قراءة في كتاب : الشراقة – ٢ من ٤ ||  ماقيل وما لم يقل في برنامج ياحرية

أحمد العربي

نتابع قراءة كتاب الشراقة… للكاتبة سعاد قطناني المنتمية للثورة السورية، الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول. حيث كانت نشرت هذه المقابلات في تلفزيون سوريا.

  • انت بابا

      –  مالك داغستاني  –

التقت الكاتبة بمالك داغستاني في منزله، كانت الجلسة على شكل حوار، يتضمن ما لم يصرّح به في فترات سابقة، وذلك بعد مضي خمس وعشرين عاما عن خروجه من السجن، كان قد أصدر كتابا تحدث به عن مكنونات نفسه وماعاش في السجن اسماه دوار الحرية…

مالك داغستاني من إحدى قرى حمص كان قريبا من أجواء حزب العمل الشيوعي المعارض، اطلع على وثائقهم كان ذلك أوائل ثمانينات القرن الماضي. ومن ثم التزم معهم تنظيميا. استمر في التنظيم لمدة سنتين، ثم لم يجد ذاته معهم. غادرهم، وابتعد عن العمل الحزبي المعارض. ودخل في أجواء العمل والنشاط التجاري، نجح في ذلك. تزوج وأنجب طفلة واستقرت حياته. استمر ذلك حتى عام ١٩٨٧م حيث بدأ النظام في اعتقال أعضاء حزب العمل الشيوعي. كان مالك مطمئنا انه ترك الحزب منذ سنوات، وأنهم لن يعتقلوه، وإن حصل فسيكون الوقت قصير إلى أن يتبينوا أنه خارج الحزب. لكن حساباته كانت خاطئة، فقد تم اعتقاله من منزله في بعد منتصف الليل في عام ١٩٨٧م، كان الاعتقال قاسيا ومؤثرا عليه وعلى زوجته وطفلته. اعتقله فرع التحقيق العسكري في حمص، وحقق معه رئيس الفرع بذاته. وضع بالدولاب وضرب كثيرا كذلك بالكهرباء وبكل الوسائل والأساليب. امتهنوا كرامته، احس ان انسانيته مهدورة. استمر ذلك لأيام عدة وتأكدوا انه لم يعد ينتسب للحزب، حاولوا استدراجه لعل زوجته كانت على اطلاع بالحزب ونشرته وقتها أنكر ذلك، خاف ان تعتقل ايضا. وهي الحامل بإبنته التي ستلدها وهو في السجن بعد ذلك.

 بعد التحقيق في فرع حمص يحول مالك الى فرع فلسطين في دمشق. وهناك تتكرر معه ذات الحكاية، تحقيق وتعذيب واستدراج لمعرفة أيّة معلومات واسماء يستفيد منها الامن، كان مالك حريصا ان لا يسبب أذية لأحد، خاصة بعد أن عاش هول الاعتقال وما صاحبه من تعذيب وامتهان وإساءة. وبعد مضي فترة الاعتقال نقل إلى سجن صيدنايا وهناك اختلف وضعه. كان سجن صيدنايا حديثا وهم من دفعات السجناء الأولى الذين سجنوا به. كانت معاملة السجانين هناك عادية، أقرب للسجن المدني، حيث توقفت الاساءة والتعذيب. وضعوا في مهاجع متمايزة الشيوعيين والإسلاميين كل على حدى. في السجن أعادوا استثمار الوقت، بعضهم عمل ببعض المهن اليدوية، والبعض تعلم لغات، والكثير استفاد من وقته قراءة وكتابة، كما فعل مالك. مضى على اعتقاله وسجنه وقت طويل. استطاع ان يوصل خبرا لاهله. فزاره اخاه بعد مضي سنتين على اعتقاله. والدته توفيت وهو في السجن. والده لم يزوره ابدا، كان متألما جدا على ابنه. زوجته وطفلته زارته، وعلى شبك الزيارة قالوا لها هذا بابا. فأجابت انت البابا… وكانت غصة في نفسه… استمر الاعتقال بالسجن لأربع سنوات حتى استدعي لمحكمة أمن الدولة، كانت محكمة صورية. حكم على إثرها ثمانية سنوات. استمر سجنه بقية المدة، كان نشاطه وغيره في السجن. يستثمرون كل شيء ويصنعون معنى لوجودهم. قرأ وكتب كثيرا وهرب ماكتبه خارج السجن. وأصبح لهم زيارات دورية بعد ذلك. وعندما أتم مدة  الحكم، انتظر ان يطلق سراحه لكنه تأخر حوالي الستة اشهر كانت قاسية على نفسه وعائلته. وخاف ان ينسوه في المعتقل، حيث لا يستطيع فعل اي شيء ليخرج الى الحرية… لكنه افرج عنه أخيرا في عام ١٩٩٦م بعد مضي ثماني سنوات ونصف من السجن…

لم تمحي من نفسه وذاكرته كل ما عاناه وعاشه رغم مضي ربع قرن على خروجه من تلك المحنة الامتحان…

متى يخرج السوريون من ظلم النظام وقهره إلى الحرية و يحصلون على حقوقهم الانسانية كاملة… ؟!!.

