تظهر في وسائل الإعلام العالمية، وخاصة في الشبكات الاجتماعية، في الآونة الأخيرة، الكثير من المواد حول تفاقم التناقضات المزعومة بين موسكو ودمشق أو حتى عزم روسيا على إعادة النظر في سياستها فيما يتعلق بالأزمة السورية.
في الواقع، هذا هو الخيار الذي كان يفكر فيه الكاتب الكوميدي الأميركي العظيم مارك توين، عندما قال: «إن الشائعات حول وفاتي مبالغ فيها إلى حد كبير». موسكو مواظبة بمسيرتها في مساعدة دمشق في محاربتها للإرهاب، ودعم مبادئ سيادة سوريا ووحدة وسلامة أراضيها، والتسوية السياسية للأزمة، وإعادة التأكيد على الالتزام بالأهداف المحددة في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2254 وبذل الجهود لاستئناف عمل اللجنة الدستورية في جنيف، الذي بات يواجه الآن صعوبات بسبب جائحة فيروس «كورونا». وتم الحفاظ على التعاون بين روسيا وتركيا وإيران في الملف السوري في شكل كامل، ولا يزال وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد في إدلب ساري المفعول مع بعض الانتهاكات الطفيفة، والدوريات المشتركة للجيش الروسي والتركي مستمرة، ومستوى العنف في البلاد انخفض بشكل حاد.
كل هذا لا يعني على الإطلاق أنه لا يوجد تناقض أو تنافس بين «الدول الضامنة» أو أن وجهات نظرهم حول المشكلة السورية متطابقة تماماً، لكن الأمر كان دائماً على هذا الحال، وتم حتى الآن التغلب على الاختلافات، حتى تلك الخطيرة جداً.
على أي حال، لا يمكن إنكار ثبات الموقف الروسي. على سبيل المثال، غيرت الولايات المتحدة عدة مرات أولويات وجودها العسكري في سوريا – مرة محاربة الإرهاب، ثم مواجهة إيران، ثم إبقاء حقول النفط تحت سيطرتها لتمويل «قوات سوريا الديمقراطية»، وأخيراً، التصريح الأخير للمبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى سوريا جيمس جيفري، الذي قال: «وظيفتي هي خلق مستنقع للروس هنا». ربما كان من الصواب أن نطلق على هذا الدبلوماسي الأميركي ذي الخبرة والذي لا يرمي الكلام عبثاً، المبعوث الخاص، ليس إلى سوريا ومحاربة الإرهاب، وإنما للحرب ضد روسيا؟ لكن، في هذه الحالة، ما هو مصير التعاون الروسي – الأميركي في مكافحة الإرهاب؟ وخاصة، إذا أخذنا بالحسبان حقيقة أن الطرفين لا يزالان مستمرين، انطلاقاً من مبدأ الشراكة، في تبادل المعلومات في هذا المجال، ويتم احترام الاتفاقات بشأن عدم وقوع صدام. بطبيعة الحال، لا يعني استمرار التعاون أنه لا توجد مخاطر بالنسبة لموسكو من حدوث تصادم عرضي. هذه المخاطر تأتي من جهة إسرائيل، التي تواصل ضرب أهداف إيرانية وسورية في مناطق مجاورة مباشرة لتلك المرافق والمواقع حيث يوجد الجيش الروسي. بالمناسبة، إيران، على ما يبدو، لا تنوي مغادرة سوريا أيضاً. لا يمكن الوثوق بالتقارير الإعلامية حول تقليص الوجود الإيراني (والموالين لإيران، إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود الميليشيات الشيعية المختلفة) في البلاد، وعلى ما يبدو، أن الحديث يدور فقط حول عملية إعادة انتشار لهذه القوات من أجل ضمان سلامتها.
أيضاً، لا يمكن الوثوق بأخبار وسائل الإعلام أن روسيا متورطة في نوع من النزاعات بين مجموعات داخل الطبقة السياسية السورية أو أنها تضغط على شخص ما فيها من أجل الحصول على منافع اقتصادية. ولعل القيادة السورية العليا وفي سياق الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها العقوبات الغربية في المقام الأول، ومن ثم جائحة فيروس «كورونا»، تريد حقاً استعادة النظام في المجالين المالي والاقتصادي، وهو ما لا يمكن إلا أن يرضي أصدقاء سوريا. بالمناسبة، وفقاً لبعض الخبراء الذين شاركوا في «منتدى سوريا» الذي عُقد مؤخراً في معهد الاستشراق في موسكو، من المحتمل أن قرار لبنان الأخير باتخاذ إجراءات صارمة ضد عمليات التهريب من أراضيه إلى سوريا قد تم الاتفاق عليه مع دمشق، وليس بسبب ضغوط من الخارج، إذ إن الأسد يريد بوضوح وضع حد للفساد وأساليبه «الرمادية».
