قراءة في كتاب: الشراقة –  ٣ من ٤ || ماقيل وما لم يقل في برنامج ياحرية

أحمد العربي

نتابع قراءة كتاب الشراقة… للكاتبة سعاد قطناني المنتمية للثورة السورية، الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول. حيث كانت قد نشرت هذه المقابلات في تلفزيون سوريا.

  • الكتابة على لوح الذاكرة

– مصطفى خليفة –

تتحدث الكاتبة سعاد عن سفرها الى باريس حتى تلتقي بالكاتب مصطفى خليفة صاحب رواية القوقعة التي كانت من أولى الروايات التي وثقت ما عاشه المساجين السياسيين الإسلاميين واليساريين والقوميين في سجن تدمر منذ ثمانينات القرن الماضي.

مصطفى خليفة ابن مدينة جرابلس لكنه عاش منذ طفولته في حلب. انتمى إلى حزب العمل الشيوعي المعارض. واعتقل مرتين، أولهما كان من ١٩٧٩ حتى ١٩٨٠ واستمر لمدة سنة، ثم اعيد اعتقاله وزوجته المنتمية للحزب نفسه، عام ١٩٨١م. كانت زوجته حاملا بطفلتهما، استمر اعتقالها حتى ماقبل ولادتها وتم إخلاء سبيلها. أما هو فقد استمر اعتقاله اثنى عشر عاما…

اعتقل لصالح فرع مخابرات أمن الدولة في حلب، كان حذرا في عمله التنظيمي، مستدركا تجربة اعتقاله السابقة، غير ذلك الجاهزية التنظيمية التي وطّدوا أنفسهم عليها كتنظيم معارض معرضا للاعتقال دوما. انكر اي التزام تنظيمي له. ولكن واجهه أحد شباب الحزب معترفا عليه. لذلك اعترف على انتمائه الحزبي بحدود لا تحمّله مسؤولية كبيرة. استمر اعتقاله مدة شهرين حتى انتهاء التحقيق معه في حلب، ثم حوّل الى دمشق في ذات الفرع الأمني، وأعيد التحقيق معه  واستمر معتقلا هناك لمدة سنتين. ثم حوّل بعد ذلك مع معارضين يساريين آخرين إلى سجن تدمر. في سجن تدمر عايش مصطفى ما لم يكن يخطر على باله من القسوة والعنف والتعذيب والإذلال واستباحة انسانية الانسان. بدء من التشريفة التي هي استقبال المساجين الجدد بالتعذيب الذي قد يؤدي إلى الموت وحتى جميع ممارسات السجانين التي كانت تنصب على استباحة هؤلاء الناس كل الوقت ولو أدى الى موتهم.

كان قد وثّق مصطفى خليفة سجنه في روايته القوقعة، ومع ذلك أضاف إليها، كثير من معاناته التي عاشها في السجن وبعد الخروج منه عام ١٩٩٣م، خوفه على زوجته الحامل ومن ثم ولادة ابنته التي شاهدها لمرتين فقط قبل انتقاله الى تدمر، في الأولى كانت دون السنة وفي الثانية كانت أول مشيها. لم تكترث لأبوها وهو مجروح في نفسه. ابنته هذه سيلقاها بعد سجنه ١٢ سنة وقد تعاملت معه برسمية وتحفظ. يتذكر السجن وكيف أصر النظام على الفصل بين اليساريين والإسلاميين، ليترك حالة الاستقطاب العدائي حاضرة. التعذيب والتجويع والرعب والقتل المجاني اليومي كان هاجسا وواقعا ارعب مصطفى ورفاقه ومن كان في السجن من المساجين الآخرين. يذكر أنه وثّق في ذاكرته كثير من الأحداث التي سيكتبها قريبا. وكان حزينا جدا على فقدان ارشيف رسائله وزوجته التي كان محتفظا بها في مدينة الطبقة حيث سكن بعد الخروج من سجنه، وكيف احتلتها داعش بعد سنوات على الثورة السورية وعاثت في بيته واغراضه واتلفت أرشيفه كاملا.

ينهي مصطفى خليفة استعادة آلامه وتجربته بالحديث عن حقده على رأس النظام الاب والابن ، وانهم كانوا رمز خلق جمهورية الخوف والقمع والفساد والاستبداد في سوريا. وان تجربته أكدت له حتمية اسقاط الاستبداد وأن الخيار الديمقراطي هو الخلاص للسوريين، لذلك كان مع الثورة السورية التي حصلت ربيع ٢٠١١م واعتبرها هي المعبر الذي كان لا بد منه ليسترد الشعب السوري حريته وكرامته ويحقق العدالة والديمقراطية والحياة الأفضل. مهما قُدّم من تضحيات.