  • المرآة

– محمد برّو –

التقت سعاد قطناني بمحمد برّو الذي حكى لها قصة اعتقاله وسجنه في ثمانينات القرن الماضي…

محمد برّو من حلب. و سوريا في عام ١٩٨٠م كانت قد دخلت قبل ذلك بسنوات في موجة صراع شديدة بين النظام والطليعة المقاتلة الإسلامية، حيث قرر النظام أن يستأصل الاسلاميين المعارضين عموما، وحتى كل القوى الوطنية الديمقراطية في عمليات اعتقال شرسة طالت كل المدن السورية.

محمد الذي بلغ من العمر ١٧ سنة، تداول مع اصدقائه في المدرسة مجلة النذير لسان حال الطليعة المقاتلة التي كانت توزع سرا في أحياء حلب وغيرها من المدن. وصل الخبر إلى الموجّه في المدرسة ومنها إلى الأمن وأدى ذلك الى اعتقال محمد وزملائه. تعرض وزملاؤه للتعذيب الشديد بكل الوسائل والأساليب، الدولاب والكبل الرباعي والشبح والكرسي الألماني، حتى يقدم أي معلومة تفيد النظام ليصل إلى هؤلاء المقاتلين او المتعاطفين معهم وتصفيتهم. لم يكن لدى محمد ما يقدمه ولم يذكر اسم اي صديق له اطلع على المجلة حتى لا يلقى ما عانوه هم من عذاب وتنكيل، وبذلك استمر فترة اعتقاله وسجنه مرتاح الضمير بأنه لم يسبب الاذى لأحد.

بعد اعتقال لفترة من الزمن في حلب، أحيل محمد ومعه آخرين الى سجن تدمر،الذي كان جحيما عليهم منذ دخولهم وفي كل فترة تواجدهم به. استقبلوا بالتعذيب والضرب. شهد سجن تدمر قبل وصول محمد ومن معه عام ١٩٨٠ قتل الآلاف من المعتقلين الإسلاميين على يد سرايا الدفاع فيما عرف بعد ذلك بمجزرة تدمر، يتوسع محمد بسرد حياة المساجين في تدمر، لقد كانوا تحت أجواء قتل معلن، لم يكن يترك لهم السجانين أي فرصة للراحة أو أمل من انتهاء العذاب، ومع ذلك كانوا يستخدمون الوقت الفاصل بين تعذيب وآخر لملئه بالمفيد تعلموا اللغات، حفظوا القرآن، تفقهوا بالدين، استفادوا من علم أي معتقل بينهم وكل باختصاصه. هكذا حاربوا أجواء التعذيب والقتل اليومي الذي عاشوه هناك. لم يكن يعلم أهل محمد أي شيء عن اعتقاله. مضى أربع سنوات على وجوده هناك وعرض على محكمة امنية صورية، وحكم اول مرة بالإعدام وفي المرة الثانية انزلت لعشر سنوات لكونه صغيرا دون سن الثامنة عشر وقت اعتقاله. عايش محمد الإعدامات التي كانت تحصل بشكل دوري، كانت الإعدامات أهون الشرور أمام التعذيب المستمر، محمد يفتقد المساجين المعدومين الذين صاروا جزء من روحه وقلبه. هذا غير الموت أثناء التعذيب ومن دون أي مسألة. علم محمد بعد ذلك بسجن أخوه الأصغر أحمد في السجن بالصدفة ولم يلتقي معه ابدا. كان ذلك قاسيا عليه، شعر بالاسى على والدته التي سجن لها ولدان وقد يقتلا ولا تلتقي بهما ثانية. استمر سجن محمد في تدمر ثماني سنوات ومن هناك احيل الى سجن صيدنايا، حيث كانت ظروف الحياة هناك أقل قسوة، خف التعذيب واصبح امام السجناء فرصة للتنفس وملء أوقات فراغهم بالمفيد لهم. وبعد مضي أربع سنوات في سجن صيدنايا في مطلع ١٩٩٣م أطلق سراح محمد من سجن صيدنايا بعد تحويله إلى أحد المعتقلات في دمشق. ومن دمشق يتوجه إلى حلب ليلتقي اهله. لقد افرج عنه، لكن روحه ونفسه مازالت ساكنة في تلك السنوات المديدة التي اعتقل وسجن بها. بتجربته التي عاشها، بالندوب في جسده وروحه، بذاكرته التي لم تستطع التحرر من العذابات التي عاشها وعايشها معه الكثير من المعتقلين والسجناء الذين كانوا قريبين منه كل الوقت، جزء من نفسه وروحه.