ليس فقط لا تسعى موسكو لكسب المال من سوريا، بل وتزودها بقدر المستطاع بمساعدات اقتصادية إنسانية. على سبيل المثال، ستستمر روسيا، بقرار من اللجنة الحكومية المشتركة صدر في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، في توريد القمح إلى سوريا. وفي الوقت نفسه، مثل أي دولة أخرى، روسيا ليست ضد تحويل مساعداتها العسكرية الباهظة الثمن إلى مواقع ومشاريع اقتصادية قوية تفيدها.
ليس هناك ما يثير الدهشة في أنه نتيجة لتوفير دولة أو أخرى لسوريا مساعدة وجودية مهمة لها في مجال الأمن والاقتصاد في البلاد – وقبل كل شيء، في هياكل قوتها – تتشكل مجموعات من مؤيدي وميسري نفوذ هذه الدولة. وهذا يمكن أن ينطبق على روسيا وإيران. موسكو كشريك لدمشق لها مزايا معينة على طهران. على وجه الخصوص، وحدات الشرطة العسكرية الروسية العاملة في سوريا في أغلبيتها من ممثلي الشعوب التي تعتنق الإسلام من الطائفة السنية. وهذا يعني، كما يلاحظ المراقبون، أن موقف السكان السنة المحليين تجاههم أكثر دفئاً من موقفهم تجاه الشرطة الموالية لإيران. ميزة أخرى لروسيا هي أنها تستطيع إجراء حوار حول سوريا في مجلس الأمن الدولي وفي ساحات دولية أخرى، دفاعاً عن مصالح سوريا، وهو ما لا يستطيع الإيرانيون القيام به. من المزايا الأخرى بالنسبة لروسيا أيضاً أنها تواصل الحفاظ على علاقات جيدة مع الأكراد المحليين.
لا تزال المساعدة في عودة اللاجئين وإعادة بناء اقتصاد سوريا من بين المهام ذات الأولوية بالنسبة لروسيا على هذا المسار. الوضع صعب للغاية. ما يقرب من نصف سكان البلاد هم من النازحين داخلياً، ونصفهم عاطلون عن العمل، و83 في المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر. العقوبات الغربية الجائرة المعادية للإنسانية على سوريا، تصيب أولاً وقبل كل شيء، هؤلاء الناس.
في الوقت نفسه، كما أشار إيغور ماتفييف، الموظف السابق بالسفارة الروسية في دمشق، في المنتدى المذكور أعلاه في «معهد الاستشراق»، ليس لدى روسيا حتى الآن استراتيجية موحدة لإعادة بناء سوريا بفرص مالية واقتصادية واستثمارية محدودة.
وقد باءت بالفشل حتى الآن محاولات اجتذاب شركاء أوروبيين للتعاون في هذا المجال. ومع ذلك، لفتت موسكو الانتباه إلى تطور المقاربات الأوروبية تجاه الأزمة السورية، وإن كان ذلك على مستوى القطاعات المؤثرة في المجتمع المدني. ويكفي في هذا الصدد، ذكر رأي المنظمين والمشاركين في منتدى المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية ومعهد «كوينسي للحكم المسؤول» في 6 مايو (أيار) من هذا العام. وفقاً لهؤلاء الخبراء المرموقين، لقد فرض الأسد سيطرة عسكرية فعالة على أراضي البلاد، ولدى العقوبات الغربية فرص ضئيلة إن لم تكن معدومة لإقالته من السلطة. إنها تزيد فقط من معاناة السكان، وتزيد من عدد اللاجئين وتخلق مساحة أكبر لإحياء التطرف. من الواضح أن الأسد باقٍ، هكذا يرى الخبراء. يعتبرون أنه من الضروري تحويل تركيز السياسة الأوروبية تجاه سوريا من «إزالة الأسد بأي ثمن» إلى المساعدة في تلبية الاحتياجات الإنسانية للسوريين، بما في ذلك المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في دمشق، وتنمية المجتمع المدني في سوريا. هل يمكن اعتبار وجهة النظر هذه منعطفاً مهماً في النهج الأوروبي تجاه الأزمة؟ بالطبع وبكل تأكيد نعم. من الواضح أن هذا لا يعني أن الواقعيين الأوروبيين يرفضون انتقاد أفعال دمشق أو موسكو، ولكن، مع ذلك، فإن الفجوة مقارنة مع الرؤية السابقة باتت واضحة، وكذلك هي خطوة لا إرادية نحو الموقفين الروسي والصيني.
يمكن للمرء أن يرى بعض التقدم الحذر في سياسات الدول العربية، لكن يجب أن يوضع في الاعتبار أنه، بغض النظر عن السياسة، فإن إمكانيات أي مانحين في الظروف الحالية للاقتصاد العالمي ستكون محدودة. وبالفعل، فإن أحد مظاهر أزمة الاقتصاد الكلي التي بدأت، بالإضافة إلى انخفاض الإنتاج والبطالة والقيود المفروضة على الاتصال وحركة الناس، سيكون إعادة توزيع الموارد لصالح الرعاية الصحية، وفي داخل هذا المجال نفسه – لصالح مكافحة الجائحة الحالية وأي أوبئة جديدة يمكن أن تظهر، والتي على الأرجح لن تجعلنا ننتظر طويلاً.
المصدر: الشرق الأوسط