 

  • غارق في العتمة والغياب

– نظمي محمد –

التقت الكاتبة مع نظمي محمد الكردي في برلين بعد سنوات على قيام الثورة السورية. نظمي من عفرين يسكن في حلب تنقل بعمله سائقا آلات زراعية في مديريات مختلفة للدولة السورية،  ينتمي الى حزب يكيتي الكردي السوري المعارض. اعتقل ومعه مجموعة من رفاقه عام ٢٠٠٧م على خلفية انتمائه الحزبي. اتهموا بالانتماء الى حزب سرّي معارض وانهم يعملون لتقسيم سوريا. اعتقل في حلب حققوا معه، تعرض لجميع وسائل التعذيب، كان السبب المباشر للاعتقال محاولة توحيد حزبين كرديين فيما بينهما. كان النظام راضيا عن تشتت الأكراد السوريين بين ما يزيد عن عشرة أحزاب معارضة. هذا غير حزب العمال الكردستاني ب ك ك الذي يدعمه النظام السوري. كان نظمي مسؤولا حزبيا في حلب.

الأكراد السوريين صنعوا أحزابا لهم في سوريا منذ عقود. كانوا يصرون على انتمائهم السوري وهويتهم الكردية بما يتبعه من حقوق ثقافية وسياسية. كانوا جزء من ربيع دمشق الذي حصل بعد عام ٢٠٠٠م.

استمر التحقيق مع نظمي عشرة ايام ، حوّل بعدها الى فرع الامن في دمشق واستمر اعتقاله في فرعين امنيين لمدة شهرين دون أي تحقيق أو مساءلة. ومن هناك نقل مع رفاقه الخمسة الى سجن صيدنايا. حيث عانى مع آخرين تعذيبا شديدا في استقبالهم وطوال مدة سجنهم، بشكل يومي. استمر سجنه هناك وبعد سنتين تم تحويله الى محكمة امن الدولة، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات.

تحسنت ظروف الزيارة قليلا في سجن صيدنايا، التقى زوجته ورفيقته بالحزب التي شدت من أزره وأكدت دعم الحزب له ولرفاقه.

تحدث نظمي عن سجن صيدنايا الذي كان مركزا للمعتقلين السياسيين الخطرين على الدولة بمنظورها طبعا وذلك بعد اغلاق سجن تدمر. كان قد زج النظام مجموعات كبيرة من الإسلاميين المتشددين القاعدة في السجن، خاصة العائدين من العراق الذي كان قد احتل من الأمريكان عام ٢٠٠٣م. اصبحوا يشكلون داخل السجن مركزا دعويا وتنظيميا وتثقيفيا يزيد من تطرفهم ودمويتهم. اصطدموا مع إدارة السجن في عام ٢٠٠٨م وأدى ذلك الى تمرد واستعصاء وعنف، تم احتجاز الادارة والسجانين من قبلهم وحصلت مفاوضات لمرتين ولم تؤدي لنتيجة وتعيد سيطرة النظام على السجن، ومن ثم تم اجتياح السجن من الجيش السوري بأعلى درجة من العنف، قتل الكثير من السجناء والسجانين. عادت الحياة الى طبيعتها بعد ذلك، لكن بقي الجمر تحت الرماد…

بعد ثورات الربيع العربي ووصولها إلى سوريا قام النظام بإطلاق سراح نظمي و المجموعة الكردية التي معه. كما اطلقت سراح الاسلاميين المتشددين – القاعدة- وغيرها وكان عددهم حوالي ٢٥٠ متشددا…؟!!. سيكونون مستقبلا نواة انحراف الثورة السورية وظهور القاعدة والنصرة وداعش ، كان لهم دور في تخريب الثورة.

يتحدث نظمي عن وصول الربيع السوري الى الاكراد السوريين وتصدر مشعل تمّو قيادة الحراك الوطني الديمقراطي بين الأكراد، وتم اغتياله من النظام…

لم يتحدث نظمي عن مآلات الحالة الكردية في سوريا وكيف أعاد النظام احياء حزب العمال الكردستاني ب ك ك بمسمى ب ي د الذي كان أوجده لاستيعاب الشباب الكردي وتوجيهه نحو صراع خارجي ضد تركيا بشكل أساسي منذ الثمانينات. ولخلق صراع داخلي كردي كردي. اعاد احياء الب ك ك ودعمه بالمال والسلاح وسلمه مناطق شمال شرق سوريا. وبعد التدخل الدولي ضد داعش انقلبوا على النظام وتحولوا أداة بيد الامريكان وتوسعوا في سيطرتهم ليصلوا إلى شرق الفرات ويسيطرون على مناطق النفط والغاز في سوريا تحت الحماية الامريكية ليعلنوا الإدارة الذاتية ويكوّنون مشروع انفصالي كردي قائم على الأرض وبصفته دولة تحت التأسيس في تقسيم واقعي لسوريا…

القضية الكردية السورية مازالت في حالة سيولة خاصة أنها استثمرت من النظام السوري والغرب ضد تركيا حليفة الشعب السوري وثورته…

 

  • انا واخي في غرفة التحقيق

– ابراهيم بيرقدار –

التقت الكاتبة بإبراهيم بيرقدار في اسطنبول بعدما تواصلت معه حيث يعيش في مدينة غازي عنتاب.