  • انا والجثة

رزان حنطاية –

التقت الكاتبة سعاد برزان حنطاية المرأة الحلبية في اسطنبول، حيث كانت تعيش وأطفالها الثلاثة في مرسين.

رزان ابنة حلب كان والدها من المطلوبين للنظام ايام احداث الثمانينات، غادر حلب الى المغترب، عاش وعمل هناك. كبرت ابنته خارج سوريا. تخرجت بشهادة اللغة العربية من جامعة صنعاء، عادت الى حلب قبل الثورة السورية بسنوات، تزوجت وأنجبت أولادها الثلاثة. كانت تعمل مدرسة خصوصية للغة العربية. عندما حصلت الثورة وبدأ التظاهر وتحرك الناس رفضا للظلم ومطالبين بالحرية والعدالة والديمقراطية، وجدت رزان ذاتها في هذا الحراك. كان يؤلمها تأخر حلب وعدم التحاقها في ركب الثورة السورية، أسست تنسيقية من طلابها شبابا وصبايا، وبدأوا يقومون بتظاهرات صغيرة لكنها متتابعة، وبعد فترة تم اعتقال عدد من الصبايا اللواتي كانت درّستهم وشجعتهم على التظاهر. حاولت الهروب والتخفي، لكن الأمن وصل إليها قبل ذلك كان ذلك عام ٢٠١٣م وتم اعتقالها، اخذوها الى احد المراكز حيث كان يتواجد الحرس الجمهوري برفقة إيرانيين وعناصر من حزب الله. حققوا معها. عذبوها كثيرا. حاولوا أن يجبروها على الاعتراف بارتباطها بالخارج و بأعمال ارهابية، لم تذعن. ثم حولوها الى الأمن السوري حيث اعادوا التحقيق معها وعذبوها بكل الوسائل وحاولوا إجبارها على الاعتراف بما طلب منها في أول تحقيق، وأن تنسب لنفسها ما لم تفعل. زجوا بها في زنزانة اكتشفت ان فيها جثّة معتقل سابق ، خافت كثيرا، استعانت على مخاوفها بتذكر أولادها وعدالة القضية التي تحملها. واستمرت صامدة. وبعد مضي فترة التحقيق تم تحويلها الى محكمة أمنية، وحكم عليها بالسجن تسع سنوات، لكنها لم تنفذ، حيث تم مقايضتها على أسرى للنظام عند الجيش الحر. تم نقلها الى دمشق بصحبة رجال الأمن ومن هناك تم ترحيلها إلى لبنان، ومن لبنان ساعدها والدها وأخاها على السفر الى تركيا. تواصل معها زوجها بعد خروجها من السجن، واعلن تخليه عنها وطلقها بسبب اعتقالها. كانت صدمة قاسية لها. زيادة عن ظلم النظام، هناك ظلم الزوج والمجتمع الذي نظر الى اعتقال المرأة وأنه عار عليها. استقرت في مرسين بمساعدة والدها واخوها. عملت بجد وجهد بالتدريس وأعمال أخرى واستقرت أخيرا في معمل خياطة تعمل به نساء معتقلات سابقات تخلى عنهم اهلهم والمجتمع. يدر عليها ماتعيش به مع اولادها الذين لحقوا بها بعد اكثر من سنة.

في التعقيب على حال رزان اقول:

كانت مأساتنا في ثورتنا أن الشباب المعتقلين ومهما حصل معهم من ظلم النظام اعتبروا أبطالا وهم كذلك واستمروا رمزا للثورة وتضحياتها وطهرها. اما الاخوات النساء المعتقلات سواء من الناشطات أو المختطفات من النظام وغيره من القوى التي ولدت على هامش الثورة تخدم اجندات خارجية معادية للشعب السوري وثورته. اعتبرن كلهن وصمة عار تنصل منها الزوج والاخ والاب، بعضهن ذبحن بيد الاهل، وبعضهن تركن دون أي إعالة للزمن الصعب، وبعضهن انتحرن… رغم انهن كنّ أشرف ما في ثورتنا؛ قاموا بالدور المطلوب منهنّ ومنّا كلنا في مواجهة نظام الاستبداد والظلم في سوريا. وحتى وإن تم التعدي على اعراضهن فهن في موقع الضحايا المغتصبات اللواتي يحميهم الشرع والقانون والعرف الإنساني… كلنا مطلوب منا رد الاعتبار لهؤلاء النسوة ضحايا الاعتقال والظلم رمز شرفنا المهدور…

مرة أخرى لهذا ثار شعبنا العظيم في سوريا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى