهاوية في هذه الرياضة، لتصبح بطلة لسوريا والعرب للشطرنج في عام 1985 بعمر 15 عام، كما تربعت على عرش بطولة الجمهورية لأكثر من 10 أعوام متتالية، لتحصد أعلى تصنيف دولي تحرزه لاعبة سورية وعربية آنذاك”.
وتضيف شقيقتها لـ”الحرة”: “رانيا مثّلت سوريا في مختلف البطولات المحلية والعربية والدولية، ورفعت اسم سوريا عاليا وأحرزت بطولة العرب للشطرنج وحازت على المرتبة الخامسة في بطولة شرق آسيا”.
وبموازاة ذلك كانت المعتقلة قد شاركت في أولمبياد الشطرنج في دبي ويوغسلافيا ولقبّت بأفضل لاعبة في سوريا، وفي ذلك الوقت كرمها باسل الأسد شقيق رئيس النظام السوري الحالي، بشار الأسد. .
“بانتظار خبر”
ومنذ زمن اعتقالها إلى اليوم لم يصل لعائلة رانيا أي معلومات مؤكدة عن مصيرها ومصير زوجها وأطفالها، وما إذا كانوا على قيد الحياة أم لا، إن كانوا سوية أم تم تفريقهم.
“الخبر الوحيد الذي حصلنا عليه من معتقلة سابقة أن أختي تردد اسمها في فرع تابع للأمن العسكري في دمشق في الأيام الأولى من اعتقالها”، كما تقول شقيقتها نائلة.
وتضيف: “في عام 2014 أيضا أخبرتنا معتقلة أنها رأتها في فرع فلسطين، بينما نقل النظام السوري أطفالها إل ملاجئ”.
وبالنسبة لزوجها تعتقد عائلة الطبيبة السورية أنه “تمت تصفيته مباشرة بعد اعتقاله”، بينما تعرفوا على صورة من صور “قيصر” المسربة، إذ كانت ملامح الشخصية فيها شبيهة جدا بملامح عبد الرحمن ياسين.
ورغم اهتمامها بالشطرنج إلا أن هذه الرياضة لم تمنع الطبيبة رانيا العباسي من متابعة تحصيلها العلمي، وكانت قد تخرجت من كلية الأسنان وأتمت تخصص جراحة اللثة، ومن ثم غادرت البلاد إلى السعودية في عام 1995.
“عرفت بين مرضاها وزملائها بالتفاني في عملها، وخلال تلك السنوات أنجبت ديما من في عام 2000 (13 عند الاعتقال) انتصار في 2001، نجاح في 2002، آلاء في 2005 وأحمد في 2007، وليان أصغرهم من مواليد الثورة في 2011”.
وتتحدث شقيقتها أنهم توجهوا منذ تاريخ اعتقالها للمجتمع الدولي ولم يدخروا وسيلة سواء بالرشاوى أو غير ذلك، دون أن يصلوا لأي خبر عن مصيرها.
وتشير: “تواصلت مع منظمات حقوقية ورياضية، وكان هناك حملة كبيرة في 2018 الهدف منها إطلاق سراح أختي والحصول على معلومات للكشف عن مصيرها ومصير أطفالها، دون أن يكون هناك أي استجابة من جانب النظام”.
“في مارس المقبل تكون رانيا قد أتمت عشر أعوام في المعتقل، وفتياتها أصبحن في سن البلوغ. سيكونن شابات. كيف قضوا هذه الفترة؟ هل مازالوا على قيد الحياة؟ لا نعرف”.
وتتابع شقيقة المعتقلة: “من مرحلة طفولة لمراهقة لليفع لا نعرف حالة أبناء أختي الجسدية والنفسية. هل يستطيعون مواجهة الحياة. نحن في حالة ترقب دائم لأي خبر”.
“على أمل أن يكونوا أحياء”
في غضون ذلك يرى مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني أن تسليط الضوء من قبل وزارة الخارجية الأميركية على الشخصيات البارزة في سوريا والمختفين قسريا “أمر مهم”، من زاوية أن هذه الخطوة تعطي “نوعا من الفخر بالنضال الذي قدموه، وتشكل إدانة وتعرية وفضح للنظام الذي قام باعتقالهم لمجرد أنهم عارضوه”.
يقول عبد الغني لموقع “الحرة”: “هم شخصيات بارزة في المجتمع السوري، ويشكلون رمزية. النظام السوري اعتقال وأخفى الطبيبة رانيا لأنها بطلة شطرنج”.
وتعطي قصة الطبيبة “مثالا صارخا على مدى توحش النظام، ويعيد تسليط الضوء عليها وضعها على الطاولة مرة أخرى، بينما يعطي عوائل الضحايا نوعا من الاعتبار”، وفق عبد الغني.
وكانت الشبكة الحقوقية قد رشّحت “العباسي” وعائلتها بناء على طلب مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل في الخارجية الأمريكية، وساهمت بتزويده بالمعلومات والتفاصيل المسجلة عن حادثة اعتقالها ثم اختفائها قسريا لدى قوات النظام السوري.
من جانبها تشير شقيقتها بالقول: “هناك آلاف القصص الحزينة لكن قصة رانيا الأصعب. عائلة كاملة من أم وأب وستة أطفال تعتقل وتدخل إلى سجون النظام التي تعرف بقذارتها وتفتقد كل مقومات الحياة. الوحوش الذين لا يعرفون الرحمة ولا يشفع لهم أن تكون طبيبة أو أم أو رياضية. يصب عليهم العذاب جميعا بكل وحشية”.
وتضيف: “نحن نعيش على الأمل حتى الآن أن يكونوا أحياء. كل يوم نصلي لله وندعو الفرج. سنبقى ننادي بحرية رانيا ونذكر اسمها على كل المحافل الدولية التي تنادي بالحرية للمعتقلين”.
المصدر: الحرة. نت