ابراهيم بيرقدار من عائلة مسيسة ومتنوعه. من قرية تير معلة التابعة لحمص، اعتقل عام ١٩٨٧م، وكان في المعتقل قبله اثنان من اخوته حسن وفرج. تأثر ابراهيم بحزب العمل الشيوعي، وكان يطّلع على نشراته، كان قد تخرج مهندسا في البتروكيماويات قبل الاعتقال، وتزوج ايضا. اعتقل بتهمة تداول نشرة حزب العمل الشيوعي. حيث اعترف أحد اصدقائه عليه بأنه أعطاه النشرة. اعتقله الأمن في حمص عذبوه كثيرا لمدة عشرة أيام دون توجيه أي تهمة ثم حولوه الى فرع فلسطين في دمشق. وهناك تم مواجهته بتهمة انتمائه لحزب العمل الشيوعي، تحمّل التعذيب الذي تعرض له بكل الوسائل الضرب و الدولاب وبساط الريح والكرسي الألماني، هذا غير ظروف الاعتقال التي تلغي انسانية المعتقل وتهدر كرامته. رفض ابراهيم التهمة، اعلن انه متعاطف مع الحزب فقط، ورفض الإدلاء بأي اسم يعرفه من الحزب أو من إعطائه النشرات لأحد وقرأها. كان حريصا أن لا يورط أحد باعتقال وسجن وهدر الكرامة والغياب لسنوات.

اعتقد ابراهيم ان سجنه لن يطول بسبب عدم انتسابه للحزب، استمر التحقيق معه شهرين، وعندما سألوه من أعطاك النشرة التي تداولتها مع صديقك اجابهم ان اخاه فرج القيادي في الحزب والمعتقل ايضا هو من اعطاه اياها. واجهوهم ببعضهم. كانت لحظة قاسية على ابراهيم. لكنه استمد من صمود أخيه صمودا اكثر.

بعد انتهاء التحقيق نقل إلى سجن صيدنايا ومن هناك أرسل مع بعض أهل السجناء المزارين خبرا عن سجنه. وهكذا زارته والدته وزوجته. تكيّف ابراهيم مع أجواء السجن، صنع من السحاحير عودا وبدأ التدرب عليه واتقن العزف بعد ذلك. تحول العود لرفيق احزانه، يفرّغ به ومعه ما يعتمل في نفسه من حنين ولهفة وامل وحزن. كان يتألم كثيرا بعد كل زيارة، ويعيد اجترار معاناته التي يعيشها في ظروف لا إنسانية. بعد خمس سنوات عُرض إبراهيم على محكمة أمن الدولة وحكم بالسجن تسع سنوات، استمر في سجنه ينتظر لحظة الإفراج. تكيّف ابراهيم مع السجن قرأ وعزف وتواصل مع السجناء الآخرين وبنى علاقات حميمية، وبعد انتهاء مدة سجنه تم اعادته الى فرع فلسطين. وهناك عادت إلى نفسه وذاكرته كل عذابات التحقيق سابقا. وكانت ظروف المعتقل ذاته سيئة جدا، هناك مات صديقه الذي كان مثله محولا للإفراج بسبب اهمال صحي من إدارة الفرع الأمني. خرج إبراهيم من المعتقل. عاد إلى قريته، استقبله أهل القرية كلهم. احس برد جميل مجتمعي عام. لم يخف الناس من الأمن والسلطة. بعد ذلك درس إبراهيم في الجامعة مجددا وتخرج حاملا شهادة اللغة الانكليزية، التي استخدمها للتدريس الخاص وفي بعض المعاهد، لم يعمل في مدارس النظام  كان محروما من حقوقه المدنية. كبر إبراهيم وأصبح أكثر وعيا ونضجا. استمر يحلم بالحرية والتغيير والديمقراطية حتى جاءت الثورة السورية ربيع ٢٠١١م محققة حلم إبراهيم وكثير من السوريين، فرح بها إبراهيم وشارك مع عائلته بالتظاهر… حزن إبراهيم بسبب المآلات التي وصلت لها الثورة السورية. ولم يكن له إلا أن يشد الرحال مغادرا الوطن مع عائلته وعوده واستقر في تركيا…

ونحن نقول:

مرة اخرى لهذه الأسباب ثرنا وما زالت ثورتنا مشروعة…

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى